23 ديسمبر، 2024 5:52 ص

سلسلة التفاعل الكذْبَوي

سلسلة التفاعل الكذْبَوي

الكثيرون في الخارج ، من مؤسسات وأفراد ، يريدون تصوير ما يجري في العراق على انه الصراع بين الاسلام – متمثّلاً بهذه الأحزاب الدينية الحاكمة والمرجعيات الدينية الكلاسيكية او المتطرفة المتصدية ظاهراً والجماعات المسلحة – وبين العلمانية والقيم الديمقراطية – متمثلة بمجموعة من الأحزاب والمؤسسات والافراد ذات الظاهر الانسانوي – ، او على الأقل جعل المشاكل المنهكة للواقع العراقي اليوم في عهدة الإسلامويين ، وبالتالي الاسلام الذي يمثلونه .

لكننا سنستعرض هنا ما يُثبت بصورة قاطعة انّ الاسلام والعلمانية المقننة والمستندة الى التأصيل الفكري وكذلك الديمقراطية هي الفلسفات الأبعد عن واقع الساحة العراقية .

ولأننا نرى واقع المنظومة العربية السنية خالياً من الفلسفة والمشاريع الفكرية ، ومنتمياً لعدة مشاريع خارجية سياسية بحتة ، في سعي محموم نحو كل أمل – ايّ كان مصدره – يخلّصهم من كابوس مشاركة الشيعة لهم في الحكم ويعيد لهم حلم الانفراد الدكتاتوري بالسلطة وإدارة الثروة ، لذلك لن نتناولهم بالإشارة .

وكذلك الواقع الكردي الانفصالي ، الذي يعيش مظاهر التركيز على الاستقلال عن العراق ، بعد امتصاص النسبة الأكبر من الدم اللازم لتحيا دولة باسم كردستان ، والتي لن تحتكم لأيّة فلسفة او لمنظومة فكرية في السياسة وإدارة النظام الاجتماعي سوى الدكتاتورية وعبادة الأصنام البشرية ، والمتمثلة اليوم في تأليه ( مسعود البارازاني ) ، والذي يقوم هو وعشيرته – من خلال الحكم القبلي المشابه لحكم ال سعود – بقمع جميع مظاهر الرأي الاخر او التي تطالب بالحقوق المدنية والإنسانية . والظاهرة الكردية كشفت وتكشف باستمرار حقيقة نفاق المنظومة الغربية سياسياً ونخبوياً ، من حيث دعم سلطة قمعية قبلية تخالف القوانين وفلسفتها ، لأجل مصالح انية وأيدولوجية باطنية تقرأها تلك المنظومة الغربية ، كالشريان الموصول اليوم بين كردستان وإسرائيل .

اننا نستعرض فقط ما يعيشه الواقع الشيعي – ديموغرافياً – من انفصال عن القيم الاسلامية والديمقراطية سياسياً واجتماعياً . ولأجل بيان ذلك سنأخذ مثالاً بسيطاً من حيث مظهره العام ، وبالنسبة لفرق التطبيل الإعلامي المملوكة لأمراء الحروب وتجار المال والدماء ، لكنّه برأيي كافٍ جداً لفضح قبح ما عليه حقائق وجوه الداخل والخارج ، وهو على بساطته سيبدأ كشرارة غير ملفتة للنظر تشعل الفتيل اللازم لإثارة سلسلة التفاعل الكذْبَوي السياسي والاجتماعي . وهذه الاستعارة من مجال تخصصي ( الكيمياء ) نافعة جداً في تناول عدة مؤسسات رسمية ومجتمعية تريد – ظاهراً – الإصلاح اليوم ، لكنها في الحقيقة بؤر منتجة للفساد او حاضنة لوجوده .

… ماذا لو انفصل رجل عن امرأته ، وكيف يتعامل قانون الأحوال الشخصية العراقي القائم حالياً مع الطرفين من حيث الأبناء والانفاق ؟ .

انه بكل بساطة – ومن منطلق أولي – يحكم بحضانة الام للأولاد حتى بلوغهم سن الرشد ، وهو حسب ذات القانون الثامنة عشر ، فيما يحكم كذلك بوجوب الإنفاق المالي على الأب مطلقاً ، دون شمول الام بذلك ، حتى وَإِنْ كانت موسرة او ذات مصدر مالي معتد به .

ولا نريد هنا بيان الأسباب الخبيثة التي دعت المنظومة العلمانية و البعثيين لإقرار  مثل هذا القانون الفاسد فلسفياً على جميع المستويات الفكرية لأننا تناولناه سابقاً بشيء من التحليل ، لكننا نريد في هذا المقال ومن خلال هكذا قانون إثبات خلو الساحة السياسية العراقية من الأحزاب الاسلامية والأحزاب الديمقراطية .

