23 ديسمبر، 2024 2:34 ص

سقوط مصطلح العالم الثالث – اللاتبعية

سقوط مصطلح العالم الثالث – اللاتبعية

يقدم العالم، وهو يتأهب للدخول في الألف الثالث، مجموعة هائلة من التحوّلات الكبرى التاريخية، في مختلف المجالات العسكرية والسياسية والاقتصادية والثقافية، تفوق التوقع واحياناً الخيال. وتفرز هذه التحولات نسقاً من التغيير يستلزم، كما هو ملاحظ، إعادة النظر الشاملة في عدد كبير من المفاهيم والأفكار والمعاني والقيم التي رسخت في الذهن البشري ولأزمان طويلة.
وتكاد تبرز هذه المتغيرات الجذرية في النسق الجديد الذي يتخذه الفكر الستراتيجي العسكري المتلازم في التوجه والمضمون مع حقائق السياسة الدولية. “وإذا كانت المحصلة المنطقية لهذا التلازم بين المتغيرات السياسية و الستراتيجية، انبثاق علم الستراتيجية الدولية”( ) الذي كان يُعتبر جديداً في تأهيل مفاهيمه ونظرياته، وتحديد المرتكزات التي تبنى عليها اقتراحاته وتوقعاته، وبلورة التصورات التي تتحدد في إطارها قضايا الحرب والسلم، فإنه علم يتجه إلى غربلة مجمل هذه المفاهيم على وقع الظاهرة الكبرى التي تؤطر مجمل هذه التصورات في إطارها الكوني “المعروف بالعولمة”.
وتُعبر العولمة( ) التي شاع استخدامها في السنوات العشر الأخيرة، عن هذا التحول الكوني الجديد والصاخب الذي سينهي العمـل في الكثير من التصورات والمعارف التي انجبتها لحظات تاريخية مختلفة منصرمة، ويفترض أن تجري مراجعة شاملة لرصيد هائل من المعتقدات التي دانت بها البشرية منذ ميلاد الدولة الحديثة قبل قرون خلت. وسيكون ثمة متسع من التفكير لتنمية اسئلة عن المرحلة من نوع جديد. وأول تلك الأسئلة جميعاً، السؤال عمّا إذا كان العالم قد ولج حقـاً حقبةً نوعية من التطور تمثّل قطيعة مع سابقاتها على صعيد المناهج، والبرامج، والآليات، والمؤسسات … الخ. وربّما تناسلت من هذا السؤال حول العولمة اسئلة فرعية عن مصير السيادة، والدولة الوطنية، والاقتصاد الوطني، والثقافة القومية … وسائر ما يتّصل بالهوية وبالشخصية الوطنية والقومية لمجتمع من المجتمعات المغلوبة في ميادين المنافسة العالمية العلمية والتقنية والاقتصادية، مثل المجتمع العربي المعاصر( ).
وتفترض هذه الشمولية للعولمة، كإطار قابل لصياغة مجمل هذه الإسئلة المتفرعة، مبالغةً أو تهويلاً يجعلنا نتصور ونردد كل يوم “أننا على أعقاب ولوج عالم جديد هو في حساب التحليل العلمي محض فرضية تحتاج إلى إثبات حتى تستقر حقيقةً”( ). نعم فرضية لأن الإتساع في تناول العولمة وأصلها وتعميمها أو تعميم ما قد ينتج منها أمر غير مستقر علميّاً، وهنا إقرار على عدم وضوح العولمة والإحاطة النظرية والعملية بها، خصوصاً أنها “ما زالت في طور التكوين والتبلور… وغير مكتملة الملامح والنتائج”( ).
ماذا نعني بالتهويل؟ هل أنه من صلب الظاهرة فتغدو وهماً ومخيفةً أم أنها حقيقة تضغط على الأفكار؟ أليس من المبكر الإطمئنان إلى أننا على أبواب عالم جديد ينهي مجالات السيادة والوطن على المستويات السياسية والاقتصادية والثقافية؟ هل هو نوع من تجاوز قطوع الألفين، أم أن العولمة من محصلات الدولة القومية عند لحظة من لحظات تضخم قوّتها وفيضها على العالم من حولها كما يظهر في المثال الأميركي( ).
إنه هذا وذاك . فبالإضافة إلى الخروج من الثنائية في العالم إلى حد كبير إلى أميركا كقوة عظمى تكاد تكون وحيدة كما نرى، هناك مسألة أن العولمة لا تتجاوز الفكرة الجديدة من ضمن مجموعات افكار تبرز وتذوي على أنها فكرة مطبوعة بطابع يكاد يتّسم بالخرافة. كيف؟
تؤلف ولا تؤلفان
يفترض اللاوعي الجماعي البشري توحداً لولوج المخاطر، لأنه نوعاً من تذليل المجهول منها. وإذا كانت البشرية قد خطت أو قفزت على مستوى الثورات التكنولوجية قفزات نوعية، وخصوصاً في مجالي الاتصالات، جعلت الإنسان يُعيد النظر فيها أحياناً كثيرة، أو أنها غذّت خياله فجنح بإختراعاته نحو تشغيل لاوعيه في أعمال فنّية رائعة (أفلام وكتابات حول سيطرة الآلة على مخترعها وتمرّدها عليه) أعادت توازنه إليه، فأن غزو الفضاء والأسلحة النووية وعالم المعلومات جعل نوعاً من الذعر والجنوح نحو الأساطير يكتنف الفكر البشري بالمعنى الفلسفي على الأقل.
