22 ديسمبر، 2024 8:39 م

سلطان هاشم… ذاكرة الحروب وأسرارها

سلطان هاشم… ذاكرة الحروب وأسرارها

ومضة على كتاب ﴿ سلطان هاشم… ذاكرة الحروب وأسرارها ﴾
بعد أكثر من سبعة عشر عاماً على أسره وأكثر من سنة على وفاته، أصدر الباحث والكاتب الدكتور علي السعدي مؤلَّفه الموسوم (سلطان هاشم … ذاكرة الحروب وأسرارها)، الصادر عن دار قناديل للنشر والتوزيع في بغداد بطبعته الأولى عام”2022″
الكتاب أو الكتيّب هو من القطع الصغير (14سم × 21سم) يحتوي على 96 صفحة، في نهايته ملحق لمجموعة صور ووثائق رسمية، لكن صفحات الكتاب الأساسية لم تتعدّى 32 صفحة فقط هي متن الكتاب الأساسي ضمنتّها 57 سؤالاً وجّهها الباحث إلى الفريق الأول الركن سلطان هاشم أحمد، أخر وزير دفاع في عهد الرئيس صدام حسين، وحاوره مطوّلاً في معتقله في سجن الناصرية، يوم 28/6/2016، على مدى أربع ساعات متواصلة، ضمن مجموعة عناوين رئيسية أُدرجت في غلاف الكتاب الخلفي.
لكن لماذا صدر هذا الكتاب الآن بعد خمس سنوات من محاورته ولم يصدر في حينها؟
المؤلَّف بحجمه الصغير لا يتناسب مع ثُقل هذا الرجل في المؤسسة العسكرية العراقية العريقة، بينما عنوان الكتاب الفضفاض لا يرتقي إلى ما احتواه من معلومات وخبايا. وأغلب الأسئلة تقليدية وأجوبتها بشكل عام لم تحويها إسرار تكشف لأول مرّة تستحق الوقوف عندها أو مراجعة لها أو إماطة اللثام عن معلومات غيّرت مجرى التاريخ. ربما مكان الحوار والوقت والظرف النفسي أحجمت حرية الدكتور علي، في التوسع والتطرّق إلى حدود أبعد في الكلام…!
مقدمة الكتاب التي تلت الإهداء والتمهيد فيها من المديح والذم والصالح والطالح، لكنها سُطّرت بلغة أدبية مهذّبة، وعند قراءتي لمضامين فقراتها قراءة متأنّية توقّفت في بعضٍ منها.
في بداية المقدمة يذكر الدكتور علي السعدي: (إن سلطان هاشم هو الوحيد الذي شذَّ عن قاعدة العداء لقادة نظام البعث، الذي يحملها أغلب العراقيين، فكلمة “ما يستاهل الإعدام” كانت تتردد في إنحاء بغداد، وامتدّت من ثمَّ إلى المحافظات الجنوبية والوسطى، الأمر الذي طرح علامة استفهام كبيرة حول رغبة الحكومة العراقية في تنفيذ حكم الإعدام بحق رجل على شاكلته، لكن ما السرّ في حجم انتشار هذا التعاطف؟ ولماذا اكتسبه الجنرال سلطان هاشم دون غيره…)
وأرى في هذا الوصف إنصاف وصدق، وهذا ما سمعنا وشاهدناه حتى من أعداءه المتمسكين بالسلطة اليوم، فالرجل رحل إلى بارئه نظيف القلب واليدين، منيفاً مرفوع الرأس، كما إن الفريق سلطان هو ليس القائد الوحيد الذي يجدر به هذه الكلمة وهذا الوصف، بل إلى جانبه الكثير من زملاءه العسكريين الوطنيين في المعتقل ممن يستحقونها ويستحقون حتى البراءة في أحكامهم القضائية…!
في الفقرة ثانية من المقدمة يقول: (ورغم أن الجيش العراقي لم يفرز أبطلاً مميّزين-يصح عدّهُم رموزاً للعسكرية العراقية-إن مفهوم البطولة الحربية ظلَّ حكراً على تلك الفئة دون غيرها [ويقصد فئة الضباط في الجيش] لذا صار يُنظر إلى “المدني” أيّاً يكن موقعه وكفاءته على أنه دون نظيره العسكري، ما حدا بالنظام السابق إلى منح نفسه وكبار معاونيه رتباً عالية من دون تأهيل عسكري يخولهم بذلك).
ونسأل الدكتور السعدي: هل قرأت بتمعّن تاريخ الجيش العراقي على مدى قرن من الزمن؟
لا اعتقد ذلك لأنك ستملّ من كثرة أسماء ضباطه اللامعين ورتبهم العالية وتاريخهم المشرّف فهم خارج نطاق الحصر والعدّ! ومصطلح (الحكر في مفهوم البطولة) فهذا هو حال وضع العراق السياسي وعقليّة حُكّامه منذ انقلاب عام 1985 ولغاية 2003. أما من (مُنحوا رتباً عالية من دون تأهيل عسكري) فهم قلّة قليلة وأسبابها سياسية وأمنية معروفة وهي من الأخطاء الشائنة التي ارتكبها النظام السابق وما قبله، ولا يؤخذ على الجيش العراقي وتاريخه بجريرة هذه القرارات السياسية.

