قد يكون غير مفهوماً ، بل ومُلتبساً لدى القارئ المتمعن عنوان المقاله ، فهو يجمع الضدّين في آن : الانسان والدوله ! الانسان بكل نوازعه الدنيويه ، الانسانيه التي حباه له بها الرب ، من جهه ، وبما أضاف لها هو ، أي الانسان لنفسه ، ككينونه مستقله ، ذات سياده ، خلال حياته . النوازع الالهيه للانسان معروفه ولا تحتاج إلى فحص DNK للتاكد منها. هي الانسانيه ، وهي الطيبه ، وهي الصدق والمروؤه ، وهي الرحمه وهي الفرح لفرح الاخرين من بني الانسانيه ، مهما إختلفت ألوانهم وأجناسهم ، وهي الحزن لبلائهم وبلواهم . هي التخلّق والابداع وإضافه يوميه للخيرات والنعم من خلال العمل ، والعمل وحده . أما تلك ” النوازع ” التي يضيفها الانسان لذاته ، فهي معروفه لدينا ، أعني العدوانيه والطمع في الرغبه على الاستحواذ على مالدى الاخرين من خيرات ماديه . هي الاستكبار، هي اللاأباليه تجاه معاناة الاخرين، هي اللانظام والفوضى وتأليه النفس ، هي … والقائمه تطول . ألمقاله ستتصدى لذلك ، وأرجو صبرك علي قليلاً . ألإلتباس الثاني يكمن ، ربما ، في أنني أهديت هذه المقاله إلى الاخ علي العضب . ماالرابط بينهما ؟ للقارئ الغير عارف أسوق له بعض المعلومه عن المُهدى إليه هذه المقاله . علي العضب، شاعر عراقي ومناضل شيوعي من البصره ، اعرفه منذ مايزيد عن الاربعين عاما ، في أوائل السبعينات من القرن الماضي ، عندما كنا في خضم النضال المنظم ، من اجل الديمقراطيه والحياة المقبوله ، على الاقل ، للشعب العراقي . ولك ان تتصور تلك الاجواء الدافقه في البصره آنذاك عندما كانت تحفل بشكل شبه يومي بالفعاليات الثقافيه والفنيه والادبيه ، من خلال نادي الفنون ، وجمعية الاقتصاديين والمهندسين وجمع من النوادي الليليه على الجانبين من شارع الوطني والكورنيش التي كانت ، ولا زالت ذكرياتها ، تبعث وتشيع الفرح والبهجه . في تلك الاجواء تعرفت على شاعر البلم العَشّاري ، ولكن عن بعد ، حسب متطلبات تلك المرحله . وفيما بعد ، وعندما إستعصى علي الامر في الحصول على موافقة مديرية الامن على تعييني في وظيفه في إحدى دوائر الدوله وتقديمي شكوى مباشره وشخصيه إلى سعدي عياش عريم ، محافظ البصره في حينها في يوم الاستقبال الاسبوعي في مكتبه ، وبحضور مفاجئ غير متوقع لمدير أمن المحافظه ماجد السامرائي ، ومن ثم إنتزاع هذه الموافقه بعد لأي ، واجهتني معضله آخرى وهي الحصول على وظيفه بعد التخرج من جامعة البصره . هنا كان دور( واسطة ) علي العضب في أن أحصل على وظيفة ( معاون ملاحظ ) في مديرية بلدية البصره عام 1972 ، فَلَهُ الشكر والعرفان وإن كان بأثر رجعي . ومنذ مغادرتي العراق ، الوطن ، عام 1973 ، للدراسه الاكاديميه ومن ثم إستطالة هذا الترحال إلى أربعين عاما ونيف لم نلتقي خلالها إلا في العام الفائت . وتشاء الصدف الطيبه ان يكون اللقاء في باحة جمعية الاقتصاديين في البصره الحبيبه بعد اربعين عاما في التمام والكمال ! لم يكن اللقاء لقاءً بدون إستذكار وإستحضار تلك الايام الفائته . وكان أن حدث تجمع عفوي من عدد من المثقفين حول طاولتنا، وجوه جُدد شابه ، بصراوية السحنه ووجوه اخرى ألقى الشيب على وجناتها مالايُحتَمل ومن ثم كان لابد من إستعادة ذكريات تلك الايام الخوالي . ولكنني توقفت لحظه في إستذكار تجربة سنغافوره ، عندما تهيئ لي الامر في مقارنة المبنى الجديد لجمعية الاقتصاديين في البصره ، جمعيتي التي أفتخر بل وأتمايل جذلاً في تفعيل عضويتي فيها من جديد ، بكل مافيه من مهابه وجمال وحسن تطلع وتفاؤل والوضع المزري المحيط بالمقر، من أوساخ مرميه بدون أي رادع، بل وان المنزل الذي يقع أمامها ويحجب فسيفسائها ، كما علمت ، إنما هو بناء عشوائي !! .. شعرت لوهله بالالم ، ولوهلة أخرى بالوجع الانساني الذي ينبع من حب البصره ولكل ما هو جميل .