كتبت عن المفكر المصري الكبير سلامه موسى ( 1887- 1958 ) مقالتين بشأن موقفه حول الادب الروسي واعلامه – الاولى كانت بعنوان سلامه موسى ودستويفسكي , والثانية بعنوان سلامه موسى وتولستوي , وقد وعدت القراء في حينها ان اكتب لهم عن علاقة سلامه موسى باديب روسي آخر وهو مكسيم غوركي , وها أنا ذا اقدم للقراء ما وعدت به.
نشر سلامه موسى مقالته عن مكسيم غوركي ( 6818 – 1936 ) في كتابه المعروف – (هؤلاء علموني ) , والذي اشرنا اليه في مقالتينا عن دستويفسكي وتولستوي , وغوركي هو الاديب الروسي الثالث والاخير الذي كتب عنه سلامه موسى هناك حول عشرين اسما كبيرا من ادباء ومفكري اوربا , التي اختارها سلامه موسى في كتابه المذكور, و على الرغم من ان عنوان الكتاب ( اي – هؤلاء علموني ) يشير الى ان سلامه موسى كان يعتبرهم معلمين له , الا انه في الواقع كان يتناقش مع افكارهم عند الكلام حولها , بل وكان – بعض الاحيان – حتى ينتقد تلك الافكار ويفندها , وقد لاحظنا ذلك عندما تناولنا موقفه من دستويفسكي وتولستوي , ولكن هذا الموقف الانتقادي – ان صحٌ التعبير – لم ينعكس في مقالته عن مكسيم غوركي بتاتا , اذ كان سلامه موسى ومنذ السطور الاولى لمقالته والى نهايتها عن هذا الاديب الروسي منحازا كليا الى هذا الكاتب ومدافعا عن مواقفه الفكرية بشكل عام , بل وحتى أطلق عليه في سياق تلك المقالة تسمية – (أعظم انسان في العالم ) , وهي تسمية ليست دقيقة و غير موضوعية بتاتا وتحمل الكثير من المبالغة اللفظية ولا نريد مناقشته بشأنها
, اذ لا تسمح طبيعة مقالتنا هذه بذلك طبعا , وكان من الواضح تماما ان الباحث ( اي سلامه موسى ) يرى ان مكسيم غوركي – بالنسبة له شخصيا – يكاد ان يكون الاديب الاول والابرز في مسيرة الادب الروسي وتاريخه رغم انه لم يتناول تقريبا في مقالته تلك الجوانب الادبية الابداعية لنتاجات غوركي , وانما تم التركيز على مواقفه الفكرية البحتة وموقفه من الاشتراكية في مسيرة الحياة السياسية لروسيا قبل ثورة اكتوبر عام 1917 وبعدها والى تاريخ وفاة غوركي عام 1936 .
جاءت هذه المقالة في كتاب سلامه موسى بعنوان – ( جوركي .. وعنوان ثانوي هو- والاديب المكافح ) , وتبدأ بالحديث عن الصراع في القرن التاسع عشرفي روسيا بين النزعتين الفكريتين المعروفتين والسائدتين في حينها وهما – النزعة السلافية والنزعة الغربية , ويسميهما سلامه موسى – ( حركتان ادبيتان ..او اجتماعيتان ) وهو اجتهاد جميل وصحيح حقا, اذ انهما لم يشملا فعلا كل جوانب مسيرة الحياة الفكرية المتشعبة في روسيا آنذاك , وانعكسا قبل كل شئ في الاوساط الادبية ليس الا , ومن الطريف جدا ان نشير هنا الى ان سلامه موسى استخدم كلمة ( صقالبة ) العربية التراثية القديمة جدا بدلا من كلمة ( السلاف ), وهكذا اطلق على هذه النزعة الفكرية تسمية ( الحركة الصقلبية ) وهي – في الواقع – كلمة غير واضحة المعالم بالنسبة للقراء العرب في الوقت الحاضر, بل وحتى في ذلك الزمن الذي كتب به سلامه موسى تلك المقالة , ونرى ان هذا الاستخدام غير موفق بتاتا وغير متلائم مع عملية صياغة المصطلحات في زماننا, اذ ان تلك التسميات مثل (الصقالبة ) او ( الروم ) او غيرها من تلك المصطلحات التراثية القديمة لم تعد تعبر بشكل صحيح ودقيق عن تلك الاقوام والشعوب الموجودة في عصرنا , ولا مجال في اطار هذه المقالة طبعا للاستطراد اكثر بشان ذلك , ويعتبرالمؤلف بعدئذ , ان الاديبين الروسيين الكبيرين دستويفسكي وتولستوي من دعاة هذه الحركة , ثم يضع تورغينيف وغوركي على الضد منهما و ضمن دعاة ما يطلق عليه سلامه موسى ب – ( الاتجاه الاوربي ) المعارض لحركة – ( الصقالبة ) تلك . ان