فحسب الشرع الاسلامي تكون حضانة الأولاد للأكفأ من الأبوين ، وفي حالة كفاءتهما معاً تكون حضانة الابن الذكر للام  حتى بلوغه السنتين ، ومن ثم تكون حضانته للأب ، وحضانة البنت الأنثى للام حتى بلوغها السابعة ، ويتم تخييرهما عند البلوغ الى ايّ الأبوين يريدان ، وسن البلوغ حسب المشهور الشرعي هي التاسعة للبنت والثالثة عشر للولد الذكر .

ولا حاجة لبيان ما لهذه الأُطر الشرعية من ايجابيات نفسية واجتماعية ، تنفع كلا الطرفين ، وكذلك الأولاد ، وقصر مدة البلوغ التي تنتفي معها مشاكل جمة لو اخذنا بالبلوغ المطروح حالياً عند الثامنة عشر .

لكنّ ما يحتاج الى بيان هو موقف هذه الأحزاب الاسلاموية المتصدية للسلطة باسم الاسلام ، فيما يعيش مجتمعها – تحت حاكميتها وأغلبيتها التشريعية والتنفيذية – مثل هكذا قوانين مجحفة ، مخالفة للشرع والمنطق العقلائي ، والمتسبّبة بمشاكل نفسية واجتماعية للاطراف الاسرية كافة ، وفي ظلّ هذا ألكم الهائل من حالات الطلاق الراهنة والمتزايدة سنوياً لأسباب ناتجة عن العولمة الالكترونية غير المقننة او المهذبة فإنّ ذلك يعني مشاكلاً اجتماعية كبرى وملفتة للنظر .

ولو تجاوزنا هذه الأحزاب لاتفاق الجميع على نفاقها فإننا ملزمون بسؤال المرجعيات الدينية العليا المتصدية للشأن العراقي عن تبريراتها الشرعية والعقلية لبقاء المؤمنين في ظلّها وفي ظلّ إقرار الحكومة باحترامها واحتكامها لهذه المرجعيات ، وكذلك بالنظر للتسابق الذي نراه من الجهات التشريعية لإبداء الخضوع والطاعة للمرجعية العليا ، تحت حاكمية هكذا قوانين جائرة لا تنتمي لأية فلسفة عقلانية او شرعية ! .

ومن هنا يمكننا اجابة بعض المؤسسات النخبوية في الجمهورية الاسلامية في ايران التي تدعي قيام الحاكمية للإسلام في العراق ، بأنها تعيش حلماً او وهماً ، ليس له على الارض من واقع .

ويمكننا كذلك وبنظرة منصفة ازاحة حجب الوهم التي تلقيها دعاوى وطبول أمراء الحرب الذين يقاتلون باسم الاسلام والتشيع والولاية ، ويشكّلون العشرات من المنظمات والجماعات والتيارات المسلحة تحت عناوين مقدسة او تمزج بين الوطنية والقيم الدينية ، لكنّهم يعيشون وعوائلهم وعناصر منظماتهم تحت حاكمية هذه القوانين الشيطانية .

امّا من الناحية القانونية فهذه القوانين مخالفة لثوابت الاسلام ، وبذلك فهي مخالفة للدستور الذي ينص على انه ( لا يجوز سن قانون يخالف ثوابت الاسلام ) ، وبالتالي نعلم مدى النفاق والدجل الذي تعيشه مؤسسة مثل ( المحكمة العليا ) ، وكل ما تفرّع عنها من غواني ، فهي لم ولن تعترض على وجود مثل هذه القوانين المخالفة لنص الدستور ، لا لشيء سوى انّ هذه النصوص الحائرة من وضع الشيطان .

ولو اننا تناولنا هذه القوانين من الناحية الديمقراطية فإننا نرى مخالفتها الواضحة للفلسفة القانونية الديمقراطية او العلمانية عموماً ، حيث تقوم الفلسفة الديمقراطية على حرية الاختيار غالباً ، فيما تقوم العلمانية عادة على مبدأ المساواة ، وهنا لا نجد الاختيار معروضاً امام الرجل او الطفل ، ولا نجد المساواة معتمدة في حضانة الأولاد او الإنفاق المالي بين الطرفين ، حيث يتم سلب الأطفال عن ابيهم ، فيما يتم إجباره على الإنفاق وحده ، وهذا محض الاكراه وعدم الانصاف .