سائلت ذاتي ، دون مظنّه ، كيف هكذا تترك البصره بمثقفيها ، بعمالها في ميناء المعقل أو في حقل مجنون ، وهو مجنون حقاً ، ربما لانه أخطأ عنوان اين يجب ان يكون ، وبفلاحيها في نهرخوز والسيبه والفاو، وبِغِرارها الغوادي، السُمّرْ، اليَوافع ، اللذين يتدنى الشجر الصفصاف من سحر نواغجهن وتدلّل نظراتهن ومن تَهافت مايحمل القلب من ثقل مافي صدورهن !كيف ، وهذه الفوضى في كل زاويه .(ماخفّف) من ألمي إنني رأيت الصوره ذاتها في كل مكان زرته في بلدي ،العراق، بعد أربعين عاماً ونيف في حل وترحال ! … ذَهبتُ ، ضامِئاً ، كَدِيماً ، إلى شط العرب ، تَيممتُّ بمياهه الفواحة طيبة وبنفسجاً ، وأكلت سمبوسة أبو ألعباس ، وتَمضّختُ نَكهةً ، حتى التلذذ بالصُبور من السمك في موسم كرمه لساكنيه على جانبي الشط وتُرَعهِ ، وكأني به ، وهو في تضحيته هذه ، يحاول أن يبدد شيئاً من العبوس على وجناتهم الخجلى. وفي إحتفاليه مع جمع من أحبائي تَرشّفتُ مذاقاً حلاوة نهرخوز ، تلك الحلاوه ، التي خلدّت مذاقها وعطورها من ورد الرازقي ومن سُمر سَواقي تُرعها ، وإلتقيت عن طول إنتظار ، ياللعجب ، مع تلك الصبيه الخرساء ، التي لم تعد ، كما في عنفوانها، آنذاك ، تلك الغزالة ، النمروده ، وتمشيت ، تمايلاً ، في سوق الهنود ، وتَعبّقتُ ، خيلاءً ، عن قرب ، هواء الكورنيش وبيت بدر شاكر السياب في جيكور ، تلك القامه الشعريه ، التي يكفيها ، حتى ولو لم تكتب نواظم أخرى ، أنها خلدت إنسانية كينونيتها في بيت قصيد واحد : عيناك غابتا نَخيلٍ ساعة السحر .. أو شرفتان راح ينأئ عنهما القمر . ثم إلى أين ؟ إلى الحُسَينْ وطهارة مرقده وفسيفساء شهادته وروحانية مأثرته، وإلى والديّ في مثواهما الابدي ، حيث كان يمكن لي ، أخيراً ، أن أنهَلْ تلك الدمعه ، التي طيلة أربعين عاماً، طال إنتظار مآلها ، وإلى شارع أبو نؤاس ، الذي لم يعد يؤنس أحداً ، وإلى أطلال شارع الرشيد ، الذي لو عَرف ألرشيد نفسه عما آل إليه لقدم طلباً لتغيير إسمه عليه !.. هكذا إستحضرت تجربة سنغافوره . لماذا ؟ … لأن سنغافوره في عشية إستقلالها من ماليزيا كانت بالضبط ، بل وأكثر حالها حال البصره ، بل والعراق اليوم . تجربه ، منذ ان تعرفت عليها ،لم أكف عن قراءتها . لم يكفيني ذلك بل زرتها ورأيتها رؤيا العين وليس وحسب من الكتب والمراجع . سأحاول في السطور القادمه ان أفكك وأسترشف تلك العلاقه الازليه مابين العجز بين الطاقه والموارد ، أو وفرتها ، بل وأحياناً تخمتها ، والنقص، وربما هلامية الهمّه والاراده. لاادري ، ولكني هنا إستحضرت مقوله لهنري كيسنجر ، بطريارك الدبلوماسيه العالميه وعلم السياسه ، يقول فيها : “إن إحدى مفارقات التاريخ تكمن في إنعدام التكافؤ مابين قدرات بعض القاده والزعماء والإمكانيات التي تمتلكها بلدانهم”يبدو لي ، كما أظن ، أن لتلك المقوله لهذا السياسي المكيافيلي الداهيه ، أكثر من صله وموضوع مقالتي هذه . لنتمعن سوية في ذالك ، إن سمحت . إعتدنا ، نحن البشر ، يوماً بعد يوم ، على النقد والانتقاد للحكومه ، للقائمين على أمرنا. تلك نزعه مَشارقيه تضرب في القِدم جذورها ، أشار إليها إبن خلدون في ” مقدمته ” ، وأشبعها