الترهل في جسد الحزب الشيوعي منعه من قرارات حاسمة ضد عبد الكريم قاسم
الحلقة 3
التقاط الجوهري من الأشياء
تتعدّى مزايا سلام عادل كونه شهيداً وبطلاً، فهذا أمرٌ مفروغ منه، لكن قيمته الحقيقية هي في مواهبه ومبادرته التنظيمية وعقله الستراتيجي في التقاط الجوهري من الأشياء وقدرته في الاستفادة من الكفاءات التي حوله، ولاسيّما قبل ثورة 14 تموز (يوليو) 1958.
كما حاول بعد الثورة ضم وإشراك الكثير من القيادات ” التاريخية” و”الشابة” لاحقاً إلى قوام اللجنة المركزية وهيئات الحزب، لتوسيع دائرة اتخاذ القرار على الرغم من بعض تناقضاتها، وذلك يتجلّى بعمله الدؤوب في استعادة وحدة الحزب دون إقصاء أو إلغاء أو تهميش، بل بمشاركة واعية، وكذلك في إعداد الكونفرنس الثاني العام 1956.
أعتبر شخصياً وثائق الكونفرنس الثاني من أهم وثائق الحزب وأنضجها حتى الآن، آخذاً بنظر الاعتبار سياقها التاريخي، وهي الوثائق التي لم يتم الحديث عنها منذ أكثر من 6 عقود من الزمان وكأنها أصبحت نسياً منسيّاً، ثم في التحضير لجبهة الاتحاد الوطني العام 1957 وإقامة علاقة مع شبكة الضباط والجنود والأشراف من التنظيم العسكري، والإعداد للثورة بالعلاقة مع الضباط الأحرار العام 1958.
وحتى بعد الثورة فقد كان الترويج لأهم شعارات الحزب من صنع ومشاركة سلام عادل وقيادة الحزب، بحيث أصبحت قوة مادية في الشارع وهي الخروج من حلف بغداد الاستعماري والتحلّل من الاتفاقيات والمعاهدات الاسترقاقية المذلّة والانسحاب من نظام الكتلة الاسترلينية والدعوة للإصلاح الزراعي والتوجه لاستعادة حقوقنا من شركات النفط الاحتكارية والانعطاف نحو المعسكر الاشتراكي والمطالبة بالحريات وإبراز أهمية حقوق المرأة ومساواتها مع الرجل، لاسيّما في العام الأول من عمر الثورة. ولهذا لا يمكن اختزال سلام عادل إلى مجرد قيامه ببعض المهمات الحزبية أو إشرافه على الجريدة كما ورد في تعليق لكادر حزبي.
خلافات ومعوّقات
لكن الخلافات التي دبّت في الحزب الشيوعي، إضافة إلى نهج الغرور ومحاولة الانفراد بالشارع وتهميش دور الآخرين دفعت قيادته إلى ارتكاب أخطاء عديدة اعترف بها على نحو شجاع تقرير العام 1959 (اجتماع ل.م) وإن كان الأمر يحتاج إلى طائفة من التدابير لم يتم التوصل إليها أو لم تتخذ الإجراءات المناسبة التي تقتضيها، وهو ما أضعف محتوى سياسة الحزب وجوهرها، خصوصاً بعض الأطروحات العائمة التي طبعت السياسة العامة. فما معنى تضامن – كفاح ثم : “كفاح، تضامن، كفاح”، الذي يتم شرحه بتأييد الخطوات الإيجابية في سياسة عبد الكريم قاسم ونقد الخطوات السلبية، وتأييد السياسة الخارجية ذات الشحنات الإيجابية ونقد السياسة الداخلية ذات التوجّهات السلبية.
كما أن شعار ” السلم في كردستان” لم يكن شعاراً يليق بالحزب الشيوعي، فقد كان يمكن وضع شعارات أكثر تعبيراً عن الشعب الكردي من جهة على سبيل الحكم الذاتي، وخصوصاً بربطه بالديمقراطية لمعالجة مبدأية تتجاوز اللحظة الآنية ذات الاعتبار الأخلاقي العام والتي تتعلّق بقضية السلام إلى طرح حلول ذات أفق مستقبلي، وقد حاول سلام عادل تعديل ذلك بالتقرير الذي ساهم في إعداده جمال الحيدري بتوجيه منه وتحت إشرافه حول القضية الكردية، ولكن بعد فوات الأوان.
