23 ديسمبر، 2024 10:24 ص

فاضت روح الشاعر الفلسطيني الكبير سميح القاسم يوم الثلاثاء المنصرم بعد مرض عضال  أخذ من بقايا عمرة ثلاث سنين , كانت قاسية لكنها ليست أقسى من سنوات حياته المتعبة , لقد تنقل من سجن لسجن ومن أبعاد لحجز وأخيرا غربة وطن وغربة روح ,غير أن كل ذلك كان بمثابة مسحوق لجلاء عقله وتفكيره فقد خلف من الإنتاج ما لا يقل عن سبعين مؤلفا مابين ديوان شعر ومقالات سياسية وأدبية وقصة ورواية , إضافة إلى عمله الصحفي كتأسيس أو رئاسة أو تواصل بأعمدة كانت تلقى الترحيب والثناء .
أسس جريدة كل العرب وأصبح رئيسها الفخري , وساهم في تحرير جريدة الغد والإتحاد وهذا العالم والجديد , وكانت مقلاته تزخر بروح الشباب المتوثب رغم تجاوزه هذه العتبة التي كان يستهزء بها كثيرا.
خلق مع أثنين من شعراء الأرض المحتلة هما  توفيق زياد  ومحمود درويش ثلاثي المقاومة , كانوا أصوات غير مسبوقة في التصدي للعدوان و بعث روح الشعب المقهور ليتجاوز محنته .
جمع من التناقض أو قل من ألوان قوس قزح ما زين شعره وأدبه ذاك الجمال والرونق , فقد فتح عينيه على الفكر الماركسي وكي يكون قريبا منه أكثر صار شيوعيا منتميا , وله في ذلك الإنتماء رس من الجد الأول فقد كان جده خير محمد الحسين ( رحمه الله )  قرمطيا, وأنت تعرف ما بين حركة القرامطة والفكر الشيوعي من صلات وتوافق , غير أن حبه للشعر جعله يغلق أبواب تطلعاته السياسية فقطع صلته بالتنظيم  ليتفرغ للأدب ويصوغ قلائد الحب والتعلق والوله , ليس بالحبيبة الفرد بل بالحبيبة الأم , أرض فلسطين , مع أنه لم يولد فيها وإنما ولد في الزرقاء في الشهر الحادي عشر من العام
 1939 . ذلك العام الذي كانت فيه الحرب العالمية في أوج تصاعدها , ولعل للزمن هذا علاقة بكينونته المستقبلية , فقد كانوا في رحلة وكان يومها صغيرا صاحبه البكاء مما جعل المسافرين يخافون أن يسمع العدو بكائه  فينقضوا عليهم , فما كان من أحدهم إلا أن يقتله سلامة للجميع غير أن الأب وكان ضابطا برتبة رئيس سحب مسدسه بوجه الرجل . عندما حكيت القصة لسميح أكثر من مرة قال : حسنا لقد حاولوا إخراسي منذ الطفولة  سأريهم … سأتكلم متى شئت , وفي أي وقت شئت ..وبأعلى صوتي … لن يقوى أحد على إسكاتي  .
لعل لهذه الحادثة أثرها في تكوين إحتجاجه الشعري وتمرده على المغريات التي قدمت له من أجل المهادنة وليس المصالحة غير أنه ظل صوتا جبارا صادحا متحديا , قالوا عنه : قيثارة الحزن , لكنه قال : بل قيثارة الغضب  تصوروا أن سجنه أو إعتقاله او حجزه إجباريا سيخمد صوته لكن الصوت وجد في كل ذلك أسباباً أخرى للتمرد بوجه المحتل .
قال مرة ونحن نشرب الشاي العراقي والقهوة المرة في مكان هاديء إعتدنا اللقاء به  : سأموت بالوقت الذي أحدد موتي .
قلت له كأني بك  ما زلت شيوعياً ؟.  فالموت يأتيك بغتة يا سيدي .
   لكني اليوم أجدك قد أخترت لحظة موتك , مت كي لا تسمع أصوات الطائرات وهي تقصف غزة , مت كي لا تسمع عويل الأطفال الذي يعلو أصوات المدافع وصفارات الإنذار, مت كي لا تكون شاهدا على مجزرة أخرى في وطنك , مت كما قلت في قصيدتك الرائعة أمشي أمشي , سواء بصوتك أم بصوت مرسيل خليفة والمدرج يعلو صوته على الموسيقى والمغني :
منتصب القامة أمشي .. مرفوع الهامة أمشي .. في كفي قصفة زيتون .. وعلى كتفي نعشي .. وأنا أمشي ..وأنا أمشي .
لقد كنت يا سميح أسطورة, سلوكا وشعرا وأدبا وإنسانا , لا يسعنا إلا أن ندعوا الله لك الرحمة والمغفرة , وأن يسكنك فسيح جناته ويتغمد روحك الطاهرة برحمته , ودعني أودعك ليس بكلاماتي التي تخجل من عبقريتك ولكن بكلامك الذي طالما تغنينا به لحظة حزن أو لحظة فرح :
يا رب دارت علي الشعوب …وسدت أمامي الدروب … تضرعت وصليت , بح صوتي ..وجفت منابيع مائي
…………..
غرباء
بكينا يوم غنى الآخرون
ولجأنا للسماء يوم أزرى بالسماء الآخرون
ولأننا ضعفاء… ولأننا غرباء
نحن نبكي ونصلي
يوم يلهو ويغني الآخرون
نم في موت هاديء خير من حياة صاخبة