بحثاً عالِمنا الدكتور علي الوردي . لكن النقد ، اي نقد ، لايعدو كونه الخطوه الاولى في التصحيح . المهم طرح البديل العملي ، ذي القدره الفعليه على التغيير نحو الافضل . من واجبنا ، نحن ،الذين سنحت لهم الفرص ألتعّرف على تجارب بلداناً اخرى ، ان نعرض تلك الجوانب المشرقه منها ، لدراستها عن تمعن ، والإتعاض منها ، دون الدعوه إلى إستنساخها او تقليدها بالضروره ، وإن شئت فليكن ذلك إن تحققت مصلحة الجماعه في ذلك . مقالتي هذه ، تصب في هذا الاتجاه . هي مقاله ، اردت لها ان لاتكون أكاديميه ، فالمقام ليس مقامها ، بل معرفيه ، مبسطّه ، ولهذا فان منهجية السرد سوف تتوخى ذلك .في مقالتي هذه لمحات مِن وعَن تجربة سنغافوره ، تلك المستنقعات المتنافره ، التي كان من ألُمحال ان ترقى إلى دوله ، بالمعايير الاقتصاديه ، حسب تعبير مؤسسها لي كوان ذاته ، ولكنها ابت إلا ان تكون إلا ذاك . مقالتي هذه ، تهدف فيما تهدف إليه إلى التركيز والتمعن في مقولة دور الفرد ، الوحداني ، في قيادة هذه النخب المتنافرة المصالح والاهواء نحو هدف واحد ، وهو بناء دوله متقدمه ، مؤسساتيه ، لاتضمحل ولا تتهاوى بزوال هذا الفرد ، ألأُحادي ، الذي له الباع الاول في هذا البناء . هذا يعني ان هذا الفرد ، القائد ، قد قصَد من البدايه ان تتماهى ذاته ، الأنا ، مع مصلحة الجماعه . في ذلك ، وفي ذلك بالضبط يتمحور دور الفرد في صنع التاريخ . فالتاريخ ماهو إلا سلسله لامتناهيه من صنع الفرد ، الوحداني ، في مهارته وحذاقته في قيادة وترويض تلك الجموع ، التي نطلق عليها، تعارفاً ، إسم الشعب ، وبالمعنى الاوسع الأمه . ليس مهماً في صناعة التاريخ ، ان تكون الاهداف وبالتالي النتائج لعملية صنع وإنتاج الاحداث إيجابيه، تخلقّيه ، او ان تكون سلبيه هادمه للتاريخ ذاته وللحضاره . ذلك موضوع آخر ، له منهجيته الخاصه في البحث والتتبع ليس مقامها هنا . مقالتي الموجزه هنا تحاول ان تركز على الحاله الاولى، الايجابيه ، البناءّه ، في شخص السنغافوري لي كوان ، مؤسس وباني سنغافوره .أُسارع بالقول ، خوف المَلامه ، من انني لست من المناصرين الى إعلاء مقولة الفرد ، الأنا ، في صنع التاريخ ، معاذ الله . ذلك موضوع فلسفي ، تأويلي ، وتاريخي له مرجعياته ، ولكن ألا تتفق معي أنَّ فرداً ما ، في لحظةٍ ما ، يمكن ان ينتِجَ طاقه فيزيائيه ، بقيادته لهذه الجموع المتنافره ، إما نحو التخلّق والتقدم والخير ، وإما إلى الظلاميه والتخلف وهدم الحضاره الانسانيه . تلك حقيقه ناطقه ، بل حقائق ، وما عليك إلا ان تصبر وتتريث قليلاً في قراءة وإستنطاق التاريخ . الجماعه ، الشعب ، هي مجموعه وخليط يجمعها المكان ( الجغرافيه ) والاحداث المشتركه ( التاريخ ) وعلاقات القربى ، وربما أشياء اخرى ثانويه ، ليس إلا . بيد ان مايفرقها هي المصالح الاقتصاديه ، الدنيويه ، الماديه ، التي هي المحك الاساس في حركة الانسان وفعله اليومي . الاخلاق والقيم ترتد ، شئت أم أبيت الى المرتبه الثانيه ، واحياناً إلى مرتبه متدنيه ، منحطه عندما تتماحك مع المصالح الماديه للناس . قد تقول لي إنني مبالغ في الامر ! قد ! بيد ان سيماء يومية الحياة الانسانيه تقول غير ذالك . ثمة هذه المقوله لرئيس وزراء إنكلترا الراحل – تشرشل- ” من السُخْف ان تتّخفى من تلك الرصاصه التي إنطلقت للتو . لم تصبك ، هذا يعني إنها لم تقصدك ” . إختصرنا فلسفتها، نحن بني يعرب ، إلى ” قسمه ونصيب ” ! والحق ، هي ليس كذلك ، بل على النقيض تماماً. لنتمعن في ذلك في الرجوع إلى موضوعنا عن سنغافوره . لنبدأ من البدايه : سنغافوره ( المساحه 710 كم مربع وعدد السكان 5,5 مليون نسمه ) مستنقع آسن ، لاموارد طبيعيه ، لامياه عذبه ، بطاله بلغت نصف السكان ، تشتت أثني وديني ، فقر وتسّول وزباله ، فوضى ولا نظام … هذا هو حال سنغافوره عندما أعلنت الاستقلال من ماليزيا في 19 أب عام 1965 ! .