وكان على سلام عادل معالجة قضية “شرعية القيادة” ليس بالإنجاز فحسب، بل في الأطر الحزبية والديمقراطية ، خصوصاً وإن ظروف ما بعد الثورة كانت تسمح بذلك، ولعلّ من ذيول هذه القضية ظهرت ما عُرف “كتلة الرفاق الأربعة” (عامر عبدالله وزكي خيري وبهاء الدين نوري ومحمد حسين أو العيس) ولو كان قد تم عقد مؤتمر أو حتى كونفرنس حزبي في فترة كان الحزب “علنياً” أو “شبه علني” لكان قد اكتسب شرعية أكبر بل وشرعية حقيقية، لكن ذلك لم يحصل.
وقد أحدثت تلك الإجراءات وما رافقها ردود فعل سلبية، ليس هذا فحسب، بل إن العقوبات التي أنزلت بالرفاق المتكتّلين دفعت بعضهم إلى كتابة رسائل مذلّة بحق أنفسهم وتاريخهم وقد ناقشت هذا الموضوع في كتابي عن عامر عبدالله ” النار ومرارة الأمل” وعكست تلك الرسائل التي تم تقديمها باسم ” النقد الذاتي” (زكي خيري وأبو العيس) التشدّد في طلب تجريح الذات وليس نقدها والإساءة إلى النفس، الأمر الذي زاد من حدّة المشاكل حول الشرعية الحزبية في ظلّ عدم انعقاد مؤتمر للحزب، وهو ما كان ينبغي ألّا يسمح به أصلاً وألاّ يطلب منهم ذلك، لأن ذلك سيؤدي إلى التذلّل ويساعد على المداهنة والمراوغة.
ولم يدرس الحزب بشكل كاف موضوع السلطة والموقف منها بشكل كاف في عهد سلام عادل وقد يكون الانقسام الذي حصل في القيادة الحزبية وراء ذلك، واضطرّ سلام عادل إلى السفر إلى موسكو للدراسة الحزبية، برضاه أو بالرغم عنه، وسواءً كان ذلك تحت ضغط السوفييت أم بدونه، لكنه حين قرّر العودة إلى العراق وقطع دراسته كان ينوي اتخاذ خطوات جديدة أكثر تشدّداً إزاء قاسم ولكن الترهل الذي أصاب جسم الحزب وانقسام قيادته لم يساعده في ذلك، وظل الحزب يعاني من سياسة انتظارية، الأمر الذي بث روح الملل والروتينية حد القنوط في صفوفه، وكان هذا بحد ذاته بداية “هزيمة” قبل انقلاب 8 شباط (فبراير) الفاشي.
كان الحزب يتصرّف وفقا لرد الفعل وينتظر القدر ” الغاشم” (المؤامرة المنتظرة ليتصدّى لها) وتدريجياً لم يكن لنا حلفاء يعتدّ بهم، أما ما أطلق عليه ” النضال الجماهيري” فقد انحسر بالتدرّج حيث ضعفت مبادراتنا، وكانت أقرب إلى ردود فعل سواء إزاء سلطة قاسم أو بخصوص المسألة الكردية أو لمواجهة الإضراب الطلابي الذي فرضه البعثيون والقوميون والاتحاد الوطني لطلبة العراق تحضيراً لانقلاب 8 شباط (فبراير) الدموي العام 1963 وغيرها.
ولم يكن التراجع منظّماً واتّضح أننا واجهنا التحدّيات بخطة طوارئ فاشلة “وبمسدس مايثور” “لأنه تعرّض للصدأ” حسب وثيقة تقويم صدرت العام 1967 في غمرة الصراع الحزبي، كما أن مواجهة انقلاب 8 شباط (فبراير) كانت محدودة على الرغم من البطولة والبسالة، وكلّ ذلك حتى وإنْ كان يتحمل قسطه الأكبر الرفيق سلام عادل بصفته التنظيمية بنجاحاته وإخفاقاته، لكنه لا ينبغي نسيان خصاله الباهرة وسجاياه وشفافيته الإنسانية المتميّزة ، فضلاً عن بطولته النادرة، ونحن حين نتناول ذلك فإننا إزاء تقويم سياسي وعلينا أن نضع العواطف جانباً ونركن قدر الإمكان في البحث عن الحقيقة والتعامل مع المعطيات والمعلومات المتوفرة بروح موضوعية .