لكننا لم ولن نجد يوماً مؤسسة او فرداً من دعاة العلمانية او الديمقراطية تحت ظل الانسانوية يطالب بالعدالة او المساواة بين الطرفين قانوناً . لأنهم ليسوا معنيين بالقوانين الاجتماعية ، بل هم يهتمون فقط لمبدأ ( الخلاعة الاجتماعية ) . هم يبحثون فقط عن الانحلال والهدم الاسري وبالتالي الاجتماعي ، فنراهم يطالبون بالمساواة في الملبس والمظهر والبروز الى الشارع ، لكنّهم مثلاً لم يطالبوا بتعميم تلك المساواة لتصل الى قوانين الأحوال الشخصية والمنظمة للعلاقات الاسرية ، بل على العكس تماماً فقد وقفوا ضد جميع المحاولات الداعية الى اعادة النظر في القوانين المجتمعية . وهؤلاء العلمانيون او الديمقراطيون العراقيون لم نعد نحتاج في بيان حالهم الى كثير مؤونة ، فمواقفهم الصامتة تجاه النتائج التي تخلقها الحروب والصراعات المحلية والدولية من الدكتاتورية السياسية والاقتصادية ومن حيث العوائل المهجرة ومن حيث الفقر العام ومن حيث عمالة الأطفال ومن حيث الإجهاد الذي يصيب النساء ومن حيث البطالة التي تلحق بالرجال وكذلك الدكتاتورية الوظيفية والغاء المظاهر النقابية وانعزالهم بلا مشاريع او رؤى او فاعلية تجاه كل ذلك ، فيما السعار والانتفاض المفاجئ الذي يصيبهم عند إغلاق احدى البارات او النوادي الليلية او التعرض لإحدى الراقصات ، يكشف عن كونهم مجموعة من اصحاب الغرائز ارتدوا ما يستر عوراتهم .

وحال هؤلاء شبيه بما عليه الملحدون العراقيون – العلنيون او الحاكمون خلف الكواليس على المؤسسات والجمعيات الأدبية والإعلامية والسياسية – حيث لن يجد احد ما لديهم جواباً لمثل هكذا إشكالات قانونية او اجتماعية سوى القلقلة وإحالة السائل على تجربة ما في الشرق او في الغرب ، دون ان يعوا مدى مطابقتها للواقع والمجتمع العراقي او غيره . فهم ليسوا سوى مجموعة غرائز تحاول المحافظة على نشاط الشهوات لديها الى مرحلة عمرية ابعد من الستين عاماً .

امّا المؤسسة القضائية العراقية فهي اقرب الى مدمن المخدرات الذي يحاكم مدمناً اخر ، حيث ساهم الكثر من رموزها المتواجدين اليوم في سن هكذا قوانين متخبطة بلا فلسفة ، لا لشيء سوى الطاعة والخنوع للطاغوت والمال والشهوات . وهم يَرَوْن التعارض بين الفلسفة التي على أسسها تمت كتابة الدستور العراقي الحاكم وبين القوانين العشوائية الجائرة التي يحاكمون الناس على اساسها ، لكنّهم لا يملكون ان يغيروها لأسباب نفسية ترتبط بمصالحهم . ( يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ ) .

وحال المؤسسة الحقوقية العراقية ليس مختلفاً كثيراً عن المؤسسة القضائية ، فرجالاتها لا يَرَوْن أنفسهم اكثر من موظفين حكوميين ، يمثلون السلطة لا الشعب ، حيث يعملون من حيث لا يشعرون على تكريس الإجحاف الذي تولّده مثل هذه القوانين اجتماعياً ، مع دور اخر ناعم هو العمل على تبرير وجود هكذا قوانين باطلة فلسفياً ، عبر استغلال سذاجة المجتمع العراقي قانونياً بسبب التركة البعثية المقيتة ، فيوجدون فلسفات شخصية ترفع النبذ الاجتماعي عنهم ، حيث انهم قد يُتهمون بأكل الحرام والسحت إِنْ علم وفهم الناس بطلان وعدم شرعية القانون الوضعي دينياً وانسانياً .

امّا المجتمع العراقي العام فهو لا يريد الدخول في مثل هكذا تفاصيل لأسباب عديدة ، منها الضجة والصداع الذي تسببه لهم في ظلّ وجود مسببات اخرى لمثل هذا الصداع ، وكذلك هم لا يرغبون بانهيار كل هذه المنظومة القيادية الدينية والسياسية والاجتماعية في حال تمّ الكشف عن نفاقها جميعاً ، بعد عرضها على النصين الديني والديمقراطي الإنساني .

وأخيراً كل ذلك يُظهر مستوى النفاق الذي تعيشه المنظومة الدولية في الغرب او الشرق تجاه الواقع العراقي ، حيث انها بعيدة عن احترام معتقدات وتشريعات المجتمع العراقي الدينية ، كما انها بذات البعد عن احترام القيم الديمقراطية والإنسانية التي عليها أنْ تساعد في إيجادها داخل هذا المجتمع بناءاً على مدّعاها النظري .

من خلال هذا المثال القانوني البسيط الذي ذكرناه ندرك جيداً انّ ( الاسلام ) ليس حاكماً في العراق ، وانّ ( الديمقراطية ) ليست مبدأً مطروحاً فيه ، وانّ الامر برمته ليس سوى خدعة كبيرة تديرها الدول الكبرى وأمراء الحروب واصحاب الثروات الغير مشروعة وعمائم الأيديولوجيا السلطوية والغرائزيون ، هدفها قتل شخصيتين ، هما ( الاسلام ) و ( الشعب العراقي ) . وليس القتل بالسيف وحده ممتعاً عندهم ، بل القتل البطيء للقيم والنفس والروح ، بل انّ الامتصاص للدماء والارواح هو الالية الحاكمة على هذه الارض اليوم .

[email protected]