هذا المستنقع تحول في وهله من الزمن خلا ثلاثين عاماً الى دوله ذات كل مقومات السياده ، يضمنها : إقتصاد متطور، جيش كفء ، قياده حازمه ، نزيهه ، لارشوه ولا مزابل في الشوارع . القانون والانضباط مهيمنان على كل مرافق المجتمع وعلى كل افراده ، لافرق في ذلك البتّه بين رئيس ومرؤوس مهما كان سلمهما الوظيفي . هذا هو الحال في سنغافوره . وإذا كانت ماليزيا ، الدوله المُستعمِره ، قد ضاعفت من الدخل السنوي لمواطنيها خلال عشرين عاماً بعد عام 1965 بعشرين ضعفاً ( 12 ألف دولار )، وهي نسبه معتبرَه بحد ذاتها ، فإن سنغافوره لذات ألفتره ضاعفته ب 80 ضعفاً بالتمام والكمال ( 31 ألف دولار ) ، وفوق ذالك أضحى الدولار السنغافوري في عداد العملات الصعبه على المستوى العالمي . وسنغافوره الآن هي خامس مرفأ بحري في العالم من ناحية الحركه والدخل ، ورابع أهم مركز مالي في العالم والثاني في آسيا ( بعد هونكونغ ) . وعلى الرغم من ان سنغافوره ليست لديها أية موارد طبيعيه إلا انها تحتل المرتبه الثالثه في العالم في معالجة وتكرير المنتجات البتروكيميائيه بعد هيوستن في الولايات المتحده الامريكيه وروتردام في هولندا ، ويعمل في سنغافوره اكثر من 115 بنكاً عالمياً بإستثمار وسيوله منضبطه بأكثر من 850 مليار دولار أمريكي . والرقم الاخير يعني ان لدى سنغافوره فسحه هائله في القيام بإستثمارات ومشروعات تنمويه بمليارات الدولارات ، من خلال إستخدام وتشغيل تفعيلي لهذه الودائع ، دون أن تخشى المخاطره ،أو شحه في التمويل الاستثماري ، بسبب الثقه العاليه لاصحاب هذه الودائع في النظام المالي لهذا البلد. لقد توحدت هذه المدينه – الدوله بسكانها من الملاويين والصينيين والهنود والاسيويين نحو هدف واحد وهو تخليق دوله علمانيه متقدمه ومُرفهّه . إستقلال بنّاء ، تخلقي ، وليس إستقلال يُضفي إلى تخلف وتشرذم وعوده إلى جاهليات السراويل المقصّره وسبي الحرائر .أكمل ” لي كوان ” دراسته العليا في بريطانيا ، وأشرف شخصياً على إستقلال وطنه من ماليزيا عام 1965، وأصبح أول رئيس وزراء لسنغافوره بعد الاستقلال وأُنتخب ل 8 مرات متتاليه إلى ان إستقال وترك السلطه طواعية ، أُؤكد طواعية عام 1990 ، وودعته الملايين إلي مثواه الاخير في 23مارس عام 2015 عن عمر 91 عاماً .بادئ ذي بدء إعتمد لي كوان في بناء الدوله عقيدة إحلال النظام والانضباط في المجتمع ، وفي هذا يقول ” لااعتقد ان طريق الديموقراطيه تؤدي إلى النتيجه ، بل أرى ان البلد يحتاج إلى النظام اكثر من الديمقراطيه ” . قد تتفق أم تختلف مع الرجل ، ولكنه إنطلق من حقيقة انه في مجتمع تسوده الفوضى والأميه وعدم المسؤوليه فالاولويه إلى ترويض هذه الجموع ( الرعاع ) وضبط إيقاع حركتهم اليوميه بدلاً من توجيههم إلى صناديق إقتراع لايفقهون منها شيئأً سوى التصويت لُِأناس غير نزيهين بل وسرّاق المال العام . إبتدأ لي كوان هذه المهمه بالتصدي لظاهرة الرشوه والمحسوبيه والواسطه ، وهي ظواهر وجزء لايتجزأ من التقاليد الشرقيه الاصيله على مر الازمان . تم في لحظه واحده حل جهاز الشرطه