هذا التقسيم بشكل عام يحتاج الى ان نتوقف عنده بدقة , بغض النظر عن موقفنا تجاه تلك المصطلحات التي صاغها و استخدمها هنا , والنقطة الجوهرية والاساسية في موقف سلامه موسى هذا تكمن في التبسيط الشديد جدا جدا لهذا الصراع الفكري الهائل والعميق والكبير فعلا في روسيا القرن التاسع عشر ,اذ انه يرى ان ( الحركة الصقلبية ) كما يسميها هي حركة لا تتناسب ولا تنسجم مع ( الحضارة العصرية ) كما يسميها , وحتى يقارنها بالموقف من دعاة السفور و الحجاب للمرأة في مصر آنذاك ونضال قاسم امين المعروف حول تلك القضية , ثم يشير الى ان دستويفسكي وتولستوي كانا يؤيدان تلك الحركة وانهما من دعاتها وان تورغينيف وغوركي هما المضادان لهما لانهما من دعاة ( الاتجاه الاوربي ) , ويطرح القارئ رأسا ومباشرة – نتيجة لذلك الموقف الواضح – السؤال الاتي امام سلامه موسى وهو – هل هذا يعني ان دستويفسكي وتولستوي لا يعترفان ب (الحضارة العصرية ) ولا ينسجمان معها فعلا لانهما يؤيدان تلك الحركة الفكرية ؟ وان تورغينيف وغوركي الكاتبان المضادان لهما هما اللذان يؤيدان الاتجاه الآخر والصحيح – حسب آراء سلامه موسى – مقارنة معهما و نتيجة لذلك ايضا؟ على الرغم من ان سلامه موسى حاول ان يتحدث عن انتقال غوركي الى الصراع بين الراسمالية والاشتراكية في القرن العشرين , ولكنه – مع ذلك – ربط ذلك بالصراع بين (العادات والتقاليد القديمة ,التي اثبت الاختبار انها ليست كفئا للوقوف في وجه الحضارة العصرية ..) . لقد عرض سلامه موسى هذا الموضوع بتبسيط كما اشرنا اعلاه لدرجة كاد فيها ان يكون غوركي اعلى من تولستوي ودستويفسكي في مسيرة الادب الروسي وتاريخه بل و اكثر اهمية منهما , وهذا شئ غير دقيق وغير صحيح بالنسبة للجميع , بما فيهم لمكسيم غوركي نفسه الذي وقف امام تولستوي مندهشا وكتب عن اعجابه بابداعه الادبي والفكري ودوره في مسيرة الحياة الروسية بشكل عام , وفي هذه النقطة بالذات يكمن جوهر النقاش الذي كان ولا يزال مطروحا في روسيا وفي العالم عموما ايضا حول قيمة النتاجات الادبية الابداعية وعلاقتها بالموقف الفكري للاديب
نفسه , اذ ان تلك النتاجات بالذات هي التي تحدد مكانة الاديب واهميته وقيمته الفنية و تبقى خالدة في ذاكرة القراء بغض النظر عن المواقف الفكرية للادباء اثناء حياتهم ,ويقرأ القراء في القرن الحادي والعشرين ( الاخوة كارامازوف) و(الجريمة والعقاب) و(الحرب والسلم) و(آنا كارينينا) بكل سرور ومتعة دون ان يستفسروا عن موقف دستويفسكي وتولستوي من النزعة السلافية او الغربية في روسيا القرن التاسع عشر.
ان مقالة سلامه موسى حول غوركي هي نظرة سياسية بحتة تجاه الاحداث التي مرٌت بها روسيا وموقف غوركي منها دون الاخذ بنظر الاعتبار تحليل نتاجاته الادبية بتاتا ودورها واهميتها في مسيرة الادب الروسي وتاريخه , وكان من الواضح تماما تعاطف سلامه موسى مع تلك الافكار السياسية لهذا الكاتب الروسي الكبير ليس الا , وكان من الواضح ايضا ان سلامه موسى لم يتعمق بقراءة نتاجات غوركي الابداعية و بالتالي لم يستطع ( او لم يرغب او لم يحاول ) ان يرسم صورة فنية متكاملة له .