أطلقت الامارات العربية المتحدة مسبارا الى المريخ في سابقة علمية فضائية تسجل لها وهي تكسر قيود التاريخ كما اطلق عليها الكاتب حسن إسميك في مقاله ( في سيرة المدن التي كسرت قيد التاريخ: “أبو ظبي نموذجاً”) والذي تحدث فيه عن التطور الكبير الذي شهدته الإمارات العربية المتحدة وذروته في إطلاق مسبار إلى المريخ، وقد اعادني الحدث والمقال قليلا إلى التاريخ غير المقروء بل المشهود، وتحديدا منذ تأسس هذا الاتحاد الفيدرالي الاختياري بين إمارات مترامية ومشتتة هنا وهناك قبل نصف قرن، وبقيادة رجلٍ حكيمٍ لم يتخرج من جامعة أكسفورد أو من أكاديمية ساندهيرست العسكرية الملكية البريطانية ليكون جنرالاً ينقلب على رفاقه بانّقلاب، ولم يكن رئيس حزبٍ يتآمرُ مع مخابراتٍ دولية لكي يتسلم مقاليد الحكم، أو يزور الانتخابات لكي يفوز ويتحكم برقاب عباد الله، ولم يعرف عنه انه رجل دين او عالم فقه أو امام معصوم، بل كان انسان (ملئ هدومه) كما يقول الاخوة المصريين، إنسانٍ عفويٍ حكيمٍ مخلصٍ لنفسه ولقيمه وللوطن الذي ينتمي له، أنه الإنسان زايد، الذي تعجب ذات يوم من أن لا يكون لفردٍ من أبناء شعبه بيتاً يملكه، ومن هنا بدأت الحكاية، وضع اصبعه على مكمن الجرح في هذه الأوطان التي تفتقد للانتماء اليها كمسكن، من هنا كانت النبضة الأولى بل القدحة التي اطلقت فيما بعد مسبار الامارات الى المريخ!
أنه الانتماء للوطن بملكية دار السكن!
وما بين دار السكن والانتماء للوطن تسلل الروائي جورج أورويل الى الفناء الداخلي للدار ليدرك أي مواطن يسكن فيه وتحت أي حكم يعيش في هذا الوطن المقهور بكاميرات وعيون روايته (السيد الرئيس) المزروعة في كل الشوارع والازقة وربما حتى في غرف النوم، حتى أدرك في روايته 1984 شكل الأنظمة التي تحكم هذه الشعوب المغموسة بالتاريخ وفتوحاته وسبياه، ثم ما لبث ان أسس مملكته أو جمهوريته بعد تلك الرواية في (مملكة الحيوان)، لكي يعطينا نموذجاً لمن يحكم بلداننا خارج دائرة الإنسان.
في دول الوطن التي خرجت عن جمهوريات اورويل، واكتشفت ان الانسان يبحث في البدء عن مكان يأويه، فكان الكهف ثم تطور حتى أصبح وطن، وفي الوطن كانت الحلقة الاولى في الانتماء، شعر مؤسس دولة الامارات ان البداية في احترام الوطن والانتماء اليه هو سكن يليق به ومدرسة تليق بأطفاله، ومشفى يستدركه اذا مرض، ومستقبل آمن اذا توالت سنين العمر، ومنها انطلقت وفتحت أبو ظبي أبواباً ومساراتٍ إلى العلى، بينما في وطني الذي قامت على اديمه اقدم حضارات البشر ما تزال انياب التوحش غائرة في جسده، وفي مدينتي سنجار أو شنكال بكوردستان العراق، والتي قال عنها المؤرخ والآثاري الأمريكي سيتون لوئيد في كتابه (انتصار الحضارة) ان أهاليها اسسوا أول قرية زراعية قبل سبعين الف عام، نعم سبعين الف عام، وعلماء الحضارات يدركون ماذا تعني بناية قرية ودورا للسكن وحقولا يزرع فيها القمح، سبعون الف عاما من التقدم والتطور لم تمنع أصحاب فلسفة ( التوحش والغزو) من اقتراف اكبر جريمة بحق الانسان والادمية، ففي الثالث من آب أغسطس 2014م انّهارت عند أبوابها حضارة آلاف السنين من تطور الإنسان النوعي والثقافي والسلوكي، بل ونسيت كل معاناة البشرية وتعب علمائها في كل مجالات الحضارة حينما داهمتها مجاميع من المتوحشين الآدميين، لكي يهجموا الدور على ساكنيها ويحرقوا حقولهم وحنطتهم حتى التي تحجرت منذ الاف السنين، قتلوا كل الذكور العزل الذين وقعوا في اسرهم، واستعبدوا آلافاً من الصبية والأطفال، ولم تشبع غرائز القتل والدمار في دواخلهم فسبوا آلافاً مؤلفة من الصبايا والنساء، بل وأسسوا لأول مرة بعد مئات السنين من المدنية اسواق النخاسة لبيع وشراء النساء في واحدةٍ من أقذر ما شهدته البشرية في العصر الحديث من سلوك يندى له الجبين!
