23 ديسمبر، 2024 6:54 م

سلطة النسق الثقافي : الدولة وتقاليد الاغتصاب !!

سلطة النسق الثقافي : الدولة وتقاليد الاغتصاب !!

كلُّ إنسانٍ هو ظاهرةٌ ثقافية تحمل في (جيناتها) الفكرية والشعورية تركيباً تاريخياً من معتقدات وعادات ومفاهيم سواء أكانت متقدمة أم بدائية أم هجينة، سلبية وأيجابية، وهذا يشمل الإنسان كأنسان سَواءٌ أكان راعي أغنام أم أرملة بائسة أم أستاذاً في جامعة هارفرد.
كل إنسان هو ظاهرة ثقافية تتأثر وتؤثر بمحيطها الاجتماعي، قابلة للتطور والانتشار أو ربما تبقى معزولة وهامشية، لكنَّها تظلّ تدافع عن وجودها ومعناها وليس من السهولة إتلافها أو تفكيكها بقصد التلاعب في جوهرها. كلُّ إنسانٍ هو ظاهرةٌ ثقافية، ولكن لا يصح القول إن (كلّ إنسان هو ظاهرة ثقافية بحدّ ذاته) فالحديث عن الثقافة هنا يتعلق بالذات الجماعية والذاكرة الجماعية واللاشعور الجمعي، فالإنسان هو جزءٌ من كل، هو ظاهرة اجتماعية.
لا يمكن تغيير المكونات الأساسية للثقافة المحلية  Locail Cultureكالعادات والمفاهيم والتقاليد فهي تنتقل من جيل إلى جيل فتصبح قاسماً مشتركاً بين مليارات البشر الذين يتعاقبون عبر آلاف السنين في بيئة ثقافية معينة. ولكن تمكن ملاحظة تغيّر في وتيرة بعض الصفات الثقافية في ظروف معينة كإرتفاع وتيرة العنف السياسي أو طغيانها على سلوك المجتمع ككل، كما يحدث في سوريا الآن، ولكنَّهُ عنفٌ هدفه إعادة السلام والطمأنينة بشروط عادلة ليعود بعد ذلك السلام أكثر رسوخاً وصدقية. وهذا ما حدث لشعوب عديدة رغم مرارته، لذلك يجب الحد من وتيرة العدوانية والطائفية التي تطغي على مشاعرنا في لحظات تصاعد الأزمة كي لا تتحول إلى ثقافة عامة فيتغلب الطاريء على الأصيل في وعينا وسلوكنا الهش أساساً بسبب الثقافة المضطربة التي عممتها الأحزاب الانقلابية على مجتمعاتنا.
وضمن سياق المعنى الأنتربولوجي للثقافة، أي إنتقال العادات والمفاهيم من جيل إلى جيل، نستطيع تأمل طريقة حياتنا نحن العرب بما تنطوي عليه من مفارقات، فنحن مازلنا نحتفظ بالكثير من عادات وقيم المجتمع القبلي ما قبل الإسلام رغم مرور آلاف السنين عليها! وكأن الثقافة الحيوية التي جاء بها النبي محمد متمثلةً بالثقافة الإسلامية بأسسها المعروفة، والتي ساهمت بتغيير الوجه الحضاري للإنسانية إيجابياً، لم تتمكن من تغيير تركيبة العديد من (جيناتنا) الثقافية السلبية تحديداً، كالتفاخر بالأحساب والأنساب، أو إقتران فكرة الشرف بالحياة الجنسية وليس بالضمير والأمانة وترفّع الإنسان عن السرقة والغش. كيف يمكن أن يكون المرء شريفاً وهو يحتل موقع مسؤول كبير في الدولة بينما شهادته مُزوَّرة، أو وهو تاجر يتلاعب بقوت الناس ويستغلهم؟!
والشرف مايزال عندنا يقترن بتسلط الرجال وإخضاع النساء، وليس بالمرؤة والأريحية واحترام حق المرأة باختيار شريكها بحرية! وإذا كانت غزوات العرب قبل الإسلام تنتهي بسبي النساء ضمناً، فما أشبه الفتاة التي تُجبر على ترك حبيبها والزواج من رجل لا تعرفه، بالمرأة المسبيّة؟ إن ثقافة الهيمنة تجعل الرجل أشبه بالبهيمة أحياناً، فهو عندما يستغل التقاليد المتوارثة ويتزوج من فتاة لا تعرفه من قبل، وربما تعشق رجلاً آخرَ، فإن ما يفعله في الواقع هو عملية اغتصاب (شرعية) لإنسانة لا تملك حق الرفض! وهو لا يشعر بأي ذنب أو تردد طبعاً! بل ربما يشعر بالزهو والانتصار! وأيضاً فهو موافق ضمناً على دفع أخته أو ابنته لنفس المصير!
