سـال لعاب الصبي وهو ينتصب قبالة زجاج البوفيه المطلة على الشارع التي تكتنز صحونآ مختلفة الاشكال تحوي نماذج من الأطعمة التي يقدمها مطعم الساحة . لم يكن ” عرين ” قد تناول فطوره الصباحي بعد , فتسلق عتبة المطعم ليركز نظره على صحنين ومقربآ أنفه من سطح الزجاج كما لو أنه يحاول أن يشم قطعتي اللحم المغروزتين في بركة من عصير الطماطم وسط صحن بدا وكأنه لم ير له مثيلآ في حياته , بينما تناثرت أشكال قطع البطاطا الصفراء المكعبة ونتفآ من أوراق الكرفس الخضراء ألآيلة الى الذبول فوق الحافة الدائرية للصحن نفسه . راحت عيناه تنتقلان من هذا الصحن الى الصحن الذي يقبع في أقصى الزاوية اليمنى من البوفيه الذي يحتضن في وسطه نصف دجاجة كبير بدا محمصـا بفعل ضوء المصباح الداخلي المسلط فوقه , وقد زيّن الصحن بقطع من المخللات المتنوعة وفصوص من الزنجبيل .
قبل أن تنطلق يده للأشارة بالسؤال عن أسعار هذه الوجبات , تذكر أنه خارج المطعم وعليه أن يدور بحركة دائرية نحو المدخل ليرتقي درجتين من السلآلم لكي يصل الى الكاشير الذي يحرر وصولات القبض حتى يسأله . وفجأة أشاح بنظره عن المشهد وأنصرف الصبي وهو يحادث نفسه أو ربما وحدته , فتقدم بخطوات بطيئة من جانب البيوت ورأسه يدور بأتجاه المعرض وقد خرجت من فمه أصوات منهكة تشبه أصوات التثائب , إلا أنها كانت تخفي تنهدات بكاء خفيض ,فتوقف وأنحنى يلم ثيابه من المكان المنعزل الذي يبعد مسافة بيتين من محلة أبي الأسود القديمة , ثم حمل كيسآ مملوء بقناني المشروبات الفارغة المصنوعة من الألمنيوم وعاد يخطو الطريق ذاته , مارآ بواجهة المطعم الثانية وهو يغمغم ويجيل النظر نحو الخلف صوب الصحون التي بدت بعيدة وهامدة في المعرض الزجاجي مع محتوياتها التي بقيت تنتظر من يلتهمها .
قبل أن يصل منعطف الشارع الرئيس الذي يؤدي الى دائرة الجنسية لفت نظره سرب من الحمام الأزرق وهو ينطلق من أعالي المباني تتبعه أصوات أصطفاق أجنحته وقد بدا وكأنه فزع , أما على الارض فقد طرق سمعه زعيق أطفال وهم يتعقبون الجنود المحتلين وهم مذعورون يسيرون برتل طويل يقوم بين الفينة والأخرى بتوزيع ألواح الحلوى التي يحملونها في صداريهم المدرعة على شكل صفوف متعامدة . وضع ” عرين ” كيس القناني على الارض وراحت عيناه تراقب المشهد من بعيد . كان الاطفال في كل مرة يؤدون الرقصات أمام الجنود ويتكلمون معهم من دون أن يفهم بعضهم البعض وما أن وصلوا على مقربة من أعتاب مبنى الجنسية حتى طارت مجموعة أخرى من الحمامات الزرقاء من فوق المبنى تاركة أعشاشها نحو سماء زرقاء فسيحة و صافية . دخل الرتل مبنى الجنسية وقد انتصبت أحدى دباباتهم عند الباب , فراح الاطفال يطوفون حول الدبابة وهم يلوحون بقناني الماء وألواح الحلوى , بينما بقي ” عرين ” يراقب هؤلاء الاطفال الذين سارع البعض منهم بالذهاب الى بيوتهم إلا من فتى حافي القدمين بقي واقفآ أمام الدبابة وقد بدت عليه إمارات الوحده واليأس .
