19 ديسمبر، 2024 4:54 ص

سماء المحبة تمطر بغزارة

سماء المحبة تمطر بغزارة

لماذا تستهويني كتابة الذكريات الصحفية خاصة ؟ سؤال أطرحه على نفسي ، كلما مسكتُ القلم للكتابة بهذا الاتجاه . والأجوبة عديدة ، فيها الذاتي والموضوعي . بوضوح تضغط العاطفة باتجاه الذكريات ، لكنها عاطفة مؤطرة بعوامل موضوعية قد لا يتسع المجال هنا للتطرق لها تفصيلاً . ودعونا نقلب بعضاً من أوراق هذه الذكريات .
   على أثر نشر موضوعي في موقع (كتابات) الذي حمل عنوان : مغامرة الوصول إلى فندق الرشيد في بغداد ، جائتني رسائل أعتز بأصحابها وبمضامينها ،  لكني فُوجئتُ ببعض مرسليها وبأمكنتهم حالياً .
    من فيلادلفيا ، بالولايات المتحدة الأمريكية ، جائتني رسالة من زميل المهنة الهندسية سلام ناصر (ابو دينا) ، صائغ العلاقات الاخوية الانسانية . ومن السويد جائتني رسالة من الأديب والجار سابقاً خضير أللاّمي ، الذي عرفته انساناً ومترجماً مقتدراً . وجائتني رسالة من الزميل الصحفي صبري الربيعي ، الذي لا أعرف أين يقيم الآن . الربيعي كان دمثاً ومؤثراً حين جعل موضوع رسالته : هَلَه بالغايبْ . عرفت الزميل الربيعي في مجالات صحفية عديدة ، آخرها اننا عملنا سوية في مجلة(ألف باء) ، قبل أن اغادرها منقولاً الى أمانة بغداد ، مطلع عام 1982 .
    ومن إستراليا ، جائتني رسالة من الأديب جمال حافظ واعي . وعند هذا الأديب ، يُفتح صندوقُ الذكريات الصحفية . ففي النصف الثاني من ثمانينات القرن الماضي ، والنصف الاول من تسعيناته كنتُ اكتب في جريدة يومية بغدادية . وعن هذا الطريق تعرفتُ على زملاء أعزاء ، وأقتربتُ اكثر من زملاء آخرين . أحِبَّةٌ كثيرون ، ربما سيُتاح المجال للكتابة عنهم جميعاً ، مستقبلاً . ولكني أتوقف عند رصيف الكتابة عن : جمال حافظ واعي . ففي تلك الجريدة ، عمل الأديب جمال في قسم التصحيح . وسررتُ حين علمتُ أنه حاصل على ماجستير في اللغة العربية . وسررتُ أيضاً حين علمتُ أنه من مدينة الشطرة ، وارثة حضارة أكد . كان جمال يمتاز بالهدوء وقلة الكلام ، وربما : الصمت . وإقتربنا من بعضنا . فقد أهديتُه كتابي (من حقيبة السفر) الذي صدر عام 1991 . وبادر لكتابة عرض عنه ، نُشر في تلك الجريدة ، يوم 22/11/1992 ، وتحت عنوان : شهادة في الهواء الطلق .
    ومما كتبه : ((ليس الكتاب سيرة ذاتية بمفهومها الكتابي ، ولا تدبيج مقالات لتهويل حياة آخرين بصورة نفعية . وانما هو شهادة في الهواء الطلق ، وشهودها الطبيعة والزمن والعفوية الصادقة)) .
    وقال جمالُ الكثير في هذا العرض ، ولا يتسع المجالُ هنا للأتيان عليه .وافترقنا . وإختفى الأديب واللغوي الشطري (الأكدي) جمال حافظ واعي . وكانتْ الاوضاع تضغط على العراقي أن يحصر إهتماماته بما يُعانيه . وخارج دائرة هذه الاهتمامات ، قليلون من تحركوا .
    وصباح يوم من أيام عام 1997 ، إن لم أخطأ ، كانت المصادفة المثيرة . كنتُ في ذلك اليوم أقف عند صيدلية (بلاط الشهداء) في باب المعظم بالعاصمة العراقية بغداد . وهُنا كانت المفاجأة : قصدني شخص . سلَّم ، وبعد السلام ، قال ذاكراً إسمي : لقد كتبتُ عن كتابك . هل تتذكر ؟ . بصعوبة بالغة عرفتُه . إنه : جمال حافظ واعي ، بلحمه ودمه . دار بيننا حوار سريع . وفجأةً : تركني جمال . وعندما سألتُه : الى أين ؟ لم أحصل على جواب .
وصاحبني سرور بالغ حين وردتني رسالة من الأديب الصديق الأكدي جمال حافظ واعي ، قال فيها : قرأتُ موضوعك الجميل ، وتذكرتُ الأيام الخوالي ، والذئب الذي لن يكف عن العواء . وكان ألأديب جمال واعي يشير الى مقطع في موضوع : مغامرة الوصول إلى فندق الرشيد ، جاء فيه : في أعماقي يعوي ذئب صحفي . يعوي كمن لَسَعَهُ برد صحراوي في أخريات ليل شتوي . ومثل هذا الذئب لا يكف عن العواء ، ما لم أُدفِئهُ برداء الكتابة الصحفية ، أو بالكلام الواضح : ب (بَطّانية) الكتابة الصحفية .
أيها العزيز جمال ، أيها الأحبة في المنافي ، حيثُ مخالب الغربة ، وحيثُ (مقابر الغرباء) ، كما تسمى مقبرة بجوار مرقد السيدة زينب ، عليها السلام ، بدمشق : عواطفُنا وقلوبنا معكم ونحن واثقون أنكم تبادلوننا نفس المشاعر . أنا متأكد أن مطلع هذه القصيدة الشعبية يترجم مشاعر كل من عاش الاغتراب . المطلع يقول :
هاجَرْنَه شرﮔﻚ أُوغرب
و .. إﻠﮕﻳنه تالي الدرب
يِرْجع على بغداد
    واخيراً : كنت أتوقع قطرات مطر قليلة ، لكن سماء الاخوة وفضاء المحبة ، كان مطرها غزيراً .
.. مع اعتزازي بجميع الأَحِبَّة .
[email protected]

أحدث المقالات

أحدث المقالات