بالكامل فإعادة تشكيله من جديد وعلى اسس جديده لم يعهدها السنغافوريون . مقدم الطلب للالتحاق بالجهاز الجديد عليه ان يثبت ليس فقط حسن سيرته و” نظافته ” بل وحسن سيرة جميع أفراد عائلته . ثانياً ، تم تفعيل المكتب المركزي للنزاهه بحيث مُنح صلاحيه وحمايه دستوريه في ان يتعقب اي موظف حكومي ، مهما كانت درجته ، إذا مالاحظ انه يعيش فوق مستوى دخله الوظيفي . ليس هذا فقط بل عليك ايها المواطن ، بحكم القانون ان تقدم لمصلحة الضرائب طواعية وفي أجل لايتجاوز الشهر عن مصدر الدخل الذي مكّنك من شراء بيت او سياره وما إلى ذلك من المكونات القيميه الاخرى . إن لم تفعل ذلك في الاجل المحدد ستحال على القضاء ، وإن ثبتت لاقانونية الدخل ، يصادر العقار أو السياره وماإلى ذلك ، وفي كل الاحوال ، سواء كنت نزيهاً من عدمه ، فانك ستدفع غرامه معتبره لانك لم تبلغ السلطات في الاجل المذكور . تم في هذا الاطار إنهاء علاقة المواطن ( المُراجع ) والمسؤول وإحلال علاقة المواطن بالدوله . بمعنى انك ، أيها المواطن سوف لن تعرف البتّه من هو المسؤول عن البت في معاملتك في أروقة الدوله . معاملتك تأخذ سياقها وروتينها وفق القانون ، وبهذا تنعدم اية إمكانيه أو فرصه لتقديم الرشوه . هذا مامعمول به ، بالمناسبه ، في الدول الاوربيه ، عدا القليل منها . جاء الدور حول الانضباط . بمعنى كيف يمكن ان تحّول هذا الجمع المتنافر المصالح والاهواء وتفكيك حالة الأنا المتوغلّه حد المطواة في الذات السنغافوريه ، وليس فيها وحسب ، بل ولكيما تصهرها من جديد وتحولها إلى طاقه خلاقه ، بناءّه ، لمصلحة الجمع ذاته . كيف ؟ أقول لك من خلال المثال السنغافوري التالي : البدايه كانت من الشارع ! كان التوقف عند الاشاره الحمراء مثار تَندُّر وإستخفاف السائقين . صدر أمر بمصادرة السياره ، أو بدفع غرامه تعادل القيمه السوقيه لها للمخالف . إنتهت المخالفات فوراً. كان لابد أيضاً ، وفي السياق ذاته ان ينتظم المواطن في إيقاع حركته ونشاطه اليومي في إحترام القانون . تجاوز الاشاره الحمراء للمُشاة ، حتى في الشوارع الضيقه ، يعني لامحاله انك ستستلم إشعاراً مهذباً في ان عليك ان تدفع ، خلال اسبوعين لاأكثر ، غرامه تعادل 75 دولار ( 60 دولار أمريكي ) . لم تدفع ، سوف تُضاعف الغرامه ، أولاً كمتواليه عدديه ومن ثم متواليه هندسيه . هكذا وقفت أنا بالذات مُتسّمِراً أمام الاشاره الحمراء ووقف الناس الاخرون، بتبرم أو بدونه ، في شارع غير ذي سعه في سنغافوره . قد تسأل كيف يتم ذلك في غياب أي حضور ملحوظ من رجال الشرطه في الشارع ؟ الجواب يكمن في رصد كاميرات المراقبه ، المثبته في كل مكان ، ربما سوى في مخادع النوم ! قد تعترض جمعيات حقوق الانسان على ذلك ، ولكن السيد لي كوان قال النظام أولاً وآخيراً . وفي هذا توكيد لحقيقة انه لايوجد فرق بين الحياة البريه للكواسر وبين الحياة الانسانيه لبني البشر . من حيث الجوهر هي واحده . الاختلاف يكمن في ان ثمة قوانين وضعيه تُؤطِّر الفعل الانساني ، ولا يوجد مايقابلها في عالم الحيوان . إذن نحن من طين وأكسير حياة واحد . الخطوه الاخرى كانت إتخاذ إجراءات لاستكمال النظام بإشاعة البهجه والجمال والنظافه على المحيط والبيئه . هكذا صدرت عقوبات رادعه لمن يرمي الاوساخ أو العلك( اللبان) أو ، لاسامح الله ، البصاق في الشارع ، وهلمجرا . وعلى الرغم من ان لي كوان رفع شعار لارشوه ولامُرتشين ، إلا ان النفس أمارّه بالسوء والخديعه والارتزاق على حساب