في بلاد الرافدين حيث تتراقص حكايات المجد الغابر على ضفاف دجلة والفرات، يرتسم اليوم مشهدا أخر أقل بريقا وأكثر قتامة، يتمثل بخيوط شبكة معقدة تنسجها أياد خفية لكن آثارها بادية للعيان كجرح غائر في جسد العراق. نتحدث هنا عن وحش متعدد الرؤوس، اسمه “الكليبتوقراطية” أو سلطة النهب، أي حكم اللصوص، الذي بات يلقي بظلاله على حاضر العراق ومستقبله، مهددا بابتلاع أحلام أجيال بأكملها.
لم تعد حكاية الفساد مجرد خبر عابر في نشرات الأخبار، بل أضحت واقعا مريرا يتنفسه المواطن العراقي مع كل شروق شمس وغروبها. إنه ليس فسادا فرديا معزولا، بل منظومة متكاملة، أخطبوط له أذرع تمتد لتطال مفاصل الدولة كافة، من أعلى الهرم إلى أصغر موظف. الفساد الإداري والمالي لم يعد استثناء، بل قاعدة، حيث تتحول المناصب إلى مغانم، والثروات الوطنية إلى كعكة يتقاسمها المتنفذون، بينما تقف الأغلبية الساحقة متفرجة، لا تملك من أمرها شيئا إلا الحسرة والأمل الواهي.
أين تذهب عائدات النفط الهائلة التي حبا الله بها هذه الأرض؟ سؤال يتردد على لسان كل عراقي، من الطفل الذي يحلم بمدرسة لائقة إلى الشيخ الذي يأمل برعاية صحية تحفظ كرامته. الإجابة، للأسف، تتبخر في حسابات خارجية، وتتحول إلى عقارات فارهة في العاصمة وفي عواصم بعيدة، ومشاريع وهمية لا وجود لها إلا على الورق. إن نهب الثروات الممنهج ليس مجرد سرقة للمال العام، بل هو اغتيال لفرص التنمية، وتدمير للبنية التحتية، وحرمان للشعب من أبسط حقوقه في العيش الكريم. إنها عملية تجريد للوطن من مقدراته، وتحويله إلى بقرة حلوب لمصالح ضيقة، أنانية لا ترى أبعد من أرنبة أنفها.
إن أخطر ما في هذه المعادلة المختلة هو غياب العدالة في توزيع الثروة. فبينما تسبح قلة قليلة في بحار النعيم، تغرق الأغلبية في مستنقع الفقر والحاجة والعوز. هذا التفاوت الصارخ يخلق بيئةخصبة للاحتقان الاجتماعي، ويزرع بذور اليأس في نفوس الشباب، ويدفعهم إما إلى الهجرة بحثا عن وطن بديل يحتضن طموحاتهم، أو إلى الانزلاق نحو مسارات خطرة. وبما ان “العدل أساس الملك”، فأي ملك هذا الذي يقوم على حرمان أبنائه ونهب خيراتهم؟
وتتجلى مأساة سوء الإدارة ونهب الأموال بشكل صارخ في أزمة الكهرباء المستعصية. ففي بلد يطفو على بحر من النفط والغاز، يعيش المواطنون في ظلام دامس، لاسيما خلال أشهر الصيف اللاهبة، وتتوقف مصالحهم، وتتعطل حياتهم. مليارات أُنفقت، ووعود أُطلقت لكن النتيجة واحدة، انقطاع مستمر، ومعاناة لا تنتهي. أليست الكهرباء رمزا للحياة العصرية والتقدم؟ كيف يمكن تلبية تطلعات الناس في حياة كريمة، وهم محرومون حتى من هذا الحق الأساسي؟
والأدهى من ذلك، أن جزءاً من شرعية هذا الواقع المرير يُستمدأحياناً من الخارج، عبر توازنات إقليمية ودولية معقدة ومصالح متقاطعة تغض الطرف أحيانا عن معاناة الداخل مقابل ضمانات أو مكاسب أخرى. لكن الشرعية الحقيقية لا تُستورد، بل تنبع من الداخل، من رضا الشعب من تلبية احتياجاته، من شعوره بالانتماء والكرامة في وطنه. أما البحث عن غطاء خارجي على حساب الداخل، فهو كمن يبني قصراً على الرمال.
إن استمرار هذا الوضع ينذر بكارثة حقيقية للأجيال القادمة. فوراء كل دينار يُنهب اليوم، مستقبل يُسرق غدا. إننا نورث وطنا مثقلا بالديون ومنهكاً بالفساد، فاقداً لبوصلته. فهل سنقف مكتوفي الأيدي ونحن نرى مستقبل الاجيال يُباع في سوق المصالح الضيقة؟ إنها مسؤولية تاريخية تقع على عاتق كل فرد في هذا الوطن، مسؤولية أن رفع الصوت عاليا والمطالبة بالشفافية والمساءلة والعدالة، قبل أن يبتلعنا الظل جميعا، ولعل في تغيير ما بأنفسنا بداية الطريق نحو الخلاص.