إن ما حدث في سنجار والموصل واطرافهما جعلنا ندرك تراكماً تاريخياً من السلوك الاجتماعي والسياسي التي فرضته الأنظمة الحاكمة منذ قرن الزمان، والتي كانت تعتبر الإنسان المختلف دينياً ومذهبياً وقومياً من الدرجة الثانية أو ربما بدون أي درجة، فهو ما لم يكن عبداً لها لا يساوي حتى ثمن الطلقة التي يعدم بها رمياً بالرصاصة التي كانت تستحصل قيمتها من ذويه، بينما كان الاخرون يعملون من أجل تمليكه داراً للسكن، نعم دارا للسكن، لم نكن نطلب منذ البداية الا دارا للسكن، لكنهم رفضوا ذلك واعتبروه تمردا وعصيانا وانفصالا، فبدأت دوامة العنف ونافورة الدماء طيلة أكثر من سبعين عاما، تصلبت فيها العبرات في الانفال وتاهت الأوطان في حلبجة وتوقفت الحياة في أكثر من خمسة الاف قرية حينما دفنوا سكانها احياءً في صحراوات العراق ليتوقف معها الانتماء!
حينما فشلوا في ابادتنا ومنعنا من بناء دار للسكن، شنوا غزواتهم المعروفة بالأنفال مستخدمين ذات الاسم القرآني لأبادتنا، وحينما فشلوا عادوا الكرة ثانية، لكن هذه المرة دونما استنفار قومي بل استخدموا ظلال راية الإسلام والقرآن، ليؤسسوا من جماجم أطفالنا (الدولة الإسلامية في العراق والشام)، ويخطفوا اكثر من ستة الاف صبية وامرأة كسبايا بعد أن قتلوا اضعافهم من الرجال والشباب والفتيان، وما تزال اكثر من ثلاثة آلاف امرأة كوردية إيزيدية مسبية ومستعبدة من قبل من ادّعى أنه يمثل الرّب وشرعه ودستوره في مقاتلة غير المسلمين حتى يؤمنوا بدينهم وإلا فدماؤهم مُباحة ونساؤهم مسبية وأطفالهم مستعبدة، لاحظ أننا في العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين، والمفجع إن كل هذا حصل أمام مرأى ومسمع كل دول المسلمين ومجتمعاتهم وقادتهم ملوكا ورؤساء وامراء وأئمة وشيوخ عشائر ومنظمات مجتمع مدني، لكن وبمرارة لا توصف لم نسمع أو نرى رفضاً علنياً ولا تظاهرة مضادة ولا تحريماً لما جرى من جرائم بشعة وسلوك منحرف لم تشهده المجتمعات البشرية المعاصرة.
بعد كلف هذا كيف إذن لنا أن نتوقع نهوضا لبلدٍ بهذه التراكمات من الجرائم بدءاً من الأنفال والمقابر الجماعية ومروراً باعتبار الكورد من جنس الجن، وانتهاءً بإبادتهم، كونهم من الإيزيديين!؟
لقد كسروا عند أبواب أبو ظبي قيود التاريخ، وارتحلوا الى المريخ، وعند بوابات مدينتي سنجار في كوردستان العراق استخدم المتوحشين تلك القيود ليحطموا جماجم الأطفال ويقيدوا النساء بسلاسل ارثهم الرث في أسواق النخاسة، بل ليحرقوا كل ما له علاقة بالحضارة والمدنية، ثم ارتحلوا الى دهاليز التاريخ وتركوا لنا جروحا لن تندمل، ودار سكن مهدد بالحصار وقطع الارزاق!؟