قاربت الشمس على التعامد فوق رأس ” عرين ” على الرغم من أن شهر آذار بدأ يتخلى عن بعض حرارته في أيامه الاخيره , فرفع كيس القناني وأنتقل بخطوات طويلة حتى وصل الى ظل بارد قريب من محل للتصوير يقع قبالة الدبابة مما جعله في وضع أكثر سيطرة على رؤية ذلك الفتى الحافي وقد داهمته رغبة في مخاطبته . وضع كيس القناني ثانية وعبر الشارع نحو الفتى فوجده وقد ترهل في وقفته بسبب وقوفه وقتآ طويلآ وعيناه تحدقان الى الأعلى حيث تشبثت حمامة زرقاء في عشها تطير بعيدآ عنه وتعود ثانية بسرعة غريبة . ربت” عرين ” بيده اليمنى على قفا الفتى فجفل وهو يدير وجهه نحو” عرين ” الذي سأله بصوت ودي : لم أنت هنا ؟ حدق الفتى الحافي الى وجه ” عرين ” وهو يخطو خطوتين الى الوراء , ثم أردف بصوت خفيض قائلآ : هؤلاء لديهم أحذية فجئت أطلب واحدآ منهم . تأمل ” عرين ” وجه الفتى الشاحب وقال له : لكن وجهك يقول لي غير ذلك ؟ ! سعل الفتى الحافي حتى أنه كاد يختنق فقال : أرسلتني أمي لطلب دواء منهم . وما هو مرض أمك ياترى ؟ أجابه ” عرين ” , إنها مريضة بالهلوسة ! ولكن من هؤلاء حتى تطلب منهم ؟ رد عليه ” عرين ” . أنهم محتلون . أجابه الفتى . سكت ” عرين ” ولم يسأله فتركه وعبر الشارع ثانية ليحمل كيس القناني وعاد ثانية نحو الفتى قائلآ له : أظنهم لايخرجون من جحورهم قبل أن يتناولوا غداءهم ويأخذوا قسطآ من الراحة , ثم قل لي أين أمك ؟ انها في مكان بعيد . أجاب الفتى . اذن ليس من المنطق أن تنتظر طويلآ , فهلم بنا اليها .
عبر الفتيان الشارع بأقدامهم الحافية وسارا نحو المطعم ذو المعرض الزجاجي وتجاوزاه نحو كراج السيارات الكبير . فسأل” عرين ” الفتى قائلآ : أي باص تركب ؟ الكزيزة . أجابه الفتى . فهما بالركوب ولكن قبل ان يفعلوا ذلك سألهما مساعد سائق الباص : الأجرة مائة وخمسون دينار . أشار” عرين ” بالموافقة بحركة من رأسه وهو يحمل كيس القناني داخل السيارة ليضعه أمامه , أما الفتى الآخر فقد جلس هادئآ أمامه يجيل النظر في جوف الباص .
نزل الفتيان بعد ان استغرقت الرحلة نصف ساعة تقريبآ , كانت الشوارع ترابية رطبة , ربما بسبب أمطار الايام الماضية وبدءا يشقان طريقهما في زقاق ضيق ينحرف بزاوية حادة عن الشارع العام باتجاه سوق الخضار , فأسرع الفتى الحافي بالدخول في بيت من الطين وأنتصب وسط الباحة . نظر اليه ” عرين ” , ثم نظر الى فتحة الدخول , إذ كانت من غير باب كباقي البيوت . صاح الفتى الحافي وسط البيت : يمه .. يمه أنا هنا ! . لم يسمع ” عرين ” أي أجابة من أحد فألتفت الى الفتى الحافي وقال له : لكن أين هي ؟ دخل الفتى شقآ أخر وغرق في الظلام , فدلف عرين خلفه ليرى شبح أمرأة , فوقف لبرهة حتى تبين له أنها عجوز وقد تجاوزت الستين من العمر , ترقد على بساط متهريء . وحال وقوفه أمامها سمعها تقول بصوت ثقيل أجش : أنه يوم الأثنين وقد قلت لي أنك ستأتي لي بدواء من مستوصف الخضارة , فلم تأخرت ياولدي ؟ لم نأت به بعد ياأمي . أجابها ” عرين ” وهو يلتفت يمينآ وشمالآ في أرجاء الغرفة من دون أن يرى من الآثاث شيئآ . أطلقت العجوز حسرة طويلة وقالت : من هذا الولد يا ” كامل ” ؟ انه صديقي ياأمي , جاء لكي يراك . تفضل ياولدى وأجلس , وسامحني فأنا لا أقدر على ضيافتك .
جلس “عرين ” وقد تدحرجت دموعه الصغيرة فوق خديه , فحمل الكيس وأسنده على حائط الغرفة وتقدم نحو العجوز ليتبين وجهها , وحينما مد يده ليضعها فوق رأسها لكي يقبله أحس أنه أمام كائن هامد , إذ لم تبد من المرأة أي حركة أو صوت زفير . تراجع “عرين ” الى الوراء ببطء وأحاط رأسه بكلتا يديه وخرج من الغرفة المظلمه وعيناه في السماء التي بدت بلون الكركم والهواء الرطب بدأت تتصاعد وتيرته . ألتفت الفتى الحافي ليقول له : ماذا بك يا صديقي ؟ هل أنت خائف من شيء ؟ كلا . أجاب “عرين” , بل رأيت أمك نائمة فلم أوقظها , ومد يده في جيبه وأخرج ثلآثة أرباع الدينار الباقية وقال : والآن ياصديقي خذ هذه النقود وهذا الكيس وأشتر لأمك دواء مناسبآ لها من الصيدلية , ثم رفع رأسه الى السماء فكانت زرقاء صافية وبدأ الهواء يميل الى الهدوء وخرج من البيت بصمت .