ثم ينتقل الدكتور السعدي لموقف آخر هو: (موقف المرجع السيد علي السيستاني، الذي نصح الحكومة العراقية في إيجاد مخرج قانوني لقضية سلطان هاشم على وجه التحديد، يمكنها من تخفيف حكم الإعدام بحقه…).
فتاريخياً لا يُعرف موقف للسيستاني بهذا الخصوص، سواء منه أو عبر مُمثل رسمي عنه، إلا ما تناولته بعض وسائل إعلام أو ما ذُكر عن الرئيس جلال الطالباني نقلاً عن السيستاني ومدى صحّة ومصداقية هذه الأنباء، لكن الأصوب في ذلك لو كان هذا الموقف قائم فعلاً لاعتبرَ طلبهُ بمثابة أمر (شرعي) ومُلزم (للحكومة)، وواجب التنفيذ على الفور دون مَخرج أو مَدخل أو ربما حتى قرار قضائي…!
في فقرة تالية كتب الدكتور السعدي: (كانت حرب الــ 8 سنوات بين العراق وإيران بمثابة منتج هائل للأكذوبة بكل مستوياتها ومراتبها، بدءًا من الأجواء التي سبقت الحرب وامتلأت ببيانات التحريض والتعبئة ضد (الفرس المجوس) كما كان الإعلام العراقي يطلقه على إيران من تسمية، وليس انتهاءً بمجموعة البيانات العسكرية التي حاول كلّ طرف فيها زعم تحقيق انتصارات والتقليل من الخسائر بين صفوفه حتى أصبح التمييز واضح بين الحقيقة والأكاذيب ضرباً من المستحيل…).
سأقف عند هذه الأسطر غاضباً مشمئزاً من كل كلمة فيها، وأرى إن المحاور كمؤرخ وباحث خرج عن حيادتيه في التعبير وعن حقيقة التاريخ في ذلك، ويساورني الظّن لو أن الجنرال سلطان هاشم لا زال حيّاً وقرأ ما كتبه السعدي في مقدمته عن تلك الحقبة لندم على هذا الحوار، لأنها بلا شك ستمس شرفه العسكري، وسمعته كقائد ميداني منتصرّ في تلك الحرب، وكوطني عروبي ينتمي إلى العراق العربي، إضافة إلى بُعد هذه الفقرة عن مستوى الحوار الذي أجراه مع السلطان وهو قابع في سجنه ينتظر منيّتهُ قدراً أو إعداماً بيد سلطة خاضعة كلّيا لإعداء الأمس.
ثمَّ نسأل الدكتور علي مرة ثانية: هل تصفّحت كُتب التاريخ أو قرأت في المجلات –إن كنت واعياً في ذلك الوقت-عن أكاذيب إيران وتحريضها وإصرارها على الحرب من أعلى سلطاتها، والنعوت والصفات التي كانوا يطلقونها على العراق وحكامه وعلى دول الخليج العربي، منذ أن جيء بهم إلى السلطة عام 1979، وحتى اندلاع الحرب في 22/9/ 1980، وما بعدها، ناهيك عن العداء وضغينة الفرس تجاه العرب على مرّ التاريخ؟
لكنّي في كل الأحوال أتفهم مغزى هذه العبارات وأُقدّر موقفه المجامل والمحابي لذلك الطرف في هذا الزمن…!
وفي نهاية مقدمته الطويلة نسبياً يذكر السيد السعدي، جهوده مع مسؤولي السلطة الآن في أن يوثّق هذا اللقاء النادر والحصري مع السلطان بالصوت والصورة، كي يبقى الموضوع أمانة وشهادة تاريخية بلا تصرّف أو تزويق أو تشويه، لكنّه اصطدم برفض مُجحف من وزير العدل بحجّة الضوابط والسياقات المتّبعة في السجون العراقية، بل وأَملى شروط أخرى عليه منها عدم استعمال آلة تسجل للصوت، مقابل أن تنتدب إدارة السجن شخصاً تختاره ليتولى تدوين هذا اللقاء بالورقة والقلم…!
تُرى ما الحكمة من هذا السلوك… لا نعرف؟

 

 

 

 

 