الوحدة أم الاتحاد؟
لقد أطاحت ثورة 14 تموز (يوليو) بالنظام الملكي وأعلنت العراق جمهورية ، وكان الحزب الشيوعي من الأحزاب التي هيّأت للثورة أو شاركت في التحضير لها مثله مثل الأحزاب الأخرى، على نحو مباشر أو غير مباشر وبدرجات متفاوتة بالطبع مع نفوذ كل حزب ودوره، وكان كادره القيادي قد اطّلع على بيان صدر عن الحزب يوم 12 تموز (يوليو) يوحي فيه إلى احتمال قيام أحداث مهمة ويوصي بالاستعداد لها ورفع درجة اليقظة.
وعندما اندلعت الثورة وجد الحزب نفسه سبّاقاً إلى تأييدها في الشوارع والساحات ومعه الأحزاب الأخرى، على الرغم من درجة تعبئتها كانت أدنى كثيراً، وكان لمثل هذا التأييد الشعبي أن يؤدي إلى قطع الطريق على رجالات العهد الملكي ومنعهم من القيام بحركة مضادّة، كما أنه يكون قد قطع الطريق أمام التدخلات الخارجية، على الرغم من إنزال القوات الأمريكية في لبنان والقوات البريطانية في الأردن، لكن التفاف الشعب وفيما بعد دعم حكومة الجمهورية العربية المتحدة وحكومات البلدان الاشتراكية، لاسيما الاتحاد السوفيتي أحبط أية إمكانية للانقضاض على الثورة.
ومنذ الأيام الأولى احتدم النقاش الداخلي، لاسيّما بين أطراف جبهة الاتحاد الوطني التي تأسست في 7 آذار (مارس) 1957، حول شعارات الوحدة والاتحاد، فحزب البعث إندفع باتجاه “الوحدة الفورية” وهو ما يذكره عدد من قادته مثلما هو خالد علي الصالح وهاني الفكيكي وعبد الستار الدوري وحازم جواد وعلي صالح السعدي وطالب شبيب، وتسنّى لي محاورة بعضهم بشكل مطوّل ومعمّق، وكان الرأي السائد أن ميشيل عفلق بعد زيارته إلى بغداد وبقائه في فندق بغداد، حسم الأمر برفع شعار الوحدة العربية، في حين أن الشيوعيين، لاسيّما عامر عبدالله وعزيز الحاج وسلام عادل وجمال الحيدري وبهاء الدين نوري وآخرين ، كانوا قد رفعوا شعار الاتحاد الفيدرالي وروّجوا له، وتسنّى لي حوار عدداً منهم أيضاً، وكان الطرفان يستفزّ أحدهما الآخر بطريقة صبيانية أحياناً، أوعلى أقل تقدير غير عقلانية، واندفع داخل الطرفين تيار إستئصالي، إلغائي، تهميشي، ونسى الجميع ميثاق جبهة الاتحاد الوطني، ولعلّ ما كتبه العديد من قيادات أحزاب تلك المرحلة تعكس التوجهات السائدة ودرجة الاستقطاب والتنافر.
وأظن أن الحركة الوطنية بأطرافها الأساسية، انقسمت حول هذين الشعارين، فالحركة الكردية مالت إلى شعار الاتحاد الفيدرالي ومعها أوساطاً من الحزب الوطني الديمقراطي، وما سمّي بالجناح اليساري الذي قيل أن كامل قزانجي يمثله وهو الذي استشهد العام 1959 في أحداث حركة الشواف في الموصل، كما مالت حركة القوميين العرب وبقايا حزب الاستقلال وبعض الشخصيات القومية الأخرى إلى شعار الوحدة العربية مع الجمهورية العربية المتحدة، وهو ما كان حزب البعث يطرحه.
وكان هذا الانقسام عمودياً ومركزياً من القمّة إلى القاعدة، وفي حين انحاز أحد قادة الثورة العقيد عبد السلام عارف إلى شعار الوحدة وألقى عدداً من خطبه الرنانة في عدد من المدن والمحافظات العراقية، كان الزعيم عبد الكريم قاسم رئيس الوزراء أقرب إلى شعار الاتحاد الفيدرالي، وقلْ إنه لم يكن مع شعار الوحدة الاندماجية المطروح.
وأستطيع القول من باب النقد الذاتي وليس افتئاتاً على أحد، أن الحركة الوطنية بقضّها وقضيضها لم تكن ناضجة في تلك الفترة، وعاشت مرحلة مراهقة سياسية، ولعل وعي الكثير من قياداتها كان متدنّياً، فضلاً عن التمترس والرغبة في كسب الشارع والحصول على المواقع في الجيش والسلطة والمؤسسات النقابية والمنظمات الاجتماعية، في وضع أشبه بالغليان، أو حركة سيرك بكل الاتجاهات.
