23 ديسمبر، 2024 9:50 ص

سمفونية الزمن المقنع … النسبــة والتحليــــل النسبة

سمفونية الزمن المقنع … النسبــة والتحليــــل النسبة

قصيدة الزمن المقنع هي إحدى القصائد التي نشرت في مجلة (البيان ) الكويتية ، وكان ذلك في عددها ذي الرقم (136) الصادر في تموز عام 1979.
ومن يقرأ القصيدة لا يتردد في نسبتها إلى الشاعر والناقد الإنكليزي المعروف
أليــــوت ( توماس سترنس أليوت ) والواقع غير ذلك ! فالقصيدة للشاعر سامي علي جبار ، وهو عراقي من محافظة البصرة ، وكان ـ حين نشر القصيدة ـ مدرساً في إحدى مدارس البصرة ، وهو اليوم يشغل منصب أستاذ ( professor ) في جامعة البصرة / كلية التربية للعلوم الإنسانية / قسم اللغة العربية . فما الذي يجعل القارئ ينسبها إلى أليوت ؟ . إنّ الذي حصل هو أنّ القصيدة وردت أوّل الأمر دون اسم الشاعر ( سامي علي جبار ) في الوقت الذي وضع الشاعر عبارة صغيرة لأليوت وهي (بين الصخر لا يقدر المرءُ أن يقف ويفكر) وقد كتب تحتها (أليوت من قصيدة الأرض اليباب ) وهذا أمر طبيعي فالكثير من الشعراء والأدباء يضعون تحت عنوانات قصائدهم عبارة لشاعر آخر أو لمفكر معروف ، ويكتب تحتها اسم ذلك الشاعر أو المفكر بل أن الكثير منهم يستهلون دواوينهم بعبارات لشعراء أو مفكرين وهذه العبارات تكون – عادة – ذات صلة بموضوع قصيدة الشاعر ، فكأنه يأتي بها للإشارة إلى موضوع فكرة ما أو لدعم حجته في أمر من الأمور .
وإلى القصيدة  مرة أخرى نرى عبارة كتبت إلى اليسار تحت العبارة الأولى وهي:
(ترجمة : جبرا إبراهيم جبرا) وقد كتبت بخط أكبر وأوضح من الأول ، مما يجعل القارئ يشعر بأن القصيدة مترجمة عن اللغة الإنكليزية .
وبعد ذلك يمكن أن نقول أنّ هناك ثلاثة أسباب أدت إلى في نسبة القصيدة خطأ ً وهي : 1- عدم وجود اسم الشاعر صاحب القصيدة (سامي علي جبار) .
        2- وجود عبارة وضعها الشاعر كإشارة أو لإثبات فكرة ، وهي عبارة
            أليوت (بين الصخر لا يقدر المرء أن يقف ويفكر) .
        3- وجود عبارة (ترجمة : جبرا إبراهيم جبرا) في أعلى يسار الصفحة مما  
            يوحي بأن القصيدة مترجمة .
وفي لقاء جمعني بصاحب القصيدة الأستاذ الدكتور (سامي علي جبار ) ، سألته عن قصيدته تلك فقال لي إنه لم يكتب اسمه على الورقة المتضمنة للقصيدة ،وإنما ذكر اسمه فقط في الرسالة المرفقة معها ، ومن هنا فقد وصلت إلى المجلة ورقتان : ورقة متضمنة للرسالة والأخرى متضمنة للقصيدة ،ورقة الرسالة فيها كلام الشاعر ورغبته في نشر قصيدته في المجلة وما إلى ذلك وفيها اسم الشاعر أيضا ، و ورقة القصيدة التي تعلوها العبارة المترجمة التي اختارها الشاعر من شعر أليوت والمكتوب تحتها عبارة (ترجمة : جبرا إبراهيم جبرا) وفيها قصيدته .
فالتوهم حصل جراء الأسباب أعلاه … وقد أخبرني الشاعر أنه أرسل للمجلة رسالة فيها تنويه على ما حدث ولكن دون جدوى .
والذي يهمنا الآن أن القصيدة للشاعر (سامي علي جبار) ولا علاقة لها بأليوت لا من قريب ولا من بعيد .