وساعد أن هذه التداعيات والمتغيرات جاءت قوية ومفاجئة مما منحهـا لوناً أسطوريـاً أو خرافياً عاد يستيقظ في أذهان العامة، وخصوصاً في البلدان غير المتقدمة. في تعليقات مثل أننا في “آخر الدنيا”، وهذه “نهاية الكون” أو “تؤلّف ولا تؤلّفان”( ) أي أن الدنيا لن تتعدى العام ألفين حيث “صراع الحضارات” و “نهاية العالم” و “حكومة العالم”.( )
هل “يتعولم” الكون ليتمكّن البشر من تجاوز عتبة الألفين؟
ربما يبدو الاستنتاج الإيجابي مقبولاً، خصوصاً إذا عرفنا أن عالماً مشابهاً ساد البشرية مع وصولها إلى نهاية الألف الأول( )، فرضت نوعاً من التهيب الفلسفي الذي يفترض في اللاوعي الجماعي نوعاً من إعادة النظر في التساوق الزمني الرتيب(ماضٍ، حاضر، مستقبل) الذي ابتدعه اليونان. وما الخرافة في الرقم الحافة أو الرقم المدوّر chiffre rond إلاّ خيال ألصقه الإنسان به وراح يتفاعل معه نفسياً.
لذا يحمل الكلام عن العولمة شيئاً من المبالغة والخوف من المستقبل وأعاصير التغيير المنتظرة، ويجوز القول إفتراضاً أن أفكاراً مهتزّة تفصح عن صعوبة في اجتياز عتبة الألفين بالمعنى النفسي. إنها المشاعر التي تصاحب البشرية عندما تودع سنة لتستقبل سنة جديدة مضاعفة بعض الشيء بالطبع. أليست هي مظهر من مظاهر العولمة بالمعنى الإجتماعي؟
وتصبح العولمة في الإطار الواقعي الآخر المجتمع الليبرالي الوحيد حيث ” نهاية التاريخ والإنسان الأخير”( ) (الأميركي بالطبع) الذي يستهويه أن يجد نظامه الاقتصادي ودولته يرتفعان فجأة إلى مصاف الكمال التاريخي، أو أنهما يجسدان الاختيار الوحيد المتبقي أمام الإنسانية جمعاء … “وكلما اقتربت الإنسانية من نهاية الألف الثاني فإنه يلاحظ أن إيديولوجية عالمية واحدة محتملة ذات طابع شمولي هي الديمقراطية الليبرالية، عقيدة الحرية الفردية والسيادة الشعبية…”( )
وإذا كانت الكتل الاجتماعية الكبرى أو التكتلات البشرية عبر التاريخ نتائج حتمية لشبكات من الروابط السياسية والاقتصادية والدينية، فإنه من قبيل الخرافة تصور العالم موضوعياً يتّجه نحو هذه الأشكال الواحدة وبشكل نهائي. وإذا كان للدين حظوظ وافرة عبر التاريخ في تكتيل البشر وتوحّدهم حول حظوظ واحدة، مما ترك آثاراً فعالة على تحديد مسارات الدول والحضارات، فإن للسياسة أيضاً كما للاقتصاد النتائج نفسها، وكلها مجتمعة أسباب أساسية على تراجع وتنامٍ في قوتها ستمثل ما يعرف بالعولمة على أن الاقتصاد مرهون في أشكاله المختلفة بالمعلومات أو التقنيات الهائلة في وسائط الاتصال التي تشكّل التعريف الأوسع للاقتصاد الراهن، وعبره يبدو الإعلام كصيغة إخبارية عنواناً بارزاً للقرن المقبل.
مقاربة العولمة وتجلياتها
هناك اعتراف بصعوبة إيجاد تعريف شامل للعولمة كونها ظاهرة منتشرة على مستوى العالم، وتكاد تجمع البشر في مواقف وسلوك استهلاكي متقارب. إنها ظاهرة تنسج مزيجاً غير محدود من العلاقات بين مستويات متعددة في التحليل والاقتصاد والثقافة والإيديولوجيا “وتشمل إعادة تنظيم الإنتاج وتداخل الصناعات عبر الحدود بين الدول، وانتشار أسواق التمويل، وفلش الأسواق المتخمة بالسلع الاستهلاكية المتشابهة لدول العالم”( ).