الاخرين . وهنا بالضبط وُضعت عقيدة تطبيق القانون على الجميع ، دون إستثناء، على المحك والمصداقيه. هكذا كان في حالة السيد ( أدفين يو ) الرئيس السابق لمكتب النزاهه ومكافحة الفساد المالي . فعندما ثبت بأنه قام ب 372 (زياره) ، موثٍّقه بالطبع ، لكازينو لعب القمار ، وفي انه قد خسر فيها بالاجمالي 400 الف دولار . وعلى الرغم من أن الرجل أقّر بذلك وأعاد ألى الخزينه كاملاً ماسرقه من المال العام ، ألا ان ذالك لم يشفع له وحكم عليه بالسجن لمدة عشرة أعوام بالكامل . لماذا ؟ لأنه خالف ماده جنائيه آخرى ، والتي بموجبها تلزم المواطن بإبلاغ مصلحة الضرائب عن إرتياده لكازينو لعب القمار والمبالغ التي كسبها أو خسرها. صاحبنا لم يفعل ذالك . وعندما أُكتشف وزير التنميه ( تي سزيفان ) بإستلام رشوه ، قُدم للمحاكمه فوراً . لكنه ، كان حاذقاً ، لم ينتظر المحاكمه ، إنتحر وخلّص نفسه . وعندما قرأت مؤخراً انه في الصين حينما تبين ان احد المسوؤلين الكبار في الدوله يؤطر معصمعه بساعة قيمتها أربعة عشر ألف دولار ، أحيل إلى لجنة النزاهه ، وحيث انه لم يستطع إثبات مصدر رفاهيته حُكم عليه بالسجن لمدة أربعة عشر عاما ! إي نعم ، سنه سجن لِقاء كل ألف دولار من المال السُحتْ ، لم يخطئ ظني في ان بلاد المليار نسمه ونيف قد أحسنت إستلهام تجربة جارتها الاسيويه . بربك ، ألا تقف إجلالا لهكذا دوله وهكذا نظام ! والشي بالشئ يذكر ، وأنا المولع حد الثُماله ، بقراءة التاريخ ، ألم يكن هكذا هو الحال في زمن عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وعمر بن عبد العزيز ؟أستدرك بالقول إنني عن عمد ، وليس عن خباثه ، أمسكت بالمؤخرّه قبل المقدمه ، أي بالخبر قبل المبتدأ ، حيث إبتدأت بالعقاب قبل الثواب ، وليس العكس ! ذلك ليس عسفاً أو تطاولاً أو عدم درايه ، أو ربما إتساقاً مع الروح الشرقيه !! لا ، ليس هذا أو ذاك ، وإنما هو قراءه فعليه للعقيده ” السنغافوريه ” ، التي وضعها لي كوان ، وأحكم قبضته في تطبيقها على شعبه ، والتي تقول بأولوية الواجبات ، ومن ثم الحقوق ، وليس العكس . تذكرت هنا، إننا في التدريس الاكاديمي على مستوى الجامعه ثمة فصل خاص في الاقتصاد الجزئي Micro economy نُدرِس فيه للطلاب منهجية المدخلات والمخرجات Input-output ولم نقل العكس . والحق ، فإن هذه العقيده الاجتماعيه في قيادة الدوله والمجتمع هي السائده في دول العالم ، الذي يحلو لنا ، دون تبصّر ، ان نطلق عليها مسميات من مثل ” متحضره ” أو ” راقيه ” أو توب توب !! والحقيقه أنها ليس هذا أو ذاك . هي مثلنا ، ذات الجينات التخلقيه التي مازال علماء الاحياء والفلسفه ، على السواء ، في حيره من مصدر غلوائها وتضاداتها ولاإنسانيتها . السر، مَولانا ، يكمن في قوة القانون . السر ، يكمن ، في انها ، إنما رُوضِت وإستُونِسَت بفعل تلك اليد الطولى ، التي نسميها السلطه ، القانون ، والحزم القاطع في تطبيقه على الجميع . العبرّه تكمن في تفقّه فلسفة الرجوع إلى آخر ماتوصل إليه فريق من العلماء من ان النمل في مستعمراته تحت الارض يستنكف ان يتناول أي غذاء قبل ان يقضي ساعات طوال في نقل وحمالة مالذ وطاب من الخيرات إلى مستعمرته . العجب، انه في هذا الرواح والإياب اليومي لهذه الملايين من جيراننا الكادحين ، سوف لن ترى أي تصادم ، أو أية عرقله لاحدهم للآخر. الكل في إنسيابيه وخفة ظل ، رغم غياب أية إشارات مرور حمراء أو خضراء وذلك اللون الاصفر ما في بينهما ! لقد كان سليمان