22 ديسمبر، 2024 8:45 م

سمفونية (جمالة) على أنغام (يا أم عيون حراقه )

سمفونية (جمالة) على أنغام (يا أم عيون حراقه )

فضاءات الأمل تفتح ذراعيها على نوافذ الأحلام المهاجرة إلى الأحياء الساكنة خلف الأزقة الضيقة والشوارع الترابية، ولتكون صداقة أبدية بين الوجوه السمراء القادمة من أقصى الجنوب حيث الأمل غفا بين عيون الفتيات الناعسات، وهن يداوينَ نار الهوى ببعض الأغاني، والنظرات المسروقة من خلف كواليس الحياء. هنا اخُتزلت كل هذه الأشياء، وتم إعادة صياغتها لتفتح دفاتر العشق المخبئة بين جدران الممنوع. أنهم عصافير السماء المغردة التي تحاول إعادة تلحين الحياة وفق نمط يشتهي الخجل، والكحل في عيون الصبايا في مدينة تناغم فيها التضاد والمفارقة لدرجة أنهما سارا في خط مستقيم لا يفترقان.
يعد ذو البشرة السمراء ملح المدينة وروحها المفعمة بالتفاؤل والأمل رغم مصاعب الحياة، ولعل التضاد من أساليب لمواجهة المشكلات والتغلب عليها، مبدأ اقرهُ خبراء علم النفس اليوم، وأشادوا بنجاحه في المواجهة. ربما أتقنت (جمالة) أو(جمالة الكوالة) كما يحب أن يطلق كثير من يعرفها، هذا الفن وهي واحدة من اللاتي منحهن الله صفة الجمع بين الطرافة والخفة الدم مع القدرة على التحكم بدموع الآخرين، ولاسيما أنها بحكم عملها أتقنت هذا الفن الذي يدر عليها مالاً جيداً في سنوات كانت نعوش الشباب تأتي من ساحات الموت المجاني محمولة على سيارات الأجرة الحمراء .
تقوم (جمالة) عادة بجولة في أزقة المدينة حاملةً مبكر الصوت اليدوي لتقتحم المآتم العزاء عل حين غرة من أهلها، وما عليها سوى جمع بعض المعلومات البسيطة عن اسم المتوفى وعشيرته من اقرب صبي تصادفهُ في الزقاق. تحظى لقاء هذا العمل مكافأة مجزية مع وليمة دسمة فضلاً عمّا تدسه من لذ وطاب في جرابها. ولكون (جمالة) عمياء كان عليها أن تصحب من يقودها في هذه المهمة، وعادة ما تعمد على احد أبناء أخيها الذي هو الآخر يحاول قدر الإمكان ابتزاز عمته، ورفع سقف مطالبه ببعض المال والطعام الذي خبأتهُ بعيداً عنه.
تمتاز(جمالة) بحلاوة الصوت وإيقان كل فنون الحزن والفرح معا، ولعل أكثر ما يشد الانتباه ضخامة جثتها، وطولها الفارع الذي يصل إلى مترين بقليل. استغلت هذه المرأة صفاتها في كسب قوتها، فهي لا تخرج وألا تعود قد حُملت بالأعطيات على مختلف أنواعها. وكما هي مبدعة في الحزن، فأنها كذلك في أوقات الفرح، ولعل عرس ابن أختها كانت بمثابة فرصة لها لإظهار بعض تلك المواهب التي يجهلها كثير من الناس، ولا يعرفها سوى الخواص. ففي ذلك اليوم لبست (هاشميها) المزكرش اللماع، وهو يسحل وراؤهُ الغبار المتطاير من شوارع المدينة الترابية فضلاً على ما أحدثتهُ (دبجتها)الثقيلة من هزةٍ وأثرٍ جعل أهل الطرف ينظرون إلى إيقونة في الرقص الشعبي تختال بكل رشاقة، ودلال متحديةً فقدان البصر. فقد كان هذا العرس فرصتها في تعليم الأخريات – لاسيما العواذل منهن – كيف يكون ( الردح) على أصوله. وأكثر ما آثار غيرتها، وجعلها (تذب لحم) تلك الأهزوجة التي أطلقتها أحدى أخواتها السمراوات “على عناد عماته، لعبن لعب خالاته”، حيث صالت وجالت كأنها بيرق (عراضة) لا يعرف الانحناء. كل شيء فيها يرتعش ،الرقبة ، الأرداف ،ومؤخرتها التي لا تتوقف عن الدوران كعصفور بللهُ القطر. هذه المرأة لها قدرة عجيبة على تحرك جسمها بطريقة سحرية لا يتقنها ألا القليل، لدرجة أنها أسقطت كل من كن جارينها في الميدان، ولعل كانت سيدة العرس الأولى دون منازع. استمع أهل المنطقة بما قامت به (جمالة) فهو حدث لا يتكرر سوى في العمر مرة ،ولكنها أردت بهذا العمل أن تطرد شبح الحزن والكآبة اللذان يجثمان على أجواء تلك الحقبة الزمنية حيث طاحونة الحرب التي لا تتوقف على التهام الشباب .
(جمالة)صاحبة مزاج خاص لا يُعرف متى يثور بركانه ، فهي بين الفينة والأخرى عندنا يتسلل الملل إليها, تحاول طرده بان تمسك بالطبلة تداعبها بأصابعها، لتسمع أهل الحي أجمل سمفونية “يا ام عيون حراقه قولي شوقت نتلاقى،فدوى رحت لعيونج خايف لا يحسدونج، عيني يابه من الهوى وعشاقه،ويلي و يابه من الهوى وعشاقه” متحدية سمفونيات بيهوفن وموزات.