” الجبناء يموتون مرات عديدة قبل موتهم والشجاع يموت مرة واحدة”
فقدت الانسانية البارحة أحد رموزها الكبيرة التي ناهضت التمييز العنصري وانتصرت لحقوق الأقليات في العالم وهو المناضل الأممي الجنوب الافريقي نيلسون مانديلا الذي كرس حياته لمقاومة الظلم والاستبعاد والغبن التي عانت منه الأغلبية السوداء من طرف الأقلية البيضاء.
لقد آمن مانديلا بأهمية الفعل السياسي وقدرة الاجتماع البشري على التغيير وأهمية امتلاك الوعي السياسي النقدي ودور الضغط الشعبي والاحتجاج الجماعي في اسقاط السلطات الاستبدادية وتفكيك الذهنيات القمعية ورفض الانطواء على الذات والتبرير ومهادنة الأنظمة الحاكمة والاكتفاء بالتمني والمطالبة والأحلام والمحافظة على الحياة الثكن وآمن بافتكاك حق الحرية بواسطة العصيان المدني والكفاح السياسي وتبني الايديولوجيا الثورية والاعتصام بالقيم التقدمية.
لقد اشتهر مانديلا ببقائه في السجن العنصري لمدة طويلة قاربت ثلاثة عقود وتمسكه بالمبدأ واصراره الكبير على ازاحة الأفكار المتعصبة والممارسات الظالمة من الوجود الاجتماعي وكان مثالا ساطعا للشخص البطل القادر على الصبر عند المحن وعدم تقديم التنازلات المذلة في سبيل مصلحته الشخصية وتحلى بشجاعة الوجود والاخلاص لوطنه والوفاء لشعبه في تجربته النضالية ويقظته الشبابية لصناعة الانعتاق السياسي والتحرر الطبقي من نير الاستعمار والتبعية للغرب.
لقد كان نصير المظلومين في العالم وداعية لحقوق الانسان وقبلة المضطهدين وصديق المناضلين والأنظمة الثورية وحركات التحرر الوطني ووقف الى جانب الملونين وطالب بتغيير الصورة السلبية التي تتعامل بها الأعراق الأخرى معهم ونظر لوجاهة التنوع والتعدد والاختلاف ونجح في ترسيخ ثقافة ديمقراطية مبنية على قيم التسامح واللاتعصب واللاتمركز والتعايش والمساواة.
من محاسن مانديلا ومزاياه أنه مضى دون تردد في طريق التحرر الوطني لشعبه الى ما لا نهاية وقاد ثورة اجتماعية مفعمة بالشموخ الافريقي وأدوات مشروعة وأيادي نقية وحقق مراده العادل.
بعد ذلك تنازل عن الحكم لمن هو أقدر منه ووفى بوعده ووفق بين النظرية والممارسة وربط بين القول والفكر والفعل ووضع حدا لنموذج الحكم المؤبد والزعيم الذي لا يرحل عن اللسلطة الا كرها . كما عالج العلاقة بين النظام السياسي العنصري الذي نكل به في القديم والنظام السياسي الشعبي الذي أسسه على اساس العدالة المنصفة وذلك بإتباع عملية المجاهرة بالحقائق والاعتراف بالذنوب والأخطاء في المقابل التنازل عن التتبع والصفح والمصالحة والتخلي عن عقلية الانتقام والثأر. لقد تحولت تجربة الكفاح الوطني التي قادها المناضل نيلسون مانديلا الى نموذج تلهم الشعوب وتحفزها الى أهمية الارادة الشعبية في تحقيق المطالب السياسية ودور الثقافة المدنية والايمان بحقوق الانسان في تفكيك قلاع الاستبداد وأبان عن افلاس النظريات العنصرية وفضح أبعادها الظاهرية التجميلية وكشف عن جوهرها الفاسد وحقدها الدفين على الانسانية وترويجها لفكر مظلم وفعل جبان وأظهر نتائجها الكارثية على الصداقة بين الشعوب والحوار بين الثقافات.
لقد آمن الزعيم الراحل بدور التربية والتعليم في بناء مجتمع متعدد ومتماسك وخال من الاقصاء والتهميش وجعل من الثقافة الافريقية المرجع الأول في تنشيط الحياة السياسية وأعطى دورا كبيرا لقيام تحالف الجنوب مع الجنوب ضد العولمة المتوحشة وحلم بعالم متعدد الأقطاب يتسع للجميع وتجد فيه كل الدول والمعتقدات والخصوصيات الحرية للتعبير عن نفسها وبناء الهوية الانسانية. لكن عودة العنصرية في أصقاع الأرض في سلوك الأفراد وسياسات الأنظمة وتحيين الداروينية الاجتماعية بعد طول سبات هو ما يثير القلق ويدعونا للاعتبار بما صنعه المكافح نيلسون مانديلا من أجل قهرها ومقاومتها. فمتى يستيقظ البشر على كوكب خال من العنصرية؟
كاتب فلسفي