ونُعرّج على بعض الأسئلة غير التقليدية نسبياً التي تضمّنها الحوار، وأرى إنها تستحق أن نُسلّط الضوء على أجوبتها. فتحدّث الفريق سلطان عن خطأهُ الأبرز في الحياة عندما لم يُذعن لنصيحة والده بالبقاء مدنياً يعتاش على تربية الجِمال ورُعْياها وأن مهنة الجيش عِبئاً كبيراً وأن نهايتها لن تكون جيدة وهذا ما جعله يعمل بتلك النصيحة وينقلها إلى أولاده الخمسة، إذ لم يدخل أيّاً منهم السلك العسكري.
وسُأل الفريق سلطان عن معركة الأنفال والتي من جرّاءها حُكم عليه بالإعدام فقال: إن هذه المنطقة لم تكن تحوي قرى أو تجمعات مدنية وأن أهلها هجروها منذ العام 1979، وعندما حصلت المعركة كان أفراد البيشمركة هم من تواجد عليها ومتعاونين مع القوات الإيرانية!
كما ذكر في السياق نفسه إنه لم يصدر أمراً باستعمال سلاح غير تقليدي أو كيمياوي لأنها أصلاً بيد القيادة العليا والتصنيع العسكري حصراً، أما قضية مدينة حلبجة فقد برّأته المحكمة في حينها، تلك المحكمة التي وقف فيها الفريق سلطان وقفة عز وكبرياء كالند أما جلّاديه.
وعن حرب الثماني سنوات ضد إيران والتي أصيب بها خمس مرات إصابات خطيرة، فأنه لم ير في جبهات القتال أي خبير أو مستشار عربي أو أجنبي من أي دولة، عدا التمويل المالي من دول الخليج العربي.
أما عن زملاءه ورفاقه في السلاح فإنه تشرّف بمعرفة عدد من كبار الضباط القادة والعمل معهم خلال خدمته الطويلة التي بلغت أربعين سنة، أمثال (مع حفظ الألقاب) نزار الخزرجي، (مثله الأعلى)، وصلاح عبود، ومحمد عبد القادر الداغستاني، وعبد الواحد شنان، وأياد خليل زكي، وحسين رشيد، وعبد الستار المعيني، وأحمد إبراهيم عمّاش، وأياد فتيّح الراوي، وسعدي طعمة، أما عبد الجبار شنشل فعدّهُ ضابطاً نموذجياً.
في سؤال آخر يصف علاقته بالرئيس صدام كعلاقة رئيس بمرؤوس كونه قائداً أعلى، فالرئيس يراقب ويتابع ما يحصل، ويستمع جيداً للإجابة وكان يأخذ ببعض مقترحاته خلال الحرب، لكن إذا أراد شيئاً فهو صاحب قرار لا نقاش فيه! وقال أيضاً إنه يشعر بالقلق في مقابلاته معه ويأخذ الحذر للحفاظ على نفسه وعلى سمعته الاجتماعية والعسكرية.
وفيما يخص دخول الكويت عام 1990، فيقول في يومها كنت أقضي إجازة اعتيادية في مدينتي الموصل وأنا بمنصب معاون رئيس أركان الجيش، وسمعت بما جرى من الإذاعة كأي مواطن، وأدركت على إثرها إننا مقبلون على كارثة…!
لقد فعلنا في حرب الكويت كل ما نستطيع وكل ما تتطلّبته العلوم العسكرية، ولم نقصّر بأي شيء لكن أصبحنا (كبعير البيت) في تحميله كل شيء حتى ينهار!
وعن مفاوضات خيمة صفوان عام 1991، التي كثر اللغط حول مسارها، فذكرها الفريق سلطان باختصار شديد ومشابهه لما دوّن تفاصيلها بالكامل زميله والعضو الثاني في المفاوضات الفريق صلاح عبود، في كتابه (أم المعارك… الحقيقة على الأرض). ولكن الفريق سلطان لا زال يجهل حتى اللحظة سبب أختار الرئيس صدام له دون سواه لترأس الوفد المفاوض. ورجّح ذلك لسببين، الأول: لابد أن تكون رتبة المفاوض العراقي مساوية لرتبة المفاوض الوفد الأمريكي الجنرال شوارزكوف. والثاني: وجوده في البصرة في حينها وقربه من خيمة التفاوض.
وعن تعينه وزيراً للدفاع عام 1995، إذ كان في حينها رئيساً لأركان الجيش ولم يكن راغباً بهذا المنصب السياسي الجديد، ويَعتقد أن رئاسة الأركان أقرب إلى روحه العسكرية وأكثر أهمية، وصلاحياتها في النظام الداخلي أوسع من وزير الدفاع، لكن القرار كان قد صدر من القائد العام!
وفي معرض ردّه عن سؤال أجده الأغرب من بين الأسئلة من حيث التوقيت والمكان هو:
(هل فكرت يوماً بالانقلاب على النظام لتخليص شعبك مما كان يعانيه؟).
فردَّ عليه بثباتة، كما يبدو لي من صيغة الجواب عندما قال: (هذا أمر لم أفكر فيه يوماً، ولم يخطر ببالي أن أقدم عليه، فلا أحب خيانة ما أقسمت عليه…!).
هكذا كان جواب الفريق سلطان، الرجل الواثق الأمين، والعسكري المحترف، والبطل الشجاع الذي نال عن خدمته العسكرية 28 نوطاً للشجاعة ووسامين للرافدين وأوسمة وتلطيفات ومكافئات أخرى.
أما عن سقوط الموصل بيد داعش عام 2014، وتصوراته عنها، قال بلغة الخبير والمجرّب وابن مدينة الموصل: إن أداء الجيش العراقي كان سيئاً ولم يستعد لهذا الاحتمال وطرق مواجهته، مشيراً في الوقت نفسه إلى عدد من الوسائل التي كان يجب اتباعها في الرد على ذلك. مع الأخذ بنظر الاعتبار إن داعش هو نمط جديد وتحدّيات لم يعرفها الجيش العراقي من قبل وأنه (أي داعش) ارتكب خطءً استراتيجياً قاتلاً جعل هزيمته حتميّة عندما أعتقد إنهم في موقع أقوى من الجيش العراقي، فالجندي العراقي صاحب نخوة ومروءة.
وعن مستقبل العراق فيما إذا سيطاله التقسيم أم لا؟
أجاب: لست متشائماً وأراهن على وعي العراقيين بالحفاظ على وحدة بلدهم، وتحدي أي قرار أو مخطط لتقسيمه.
أما طريقة استسلامه طوعاً للأمريكان في 19/9/ 2003، بوساطة أحد شيوخ العشائر في الموصل، هي الأسطر الأكثر إيلاماً في هذا الكُتيّب عندما ذكر إن الأمريكان وعدوه بالحفاظ على حياته وشطب أسمه من قائمة الـ 55 المطلوبين ومن ثمَّ الإفراج عنه بعد تسليم نفسه نظراً لسمعته الطيبة، لكن الأمريكان ديدنهم المكر والخداع دوماً، أدى إلى عدم الإيفاء بوعدهم له فقال نادماً على ذلك: (ليتني لم أسلّم نفسي…!).
بعد نهاية هذا الحوار كتب الفريق سلطان انطباعه عن هذا الحديث وعبّر عن سروره بذلك والموضوعات المتعددة الجوانب وكان مرتاحاً وتحدّث بصراحة عن آراءه متمنياً للسعدي التوفيق في مسعاه في إيصال الحقائق التاريخية وأيضاً للعراق وشعبه المجد والرفاه والأمان.
في ختام هذا اللقاء تمنّى الدكتور علي السعدي، التقاط صورة تذكارية نادرة مع الفريق سلطان هاشم، فوافق مدير السجن شرط من جهازه الشخصي، لكن بلاهة الوزير رفضت ذلك ولم يحقّق أمنية المحاور حتى في اللحظة تلك…؟!
لذلك سيكون الدكتور علي السعدي الشاهد والمؤتمن الوحيد أمام التاريخ على هذا اللقاء وحيثيّاته. ومن نافلة القول إن مبادرة الدكتور السعدي تستحق الثناء، وسبق صحفي، وسابقة تحسب له فيما بذله من جهود مضنية لإجراء لقاء مباشر وهو الوحيد مع أحد رجالات النظام السابق ومحاولات أخرى مع آخرين، والثاني من نوعه إعلامياً لهؤلاء الرجال بعد اللقاء المصوّر والمطوّل وفي المعتقل أيضاً مع المرحوم طارق عزيز نائب رئيس الوزراء عام 2010.
تحية للدكتور علي على هذا الجهد الاستثنائي في زمن استثنائي.
ويا للأسف فأن كثير من مسؤولي النظام السابق رحلوا عن هذه الدنيا أو هم في غياهب السجون أو منزوين دخل الوطن أو مغتربين في أوطان أخرى، لم توثّق ذكرياتهم وسير حياتهم لسبب أو آخر، وكان لا بد من ذلك كي تضاف لتاريخ العراق المليء بالأحداث الجسام والتناقضات والفوارق والسِفر!
وفي مساء يوم الأحد التاسع عشر من تموز عام 2020، رحل َسلطان العراق المأسور سلطان هاشم إلى في علّيّين مع الأنبياء والشهداء والصّدّيقين، بعد تعرّضه لنوبة قلبية، ولربما ستظهر في قادم الأيام أسرار أخرى لم تُنشر بعد من صندوق عائلة الفقيد… والله أعلم.
رحمهُ الله… ورحم الله شهداء العراق وأكرم مثواهم.