تعددت الشهادات والتقارير العراقية والعربية والأمريكية والدولية المتعددة التي تؤكد أن جيش الحكومة قدم الرمادي هدية لداعش، دون تهديد أو قتال. وكان قد أهدى قبلها، الموصل وتكريت. وليس لهذا سوى معنى واحد. وقبل الخوض في تفسيره علينا أن نسجل هنا أن هذا الجيش تأسس في أول أيام (العراق الديمقراطي الجديد) وفي ظل (مجلس الحكم) سيء الصيت. وكان أقوى أعضائه وأكبرَهم وأكثرَهم حظوة لدى الأمريكان أربعة، عبد العزيز الحكيم، وإبراهيم الجعفري، ومسعود البرزاني وجلال الطالباني. أما الباقون فلم يكونوا أكثر من مُلحقين بأحد هؤلاء الأربعة، أو قادمين من خارج الطبخة لتلوينها وتزويقها، ولاستكمال صورة (الوحدة الوطنية) التي كان بريمر ومستشاروه ومساعدوه يلحون على توليدها، بأي شكل وأية صورة، حتى لو كانت عرجاء ومغشوشة، وذلك لإرضاء واشنطن وإيهامها بنجاحهم في جمع العراقيين تحت سقف واحد، وإطلاق مسيرتهم المظفرة نحو المجد الديمقراطي العظيم.
وكان طبيعيا ومتوقعا أن يسارع الأقوياء الأربعة إلى اقتطاع أكبر قدر ممكن من كعكعة الجيش الجديد، بالزج بأكبر عدد ممكن من الأقارب والحبايب والتابعين المؤتمنين إلى صنوفه المختلفة، ومراكزه العليا. وكان الولاء، في تلك الفترة الساخنة من التكالب بينهم، أهم من الخبرة والكفاءة. وكان المفترض أن يتقاسم الجيش الجديد فريقان لا ثالث لهما. العربي العراقي، وهو إيراني الهوى والمصلحة والولاء، والجبهة الكردستانية. ولأن الكورد كانوا، في أول أيام العهد الجديد، متفرغين لترتيب منزلهم الداخلي، وتقوية البيشمركة، واستكمال بناء الدولة المرتقبة، فلم تكن لديهم الرغبة ولا المصلحة في مشاحنات جادة وحازمة مع الفريق الإيراني، فيما يتعلق بتطبيق أحكام المحاصصة في توزيع حصص الجيش، فاكتفوا بالقليل من مناصبه العليا، وتركوا الباقي لـ (الحليف) الحميم.
أما بالنسية للمكون السني فقد كانت المبررات التي تم حل الجيش العراقي السابق على أساسها تعتبر جميع العسكريين من الطائفة السنية صداميين يُخشى من إرهابهم على الديمقراطية الوليدة. وقد نجحت هذه الفرية في إقناع الأمريكان بعدم التفكير، قطعيا، بإعادة الصداميين إلى الخدمة في الجيش، وترك مهمة تشكيله للأربعة الكبار، وحدهم، وعدم التدخل فيها.
وهنا كان طبيعيا ومتوقعا أن تكون المجاميع الأولى التي شكلت نواة الجيش قادمة من أحزاب تمتلك مليشيات مسلحة ومدربة. ولم يكن ذلك متوفرا إلا عند الفريق الإيراني. ثم بعد ذلك
اخترع حزب الدعوة فكرة إدماج (مليشيات) معينة محددة مؤتمنة بالجيش الحكومي، رغم أن بعضها كان أدين بالإرهاب والتطهير الطائفي وجرائم قتل ونهب واعتداء.
وأيُ واحد تواجد في المنطقة الخضراء، في تلك الأيام، لابد أن يكون رأى أو سمع كثيرا من الحكايات المضحكة المبكية التي كانت تدور حول تأسيس الجيش، وحول جهات (التزكية) التي تحتكر الموافقة على تعيين أي ضابط أو أي جندي، بل أي (فراش) في وزارة الدفاع.