التـحـلـيــل :
نحاول الآن تحليل القصيدة  بإيجازٍ من حيث الشكل والمضمون :
1 ـ من حيث الشكل : أوّل أمر نقف عنده هنا هو وزن القصيدة ، فقد جاءت أبيات    القصيدة على وزن ( فاعِـلـُـنْ) وهي الجزء الرئيس من البحر المتدارك ، ، مع كلّ جوازاتها وشأن الشاعر في ذلك شأن أيّ شاعر آخر معاصر له ، ومن هذه الجوازات التشعيث وهو علة تجري مجرى الزحاف وتعني حذف أول أو ثاني الوتد المجموع ، أي (فاعِـلـُـنْ) تصبح (فالـُـنْ) بحذف الأول أو (فاعِنْ) بحذف الثاني وفالـُـنْ  أو فاعِنْ تساوي فعْلـُـنْ من حيث الوزن ، ومن العروضيين من يرى أن فاعِلـُـنْ تصبح فعْلـُـنْ وذلك بزحافين الأول الخبن وهو إسقاط الثاني الساكن من الجزء (التفعيلة) فتصبح فاعِلـُـنْ فعِلـُـنْ والزحاف الثاني هو الإضمار وهو تسكين الثاني المتحرك من الجزء فتصبح فعِلـُـنْ فعْلـُـنْ واعتبارها مشعثة أفضل من كونها مخبونة ومضمرة وقد ورد ، الكثير من تفعيلات القصيدة مشعثة ومنها (عبر النهر، هل يقدر، النهر ، لون الماء ، هل يجري ، من أين ) = (عـبْرنْ ، هلْ يقْ ، لوْنـُـلْ ، هلْ يجْ ، منْ أيـْ ) .
ومن الجوازات أيضا الخبن وهو إسقاط الثاني الساكن من الجزء أي الألف في فاعِلـُـنْ فتصبح فعِلـُـنْ وفي القصيدة كثير منها (الماء بلا ، شجر ، لا أعرف منها) = (ءِ بلا ، شجرنْ ، رِ فُ منْ ) .
والمخبون من هذه الأجزاء أقل من المشعث في هذه القصيدة ، ومن الجوازات أيضا جواز يتحول فيه فاعِلـُـنْ الى فاعِلُ ، والحقيقة أن كثير من الباحثين لا يطلقون عليه اسماً محدداً وبعضهم يكتفون بالقول أنه إجراء أو تغيير حديث ولكن يبدو لي أنه قبض وهو حذف الساكن الخامس من الجزء مثل فعولنْ تصبح فعولُ فإن قيل أن فاعِلـُـنْ لا تنتهي بسبب وإنما بوتد ، والزحاف لا يدخل إلا على الأسباب ، فنقول إننا نحسبها (فاعِ لـُـنْ) وليس (فاعِلـُـنْ) وقد ذكرت ذلك في بحث قديم لي ، وهي هنا تتكون من وتد مفروق وهو (فاعِ) وسبب خفيف هو (لـُـنْ) وليس من سبب خفيف وهو (فا) ووتد مجموع وهو (عِلـُـن)، وباعتبار الجزء يتكون من وتد مفروق وسبب خفيف فإننا نستطيع تطبيق القبض عليه ، وفي هذه القصيدة يوجد الكثير من هذه الأجزاء (فاعِلُ) مثل (الناضب ، كنت أمر ، كنت توقفتُ ، صودر ، أجبرني ) = (ناضبِ  ، كنت أَ ، كنت تَ , صودر , أجبرَ) .
والجدير بالملاحظة أن القصيدة تكاد تخلو من الجزء التام فاعِلـُـنْ فلم يأتِ فاعِلـُـنْ تاماً إلا في موضع واحد وهو (أمرناهُ أن) = (ناهُ أن) لأن الهاء في (أمرناهُ) غير مشبعة لأنها مسبوقة بالألف وأعتقد أن السبب الذي دفع الشاعر إلى الابتعاد عن الجزء التام (فاعلنْ) والإكثار من الأجزاء (فاعلْ ، فعِلنْ ، فاعلُ) هو شعوره بوجود ذلك الخلل بالحياة أو وجود ذلك النقص في الدنيا فكأنه يمثله بالأجزاء غير التامة ! .