خصوم قاسم
لقد عشعش مرض الطفولة اليساري لدى غالبية أطراف الحركة الوطنية وأعني بذلك نهج التهميش والعزل والإقصاء والاستئصال، فالبعثيون والقوميون استقووا بالجمهورية العربية المتحدة وبالرئيس جمال عبد الناصر وببعض قادة الجيش وانضمّ إليهم بعض القوى المخلوعة والمتضرّرة من الثورة وحاولوا المرّة تلو أخرى الانقضاض على الحكم الجديد، سواءً بحركة العقيد عبد الوهاب الشواف أو بمحاولة اغتيال الزعيم عبد الكريم قاسم في شارع الرشيد (رأس القرية) ببغداد وصولاً إلى انقلاب 8 شباط (فبراير) الدموي العام 1963.
والشيوعيون ومن حولهم استقووا بالشارع وأصبحوا ينظرون للآخرين من خلال مواقعهم بغرور أحياناً وبعسف أحياناً أخرى، لاسيّما باختلال المعادلة بين قمة السلطة وقاعدتها، فعلى الرغم من تمثيل جميع القوى الوطنية بحكومة الجمهورية الأولى، إلاّ أن الحزب الشيوعي أستُثني منها، وهو الأطول عمراً، والأكثر تضحية والأصلب عوداً في محاربة النظام الملكي، لكن حصته من مناصب ما بعد الثورة كانت محدودة في السلطة، وإلى حين استيزار د. نزيهة الدليمي بعد احتدام الصراع مع القوميين والبعثيين، لم يكن أحد يمثّله في الوزارة، بما فيهم ابراهيم كبة أو غيره في حين كان حسين جميل وهديب الحاج حمود يمثّلان الحزب الوطني الديمقراطي وقبل ذلك محمد حديد، وكان محمد صدّيق شنشل يمثل حزب الاستقلال وكان فؤاد الركابي يمثل حزب البعث، أما الحزب الشيوعي فقد استبعد في بداية الأمر، ثم ضمّ لاحقاً.
جدير بالذكر أن مسألة الوحدة الفورية أم الاتحاد الفدرالي كانت قد واجهت ثورة 14 تموز ونالت من الجدل والصراع ما لم تنله مسألة أخرى، وقد تشبّث كل فريق بوجهة نظره وأحياناً ذهب بعيداً فيها، فالشيوعيون الذين لم يكونوا بعيدين عن موضوع الوحدة أو الاتحاد كما تبين وثائقهم راحوا يبالغون أحياناً في عرض مساوئ الوحدة، خصوصاً بتجربة الوحدة المصرية – السورية والموقف الرسمي من الحزب الشيوعي السوري الأمر الذي ساهم في التباعد مع الأطراف الوطنية العراقية، والبعثيون أنفسهم حين تشبثوا بالوحدة الفورية بالغوا فيها لدرجة ازدروا كل شكل من أشكال الاتحاد سواها، والهدف هو إحراج الشيوعيين وإظهارهم بمظهر أعداء الوحدة، علماً بأن الحزب الشيوعي في سوريا ولبنان كان قد طرح موضوع الوحدة والاتحاد منذ العام 1931 ونادى مع الحزب الشيوعي الفلسطيني بـ”اتحاد عربي” وكانا يدعوان إلى وحدة طوعية وفدرالية تحفظ الاستقلال التام للدولة الوطنية ، بمعزل عن نفوذ الاستعمار.
وكان البيان الذي وزّعه فهد في الناصرية العام 1932 قد دعا إلى “اتحاد الجمهوريات العمّالية والفلاحية في البلدان العربية” وفي العام 1935 اتخذ كونفرنس الأحزاب الشيوعية العربية في المشرق قراراً في الدعوة للاتحاد العربي، ولهذا أقول بأن حماسة الشيوعيين للوحدة والاتحاد ليست أقل من القوى القومية ، لكنهم كانوا يراعون الفروق في تطور البلدان العربية وأنظمة الحكم والظروف الداخلية وغير ذلك، وهو ما كان قد تبنّاه الكونفرنس الثاني الذي جرت الإشارة إليه العام 1956 حين رفع شعار الوحدة العربية معتبراً الطريق إليها يقوم بزوال الاستعمار وتحقيق الاصلاحات الديمقراطية.