وبسبب نزاهة الأكاديمي الديمقراطي العلماني علي علاوي، أول وزير الدفاع في حكومة مجلس الحكم الأولى، وعدم خبرته بأساليب اللف والدوران والتزوير، فقد كان الماء يجري من تحته، وهو يرى ويسمع، ولكن لا حول له ولا قوة. فلم يتمسك بالمنصب ولم يستطع البقاء فيه سوى شهور قليلة ساد الوزارة خلالها الإرتجال والفوضى والتدخلات والوساطات، إلى حد أن واحدا من الشطار، وهو مدني غير عسكري وليست له أية خبرة سابقة في شؤون الدفاع، اسمه زياد طارق القطان تمكن من التسلق إلى أعلى مركز أمني ومالي وإداري في الوزارة. وهو هارب حاليا من العراق، ومتهم باختلاسات تصل إلى مئات الملايين من الدولارات.
ثم عُين حازم الشعلان وزيرا للدفاع، في وزارة أياد علاوي، وليست له، هو الآخر، أية خبرة أو خدمة سابقة في جيش من الجيوش. وقد تبين فيما بعد أن الأمانة الوطنية الموكلة إليه لضبط الوزارة وقيادة عملية تأسيس جيشها كانت آخر اهتماماته. وهو هارب حاليا خارج العراق، وقد أثبتت الوثائق والتحقيقات أنه اختلس 800 مليون دولار. وقيل يومها إن الحكومة العراقية تلاحقه وتلاحق مستشاره زياد القطان قضائيا، ولكن لا أحد يعلم اليوم سر صمت الحكومة وأحزابها عن تلك القضية وعن فرسانها.
ومن عام 2003 وحتى نهاية أيام حكم نوري المالكي المريرة ظلت الشكاوى الصامتة أحيانا، والصارخة أحيانا اخرى، تتكرر من الأطراف السياسية الكوردية والسنية من عبثه وأتباعه بوزارة الدفاع والجيش العراقي. حتى أن رئيس أركان الجيش الفريق الأول الركن بابكر زيباري أعلن أكثر من مرة أنه آخر من يعلم بكثير من التعيينات والتنقلات والترقيات والصفقات الخاصة بالجيش الذي يفترض انه رئيس أركانه. حتى جاء حيدر العبادي، من عباءة حزب نوري المالكي نفسه، ليكشف على الملأ فضائح عشرات الالاف من الفضائيين في وزارة الدفاع والجيش.
ولا صغير أو كبير في الحكومة المركزية ورئاسة الجمهورية والبرلمان يستطيع أن ينكر حقيقة أن الجيش العراقي فصائل وكتائب مقتطعة من مليشيات ولدت وترعرعت وتسلحت وتدربت في إيران، وللسفارة الإيرانية الكلمة العليا عليها، عند الضرورة.
وبناءً على هذه الحقيقة يستطيع المرء أن يحدد، بسهولة ويسر، الجهة التي لها مصلحة أكبر في ترتيب انسحاب جيش نوري المالكي من الموصل، ثم انسحابه من الرمادي، وإخلاء الساحة لداعش لتصل جحافله إلى تخوم كربلاء وبغداد.
إذن لابد مما ليس منه بد. فقد نفجأ، غدا أو بعد غد، بدخول عشرات الألوف من (مجاهدي) قاسم سليماني، بشحمها ولحمها، لحماية المدينة المقدسة ومنع الدواعش من تدنيسها، بسبب عجز أولاده الوكلاء العراقيين عن القيام بالمهمة. ولكن بغداد أيضا مهمة أيضا لإيران ولأبنائها العراقيين، فلابد من دخولها، هي الأخرى. والوقاية خير من العلاج.
وهنا، فقط، نضع أيدينا على قلوبنا، ونترقب المصير. مَن سيسبق مَن إلى تحرير بغداد من أهلها واحتلالها؟ قاسم سليملني الخارج من أعماق الزمن المغمس بالخرافة والدم والدموع، أم الخليفة العائد من ظلام العصور الوسطى؟
فإذا كان جيش الحكومة مليشيات، والحشد الشعبي مليشيات، وداعش مليشيات، فهذا يعني أن الوطن، من شماله إلى جنوبه، ومن شرقه إلى غربه، تحكمه وتديره وتقررمصيره المليشيات. أما نحن فليس لنا سوى أن ننحني ونصلي إما للمطرقة أو للسندان. وسلامٌ على الوطن الذي كان.