الملك في امثاله وتعاليمه عن الحكمه ليس بغافل عن ذالك حين عبّر بدقه فلسفيه عن ذالك بقوله ” النمل جماعه لاقوة لها ، لكنه يُهيئ في الصيف طعامه ” – الكتاب المقدس ، الطبعه الاولى ، بالعربيه عن جمعية الكتاب المقدس في لبنان ، 1993 ، صفحه 824 – وفي القرآن الكريم ثمة سوره باسم سورة النمل ، ولم يكن ذالك قط إعتباطاً ، بل تكريماً إلاهياً لهذه المخلوقه ، المُنتجه ، الولّاده ، ولم يغفل فيلسوف الاسلام الاكبر ، أعني به الإمام علي إبن أبي طالب ، تفقّه حياة النمل عندما ذكر في إحدى خطبه ” أُنظروا إلى النملَةِ في صِغرِ جُثَّتِهَا، وَلَطَافَةِ هَيْئَتها، لاتَكَادُُ تُنالُ بِلحظ البصر ، ولا بِمُستدرَكِ الفِكر، كيف دبَّتْ على أَرضِها ، وصُبَّت على رِزْقِها ، تنقلُ الحبَّةَ إلى جُحرِها، وتُعِدُّها في مُستقرِّها . تَجمعُ في حَرِّها لِبَرْدِها ، وفي وِرْدِها لِصَدَرِها، مَكفُولُ بِرِزقها، مَرْزُوقَةُ بِِوِفْقِهَا … ” ( نهج البلاغه 361-362 ) ، عند ذاك يصّح ويحق لها ان تتناول ماتريد بعد يوم العمل هذا . عند ذاك يحق لها ولإقوام جنسها ان تستغرق في نوم عميق ، ذي أحلام ورؤى ، إلى صبيحة يوم العمل التالي . سوف لن يدر في خلدها قط انها ستتلقى ، لقاء كدحها أية “مكرمه” من السيد الرئيس القائد ، أو ان يضحى بعضها من ضمن زمرة “أصدقاء ألرئيس” !!.. يالِسفاهة أولئك ، الذين إبتكروا ، لِفَدمهم ، تلك المقولات . هنا في سنغافوره ، في أوربا ، سوف لن تتلقى قط كلمة شكر لأنك أديت عملك . ذلك واجب . أعني بالامر ، بداهة ، اولئك ، اللذين يعملون وليس اولئك اللذين يقفون بلاهةً في طوابير المساعده “قل الصدقه” الإجتماعيه ! أولئك ، وما أكثرهم ، لهم ثواب ومثاب آخر ، ذي منهجيه مغايره !! هم ، أولئك اللذين أعنيهم ، يعرفون ، ويالخيبتهم ، ذالك .الآن ، حان لي أن التفت ، في بضع سطور ، إلى مبتدأ الكلام وإلى مقدمته ، كما أسلفت أعلاه . هكذا تم إعتماد سلم مغري لمرتبات موظفي الدوله ، خصوصاً تلك الاجهزه ذات التماس المباشر مع مصالح الناس والسهر على أمنهم . يكفي القول ان المرتب السنوي للقاضي يبلغ مليون دولار سنغافوري ( 750 الف دولار أمريكي ) ، ويتمتع منتسبي الشرطه والامن بحوائز ماديه هائله إلى جانب مرتباتهم العاليه. كان ذلك لوضع حاجز مادي مناعي مُحصّن ضد الرشوه والمحسوبيه . هذا يعني أن إستلام رشوه، في لحظه من ضعف إنساني ، تفضي لامحاله إلى فقدان هذه الامتيازات كاملة ، ولا تعفي متلقيها ، فضلا عن ذلك ، من العقوبه الجنائيه . كانت المعضله الاخرى بعد الاستقلال ،التي تصدّى لها لي كوان، والتي تستوجب الحل ، بدون إبطاء أو تسويف ، هي مشكلة السكن . عشوائيات في كل مكان ، فوضى عارمه ، جوع وتسّول ، غياب مصطلح ملكيه عقار ، إلا للقادرين على ذالك . في عام 1970 كان 90% من سكان سنغافوره يعيشون في بيوت مؤجرّه ومتهالكه ، وفقط 9% في شقق مملوكه. الان فأِن 97 % من السكان يتملكون شققا خاصه بهم . كيف تحقق ذالك ؟ كان أن أُعلن مبدأ : سكن مُلك للجميع . أنشأت الدوله من الميزانيه الحكوميه ، المعتمده أصلاً على الضرائب ، صندوقاً سياديا خاصاً ، تقدم بموجبه 30% لتمويله ، وفي نفس السياق فإن هذا الصندوق ألزم كل سنغافوري ان يقتطع من راتبه 20% لتمويل هذا الصندوق . بمعنى إقامة تعاونيه شعبيه على نطاق الوطن لإشاعة التملك . هنا يحضرنى تلك المناجاة التي ماإنفك يوماً طيلة حياته المبتسره العالم والمفكر العراقي الراحل هادي العلوي، والتي ، وياللعجب وهو المفكر اللاإقتصادي في التخصص ، إستطاع عن درايه فلسفيه ان يمسك تلابيب فن وعلم إدارة المجتمع ، بدعوته ، التي لم تلق صدى ، في إشاعة التعاونيات وغيرها ، وغيرها . سنغافوره ، لحسن طالعها ، أقامت تعاونيه شعبيه لتمويل التملك العقاري . في بلوغ هذا الهدف تم إلزام البنوك بتقديم القروض للمواطنين ، الراغبين في التملك ، بنسب فائده متدنيه . في ذلك فقد ضربت مجموعة عصافير ، كما يقال ، بحجر واحد. قروض ميسره أضفت ألى تسهيل التملك العقاري وحل مشكلة السكن ، وثانياً إقامة مناعه إقتصاديه ضد التضخم وإرتفاع الاسعار . التضخم ونسب الفائده المتدنيه على القروض ضِدان لايجتمعان قط . بديهيه في علم الاقتصاد . ليس هذا وحسب ، بل ان هذا الاستثمار العقاري ( الذي مصدره القروض الاستثماريه الميسره ) حفزّ بأليته النمو الاقتصادي الكلي . هكذا فإن سنغافوره عملت على ألا يكون دولاراً واحداً مودعاً في بنوكها بدون عمل ، شغّلته ، وبكفائه . وفق ذلك تم إشاعة بناء عقاري للسكن على مستوى البلاد من 25 طابقاً ، وفق رقابه قانونيه صارمه ، ولم تسمح الدوله للقطاع الخاص للاستثمار في السكن إلا في عام 2005 بعد ان تملك 97% من السنغافوريين لسكن ، بتملك كامل ، خاص بهم . أحاول ان أختم ، ببضع سطور ، مقالتي هذه ، للتطرق إلى أهمية العلم والبحث العلمي في التجربه التنمويه السنغافوريه . أعلن لي كوان شعار : ألاولويه للعلم وللتحصيل العلمي ومن ان ” الفقر لايحول ابداً من أن يتمكن أي معوز من ان يكمل تحصيله الجامعي ” . تم ترجمة ذلك عملياً في ان إجمالي إنفاق الدوله يبلغ اكثر من 20% في الموازنه الماليه السنويه ، وهي أعلى نسبه في أسيا ، وتحتل الطليعه سوية مع بضع قليل من بلدان العالم . أعتمدت اللغه الانكليزيه ، لعالميتها ، اللغة الرسميه الاولى . ويُعفى المتوفقين وآولئك ألُمنهين دراساتهم الجامعيه والعليا في أوانها، من المصاريف الدراسيه ( بالمناسبه هذا مامعمول به في هولندا وفي بضع اخر من الدول الاوربيه ) . وحسب تصنيفات ( اليونسكو ) فإن الجامعات السنغافوريه تُصنف من ضمن أرقى الجامعات في العالم وشهاداتها الجامعيه مُعادله على ذات المستوى مع نظيراتها الاوربيه . وعندما تذمرت الفتيات من ان التحصيل العلمي العالي كان من شأنه إنصراف الفتيان عنهن ، بسبب إنشغالهن بأمور العلم ، أصدر لي كوان قراراً حكومياً ملزماً ، بموجبه نصّ على ان من يتزوج من فتاة ذات شهاده عليا يحصل على علاوه نقديه تضاف إلى مُرتبه . تصوّر، جنابك ، ماأثر هذا القرار ؟ هكذا..فأنتِ ، أيتها الحلوّه ، الشفافه ، في الرُؤّى والاحلام ، وذات المقاييس النَوارِسيَّه ، سوف تُضيفين ميزه جديده إلى رصيدك هذا ، عندما تكملين تحصيلك الجامعي فما فوق ، دون أن تخشين من العنس ، فمِن مِن بني فصيلتنا الرجاليه من لايرغب في ان يقترن بفتاة في مثل هذه الاوصاف ؟ من ؟ لاأحد ، حسب علمي !الحديث ، عن ، وحول ، هكذا تجربه مُغري للكاتب ، وربما وللقارئ أيضاً، كما أظن ! بيد ان فسحة المكان لهذا المقاله محدّده ، ولهذا ساكتفي بما أوردته ، عسى أن اكون قد وفقت في عرض ماأردت عرضه . غايتي الاولى الاستفاده منها في إعادة بناء وطننا،العراق ، على اسس حضاريه ، علمانيه ، غايتها الاولى والاخيره مصلحة الغَلابه ، لامصلحة البعض ، مصلحة تلك السواعد السمر ، من الشغيله ومن المثقفين ، وما أكثرهم . مصلحة العراقيات، أمهاتنا وأخواتنا ، فليس من العداله بشئ ان يستمر نزيف تضحياتهن إلى اللامنظور !