(انظر: عزيز سباهي – عقود من تاريخ الحزب الشيوعي العراقي، ثلاثة أجزاء ، ج 2 ، دمشق، 2003، ص 333 وما بعدها. انظر كذلك: الحزب الشيوعي العراقي – خطتنا السياسية في سبيل التحرر الوطني والقومي ، 1956، ص 53).
تناقضات وأخطاء
وكانت مواقف الحزب الشيوعي متناقضة أحياناً، فبدلاً من يفكّر بالاستيلاء على السلطة استولى على الشارع وحاول احتكار العمل السياسي والنقابي تحت شعارات “لا حرية لأعداء الشعب”، و”لا ديمقراطية لأعداء الديمقراطية”، الأمر الذي جعله في تناقض آخر بينه وبين السلطة، متجهاً نحو اليسار إزاء الشارع، ومتوجهاً نحو اليمين إزاء الموقف من السلطة، باستعارة توصيفات الستينيات.
ومن جهة أخرى فقد جعلت تلك المواقف الحزب الشيوعي في تعارض مع غالبية قوى جبهة الاتحاد الوطني، وبالرغم من نفوذه الجماهيري الّا أن الشعور بالعزلة تسلّل إليه بالتدرّج إزاء علاقته بالقوى الوطنية الأخرى، بغض النظر عن مسؤولياتها هي أيضاً.
أعتقد، بقدر إخلاص قيادة الحزب الشيوعي للثورة وحرصها عليها، فإنها لم تكن على قدر من الوعي يؤهلها لرؤية متطلبات تطوير الثورة بالتعاون مع القوى الوطنية على برنامج حد أدنى، وعلى الرغم من اندفاعات القوى الأخرى وتكتّلها للإطاحة بحكم قاسم وفي فترة مبكرة زمنياً، لكن الممارسات السلبية للاستحواذ على الشارع وعزل الآخرين قادت إلى أحادية ومحاولة تزعّم، بعد انفضاض جبهة الاتحاد الوطني، التي كان يمكن تجديد برنامجها بما يستوجب لمرحلة ما بعد الثورة، لكن جميع القوى لم تكن مدركة وواعية لما أقدمت عليه.
ومرّة أخرى أقول: إنه بقدر إخلاص قيادة الحزب الشيوعي ولاسيّما قيادة سلام عادل ونبله واستشهاده لاحقاً، فإن المرحلة السياسية وسياقها التاريخي، لم يؤهلاه ليتخذ مواقف أخرى، فذلك كان حدود مستوى التفكير السائد، فارتكب العديد من الأخطاء والممارسات السلبية وأعمال العنف والإرهاب، لاسيما ما حدث في الموصل وكركوك، وبقدر مسؤولية القوى الأخرى، كانت كبيرة جداً، إلاّ أنه لا ينبغي التقليل من المسؤولية التي تقع على الحكم والجماعات القريبة منه، لاسيّما الحزب الشيوعي، الذي كان عليه أن لا يلعب دور الشرطي لحكومة يمكنها أن تسائله على ارتكاباته حتى وإنْ سكتت عنها، ناهيك عن أن الارتكاب مدان بالأساس ومرفوض لإعتبارات سياسية وإنسانية وأخلاقية، وتحت أية مبررات، أوردت أمثلة كثيرة على ذلك في كتابي عن عامر عبدالله ” النار ومرارة الأمل”، لاسيّما بعض الحوادث التي يمكن الرجوع إليها.
كانت قيادة الحزب الشيوعي قبيل الثورة قد تمرّست في النضال والتضحيات في ظروف العمل السري، وحقّقت إنجازات مهمة منها توحيد الحزب العام 1956 وقيادة انتفاضة العام ذاته تضامناً مع الشقيقة مصر ضد العدوان الثلاثي، ثم تشكيل جبهة الاتحاد الوطني التي كان للحزب دوراً فعّالاً فيها العام 1957، كما تم الاتصال بمنظمة الضباط الأحرار، ومع قيادة الثورة تحديداً من قبل رشيد مطلك (الوسيط) بين الحزب وقاسم، وعقد اتفاق مع الحزب الديمقراطي الكردستاني (البارتي)، بعد رفض أحزاب الجبهة قبوله عضواً فيها بسبب مواقف بعضهم من القضية الكردية.