إن عواقب ثقافة الإغتصاب هذه هي التي تُفسر ضمناً النسبة العالية لحالات الطلاق في مجتمعاتنا وما يتركه ذلك من إشكاليات نفسية واجتماعية يعاني منها الآلاف. كما يمكن رؤية ثقافة الإغتصاب وقد انتقلت من المجال العائلي إلى السياسي حيث بموازة اغتصاب النساء يتم اغتصاب الدولة عبر المؤامرات والانقلابات العسكرية، أو يتم اغتصاب المجتمع من خلال سلطة الدولة عندما ينفرد بها حزب واحد أو ديكتاتور، هكذا تُعيد المنظومات الثقافية انتاج نفسها بسلبياتها وإيجابياتها منتقلة من جيل إلى جيل إذ يتم تلقينها للإنسان وهو طفل.
وإذا كان (الإنسان هو الأسلوب) كما يقول الفرنسيون، فان الأسلوب هنا يعني الثقافة بالمعنى الأنتربولوجي ضمناً، أي أن كل إنسان أو مجتمع يعبر عن ثقافته من خلال أسلوب حياته وطريقة تفكيره. ويتضح ذلك ضمناً في كيفية استقباله للظواهر والأفكار، وطبيعة تعامله مع الآخرين. ولكن علينا الإنتباه لحقيقة كون الإنسان لا يستطيع اختيار أسلوب حياته بمحض رغبته. فليس لأحد القرار أن تكون ولادته في سويسرا أو الصين أو تونس، في عائلة مترفة أو فقيرة، متعلمة أو جاهلة حيث يكتسب عاداته وأسلوب حياته. ومن هنا تأتي مجانية التفاخر بالحسب والنسب أو الغنى، إذ إن التفاخر بأمور لم نشارك بإنجازها هو إحد عاهات المجتمع المتخلف طبعاً.
وأيضاً، فالإنسان لا يستطيع تغيير أسلوب حياته بسهولة حتى لو أدرك خطأ ذلك الأسلوب، لأن المسألة هنا تتعلق بتكوين نفسي وشعوري مُتوارث لا يمكن الانفكاك منه بسهولة، إذ تتحكم به عوامل تربوية وأخرى هي معطى ثقافي تاريخي، أي نسق حضاري موجود قبل وجود الأفراد وهو يتحكم بتكوينهم سلفاً! أي بمعزل عن إرادتهم، بل هو يُحدد توجهاتهم ويساهم برسم مستقبلهم قبل أن يولدوا! فهم سيخضعون لمنظومة من العادات والتقاليد المتوارثة منذ الطفولة وسترافقهم طوال حياتهم ليُعيدوا انتاجها بتوريثها لإبنائهم، لذلك لا يمكن تغيير هذه الصيرورة الثقافية بسهولة خصوصاً ما يتعلق بالطقوس والمعتقدات أو مفهوم السلطة الذي يقسمنا أسياداً وعبيداً، حيث تتأثر بذلك نظرتنا لظواهر الحياة وطريقة إستقبالنا لها. هذه هي سلطة النسق الحضاري.
إن ركود المجتمع، لأسباب سياسية واقتصادية، في بيئة ثقافية محدودة ومضطربة أحياناً يصيب الناس بنوع من الخذلان وضيق الأفق، بل ويجعلهم مهيَّئين للعنف  والضجر والتشاتم أحيانا،ً ما يؤدي إلى كراهية الذات بالتدريج، وكراهية الذات هي واحدة من أخطر العُقد التي تعانيها الشعوب المهزومة أو المغلوبة على أمرها، ومن تسيطر عليه عقدة كراهية الذات لن تكون بوسعه محبّة الآخرين، وهنا تكمن الخطورة. 
لذلك لا بدَّ للمجتمعات المخذولة من التطور على مختلف الصعد، ولكن كيف؟ إن التطور لا يحدث صدفةً، بل يحتاج لبرامج حكومية وأهلية، ثقافية واقتصادية، طويلة الأمد، تأخذ طابعاً تربوياً وترتبط بحاجات المواطنين وطموحاتهم المشروعة، أي بعملهم ومردودات هذا العمل وفعالية القوانين التي تحمي حقوقهم. إن التطور لا بدَّ أن يحدث ولكن استناداً لدرجة استعداد ذلك المجتمع لاستقبال مظاهر التطور.
ولكن ما معنى التطور، وكيف يقاس؟ هناك قياسات متعددة للتطور ولكن ما يهمنا هنا هو اقتران التطور بالمصالح المشروعة للمجتمع والدولة. وهذا يعني إن للتطور معنيين الأول حقوقي والآخر تقني، أي إن التطور الحضاري لا بدَّ أن يقترن بتحقيق العدالة الاجتماعية وإلّا فإن البلدوزرات ومعامل الإسمنت وتحديث الزراعة التي قد تجعل مجتمعاتنا تبدو وكأنها متقدمة لكنها لن تنقذنا من الخذلان الحضاري. وبوسعنا الإشارة هنا إلى الحالة السورية، فقبل ثورة 2011 كانت هناك صناعة وزراعة متطورة نسبياً في سوريا ولكن لم يحل ذلك بين الناس وبين الثورة بسبب غياب العدالة. إن التقدم الإداري والتكنلوجي من دون تحقيق العدالة هو تقدم في استغلال الشعوب وجعلها تعيش من دون مستقبل مضمون، وهذا ما حدث في عراق صدام حسين ومصر حسني مبارك أيضاً.