وبقي أن نذكر أن هذه القصيدة بما أنها من شعر التفعيلة حيث يكون صدر البيت هو العجز لذلك فالجزء الأخير هو العروض وهو الضرب أيضاً وقد جاءت الأجزاء الأخيرة مذيلة في أغلب الأحيان (فعْلانْ) أو (فعِلانْ) والتذييل هو زيادة حرف ساكن على ما نهايته وتد مجموع فتصبح (فاعلنْ) (فاعلانْ) وتصبح (فاعلْ) (فعْلانْ) وتصبح (فعِلنْ) (فعِلانْ)  .
وننتقل الآن إلى الحروف حيث يمكن ملاحظة أن بعض الحروف تتكرر أكثر من غيرها ومثال ذلك حرف النون حيث تكرر ثلاث وعشرين مرة في المقطع الأول من القصيدة فقط رغم قصر هذا المقطع (عبر النهر الناضب كنت أمر) الشطر الأول من القصيدة ، أما الحروف التي وردت كقافية للقصيدة فالراء ورد كقافية اثنتا عشرة مرة (أمر ، الدهر ، الفقر ، اليسر ، النهر…) كذلك وردت الهمزة اثنتا عشرة مرة كقافية (سماء ، أسماء ، خرقاء ، صفراء ، نشاء ، تشاء…) .
أما من حيث الألفاظ فقد تكررت بعض الألفاظ أكثر من غيرها مثل (النهر) حيث وردت هذه اللفظة ست مرات ووردت لفظة  (الماء) سبع مرات ووردت لفظة (لون) ومشتقاتها سبع مرات أيضاً وفي المقطع الأول وحده وردت لفظة (النهر ، الماء ، اللون) أربع مرات كذلك وردت لفظة (شعر) ومشتقاتها أربع مرات ويمكن استنتاج أن بعض الألفاظ ذات هيمنة على القصيدة .
2- من حيث المضمون : القصيدة تصور أجواء خانقة ، مضايقات ، سلب حريات ، هذا بعد جملة تساؤلات يطلقها الشاعر في بداية القصيدة بعد تأملٍ :
( تأملت الماء المنساب
  هل يقدر أن يجري النهر من دون الماء ؟
  هل يجري الماء بلا لون ؟
  من أين يجئ اللون ؟ ) .
بعدها تنهال المضايقات وسلب الحريات ، يقول الشاعر :
( صودر إحساسي في هذا العصر
  أجبرني غيري أن أكتب أسماء
  أن أحفظ أسماء
  لا أعرف منها غير حروف هجاء ) .
بعدها يظهر الشاعر سطوة الجلاد عندما يقول :
( وضعونا بين الصخر وأسفلنا كان الماء
  أمرونا أن ننضم شيئاً من تلك الأسماء
  قالوا للماء : تلون من حيث نشاء
  لا من حيث تشاء ) .
ثم يوزع الشاعر الاتهام على الجميع مشركاً نفسه بذلك الاتهام مستحضرا التراث العربي :
( حتى الملك الضليل أمرناه أن يكتب حوليته في وحدة شعر
  لا وحدة بيت ) .
ويستحضر الشاعر رمزاً إضافيا آخر عندما يقول :
( كان الجرجاني الشاعر مطلوباً أن يعمل تحت السلطان
  خيره الحاجب بين اليسر وبين الفقر
  هزء الجرجاني من الحاجب
  وأبى أن يقبل باليسر
  وأبى أن يخضع للدهر ) .
وأخيراً أقول كأن الشاعر يعلم ما سيحدث بعد قصيدته تلك ، لقد انطبقت تماما على ما توالى من سنين ٍ بعدها منذ عام 1979 ولغاية 2003 وربما تنطبق أحداثها على أبعد من ذلك مع الأسف !
إن مثل هذه النبوءات في الشعر تعود بنا إلى المقولة التي تنص على أن كل شاعر هو باراسايكولوجيٌّ بذاته قد يتنبأ بحدث دون وعيه !! وفي الشعر العراقي الحديث العشرات من القصائد التي نبهت إلى ما أشار إليه الشاعر .