لكن العمل العلني فاجأ قيادة سلام عادل، التي اعتادت على العمل السري، ولم يكن لديها خبرة في شؤون الدولة والإدارة، ناهيك عن الأعداد الغفيرة التي انخرطت في صفوف الحزب، وأحدثت نوعاً من الإرباك لدى القيادة، التي تصرّفت بطريقة غير موحّدة، وببرنامج غير موحّد أيضاً، بل يمكن القول دون برنامج واضح ومحدّد، وتقاذفتها اتجاهات شتى، فمن جهة هناك تيار أقرب إلى قاسم مثّله عامر عبدالله وما سمّي “كتلة الاربعة” لاحقاً التي ضمت زكي خيري وبهاء الدين نوري ومحمد حسين أبو العيس الذي لم يكن فكرياً منسجماً مع الرفاق كما يقول آرا خاجادور في حواراتي المطوّلة معه، لكنه كان قد أبدى تحفّظات حول قيادة سلام عادل، وتيار آخر بقيادة الأمين العام سلام عادل وجمال الحيدري عضو المكتب السياسي والعدد الأكبر من اللجنة المركزية، الأمر الذي عطّل بعض قرارات اللجنة المركزية وأدخلها في صراعات جانبية كثيرة.
كان تشكيل قيادة الحزب ما بعد الثورة قد جاء من ثلاث روافد مهمة: الأول من السجون، حيث ضمّت سجناء قضوا سنوات طويلة في السجن مثل زكي خيري وعزيز الحاج وعزيز محمد وآرا خاجادور وهادي هاشم الأعظمي وبهاء الدين نوري وصادق الفلاحي وآخرين، والثاني من المنفيين الذين عادوا إلى الوطن، مثل محمد حسين أبو العيس وعبد القادر اسماعيل وغيرهم، أما الثالث فمن المختفين عن الأنظار في “أوكار حزبية”، مثل سلام عادل وعامر عبدالله وناصر عبود وجمال الحيدري وآخرين، أي أن الجميع منقطع عن الحياة العامة، ولا علاقة له بتصريف شؤون الحكم أو الدولة، كما أن مستوى الثقافة كان متدنّياً إلى حدود كبيرة، ناهيك عن نظرة ستالينية جامدة إلى الحياة والمجتمع والتقدّم، كلّ ذلك أفرز تشدّداً وتطرّفاً مثلماً كان لدى القوى الأخرى، ولاسيّما من القوميين والبعثيين، بل أن الجميع شعروا أن المعركة هي معركة كسر عظم، وعليهم أن يتخلّصوا من الآخر قبل أن يتخلص منهم، أي أراد كل فريق أن يتغدّى بالفريق الأخر بدلاً من أن يتعشى به.
في هذه الأجواء لعب قاسم لعبته، فبعد تقريب الحزب الشيوعي واستثماره “ماشة نار” للقضاء على خصومه في الجيش، لاسيّما عبد السلام عارف، خصوصاً بحشوده المليونية وجماهيره الغفيرة وشعاراته الرنانة، لكنه استشعر الخوف وسعى لتحجيم دوره وإضعاف تأثيره منه لثلاثة أسباب:
السبب الأول هو تظاهرة الأول من أيار (مايو) 1959 والمطالبة: “الحزب الشيوعي بالحكم” للضغط على قاسم لتمثيل الحزب الشيوعي، ثم تنكّر واستنكر الحزب وقيادته بعد اجتماع موسع للّجنة المركزية هذه السياسة وشعاراتها. وقد رويت في مطالعتي عن آرا خاجادور ملابسات رفع شعار المطالبة بالحكم في المسيرة الشهيرة على الرغم من أن جريدة اتحاد الشعب كانت قد هيأت له منذ يوم 28 نيسان (إبريل)، ولكنه ظل شعاراً عاماً ولم تتخذ القيادة موقفاً موحداً بشأنه، بل أنها انساقت وراء الجماهير التي رفعته وبدلاً من توجيهها أصبحت تحت رحمتها (انظر : شعبان ، عبد الحسين – آرا خاجادور وزيارة التاريخ ، مقالة نشرت في صحيفة الزمان على ثلاث حلقات بين 28 و30/1/2016- ورسالة مفتوحة إلى الراحل آرا خاجادور والمنشورة في صحيفة الزمان العراقية في 9/12/2017) .
نشرت في صحيفة الزمان العراقية العدد 6071-6072 الاحد 24/6/2018