إننا نعيش حالة من الاضطراب الثقافي على مختلف الصعد وخصوصاً على الصعيد السياسي الذي ينعكس على عمل الدولة ويوميات المجتمع، ولذلك تجدنا نلف وندور في حلقات مفرغة، في قضايا نعقد لها الندوات والمؤتمرات ثم نخرج بلا شيىء! وعندما تطحننا الأزمة مرة سادسة وسابعة نعود مرة تاسعة لنقاش نفس الأزمة بنفس المفردات التي لا توصل إلى الحقيقة، بل تموّه الطريق الذي يمكن أن يوصلنا إلى الحقيقة!!
قبل أيام إنعقدت ندوة جديدة في إحدى الدول العربية لإعادة مناقشة العلاقة أو الأزمة بين الإسلاميين والعلمانيين أو دعاة الدولة المدنية (اللادينية واللاعسكرية)، ومع احترامنا لجميع الحاضرين وجهودهم الفكرية ونواياهم الطيبة، خاصة وقد وصلوا إلى نفس النقاط الخلافية التي تواجههم في كل مرّة، لكن الجميع لا يريد رؤية الحقيقة، وربما يتهرب منها، فالأزمة عندنا ليست أزمة أيديولوجيا لكي نبحث عن حلول أيديلوجية، مرة بين القوميين وبين اليساريين، ومرة بين الإسلاميين والعلمانيين! بينما المشكلة الحقيقة تكمن في الخطأ الذي هو قاسم مشترك بين جميع هذه الأطراف، والخطأ الذي لا يُشار إليه عادةً، هو إن هذه الأطراف تتصارع على السلطة وليس من أجل تحقيق العدالة، ولذلك فهي لن تلتقي في مشروع واحد أبداً، فهي تعيد انتاج نفس الأزمة إذا وصلت للسطة، أو تعيد انتاج الاضطراب السياسي إذا بقيت في المعارضة.
فهذه الأطراف جميعها تنظر للدولة بصفتها (غنيمة) والوصول للسلطة هو الذي يمكنها من هذه الغنيمة، أي اخضاع المجتمع والهيمنة على الدولة حيث تحل سلطة الحزب ثم سلطة القائد محل سلطة القانون، وبالتالي فما الفرق إذا حكمنا إسلامي أو قومي أو يساري؟! إن تعليق سلطة القانون لمصلحة الحاكم يعني مصادرة العدالة، والعدالة لا تتحقق إلا في الدولة المحايدة وحيادية الدولة تعني إن سلطة القانون فوق الجميع، فوق الحاكم والمحكوم، حيث يتطور هذا المفهوم بالتزامن مع تكريس مبدأ تكافؤ الفرص وحقوق المواطنين المدنية والسياسية. فبدون دولة محايدة لا يمكن تطوير ثقافة المساواة أو تجديد مفردات الثقافة المحلية المتوارثة والمثقلة بالرطانات التي تبرر القسوة والتخلف والفساد.
إن الأحزاب والاتجاهات القائمة الآن، والمستمرة رغم تآكلها السياسي، تعلم تماماً إن الشروع بتحقيق شروط العدالة في ظل النظام الديمقراطي يعني بداية اختفائها وحلول أحزاب أخرى محلها، لأن  أحزابنا التقليدية محكومة تنظيمياً بثقافة الاستبداد، فالأمين العام لا تزحزحه الرياح العاتية عن كرسيه سواء كان في السلطة أم في المعارضة! فكيف يؤمن بالتبادل السلمي للسلطة وهو أساس النظام الديمقراطي؟ 
إن مشروع تحقيق العدالة الذي لا بدَّ منه، هو المدخل الواقعي للتغيير سياسياً وثقافياً، إذ لا بدّ لنا، ونحن نؤسس لنظام ديمقراطي، من أحزاب تؤمن بالمعرفة وليس باستغلال جهل الجمهور وأميته، بل ورجمه بالشتائم واتهامه بأنه متخلف وغير مستعد لتقبل التطور! إن ثقافة الأحزاب الانقلابية المقلوبة على رأسها هي سبب كل هذا الخراب، فهي وطوال الستين سنة الماضية لم تُنتج سوى لصوص دولة أو أبطال مزيفين! ولو دقّقنا في مفردات ثقافتنا الاجتماعية المتوارثة لوجدنا إن قطاع الطرق الذين هيمنوا على المشهد الاجتماعي خلال القرون القليلة الماضية، مازالوا يتوالدون في واقعنا العجيب، وقد انقلبوا في هذا العصر إلى ضباط انقلابيين وأفندية حزبيين وقد غيروا أسلوبهم من قطع الطريق على القوافل ونهبها، إلى قطع الطريق على الشعوب واختطاف دول بأكملها!! أليس هذا ما جرى ويجري في بلداننا المظلومة؟! 
[email protected]