وإذا كانت البشرية قد تعولمت وفق أنساق من القيم والأفكار الكبرى وفي مظاهر تمثل تجليات العولمة كعولمة ليست جديدة على الإطلاق، فإن العولمة كمفهوم أخذت حدودها وانخرطت في مجالات العلوم الاجتماعية واعتبرت عملية مستمرة يمكن ملامستها والتعرف إلى مؤشراتها بشكل نوعي وآني في مجالات الإعلام والاتصال كما في مجالات السياسة والاقتصاد.
وإذا كانت العولمة كمفهوم قد قفزت إلى أدبيات العصر وجامعات العالم بحيث تبدو مصطلحاً مرناً شديد الاتساع والتوصيف، لم يستقر على ملامح محددة، نفهم معنى التناقض في تناول ما يحصل بالنسبة لمجمل المفاهيم غير المتكاملة في النهج. فنحن كباحثين ومثقفين وسياسيين، ومن مختلف الدول، ما زلنا في مرحلة فهم ظاهرة العولمة واستكشاف القوانين الخفية التي تحكم مسيرتها، والتي تسهم في الوقت الراهن في تشكيلها”( ). هكذا تعاملنا أساساً مع حزمة واسعة من المفاهيم الستراتيجية وغيرها من المفاهيم التي شغلت الجامعيين والفكر البشري من قبل مثل الحداثة أو ما بعد الحداثة والتحديث والديمقراطية والوجودية والحرية والعديد من الفلسفات والافكار التي مضت وكنا لا نزال في حال من النقاش حولها.
في ضؤ ما تقدم نستطيع تفسير التضارب بين من يهاجم العولمة ويدينها ويدعو إلى محاربتها لأنها وجه آخر “للفكر” الامبريالي( ) حيث تبدو “العقيدة الجامعة من أجل النظام العالمي الجديد الذي يكتسح العالم” أو أنها “ظاهرة مخيفـة حقيقية تفسد الأدمغة في الدنيا”، وبين من يراها مسألة محسومة لا تدعو إلى القلق، تؤدي إلى مساندة الدول والشعوب الفقيرة النامية وتخلق فرصاً جديدة للعمل فتحد بالتالي من الأزمات الاقتصادية وفي رأسها البطالة والحاجة( ).
وإذا تساءلنا عن الاسباب التي أدت إلى بروز العولمة الحاد في هذا العصر وربطناه بمصير القوميات ومفاهيم الاستقلال الذاتي للدول والخصوصيات الثقافية ومعنى زيادة التجانس بين الشعوب أو تعميق الفوارق وأوجه التباين بينها، نفهم معنى القلق الذي ينتاب الفكر من جراء شيوع العولمة كمفهوم أو ملامح احادية التوجه والأبعاد.
إن مقاربة التعريف المحيط بالعولمة تفترض تقديم ملامح أساسية كبرى تكشف عن جوهرها أولها وأوسعها مشاعية المعلومات عبر وسائل الاتصال الهائلة السرعة في تطورها، ويرتبط به المسألة الثانية المرتبطة بازالة الفواصل المصطنعة بين الدول والشعوب، مما يؤول إلى العملية الثالثة التي تدفع باضطراد في طبع الزمان والمكان البشري بازدياد ملفت لهامش التشابه بين الجماعات البشرية والمجتمعات والمؤسسات.
سنقتصر من مئات التعريفات التي وقعنا عليها على ثلاثة منها تكاد تطال ما نحن في صدده من تجليت للعولمة:
-1انها التفاعل الاقتصادي المتنامي لمجموع دول العالم الناتج من تزايد حجم تبادل البضائع والخدمات والرساميل وتنوع التعامل عبر الحدود، ويرافق ذلك انتشار واسع ومتنوع للتكنولوجيا الإعلامية( ).
-2العولمة هي وصول نمط الإنتاج الرأسمالي عند منتصف هذا القرن تقريباً، إلى نقطة الانتقال من عامية دائرة التبادل والتوزيع والسوق والتجارة والتداول، إلى عالمية دائرة الإنتاج، واعادة الإنتاج ذاتها. إن ظاهرة العولمة هي بداية عولمة الإنتاج الرأسمالية … ونشرها في كل مكان مناسب وملائم خارج مجتمعات المركز الأصلي (الولايات المتحدة) ودوله. العولمة بهذا المعنى هي رسملة العالم على مستوى العمق … إنها حقبة التحول الرأسمالي العميق للإنسانية جمعاء في ظل هيمنة دول المركز وبقيادتها وتحت سيطرتها وفي ظل سيادة نظام عالمي للتبادل غير المتكافئ”( ).
-3 لا يمكن فهم العولمة وتحديدها بتدويل الاقتصاديات الوطنية الكبرى وتجديد الرأسماليـة، وتقدم النظرة الليبرالية في الاقتصاد والسياسة إلا بفهم ثورة العلم والمعرفة وانفجار تكنولوجيا الإعلام والاتصال الذي يدفع إلى عملية التدويل القسرية ويمنح هذه العولمة تجلياتها الملموسة( ) …
أدوات العولمة
وفق هذه التجليات الثلاثة التي أبرزت في محاولة تأخير العولمة المتمثلة بالسياسة والإيديولوجيا والاقتصاد وتقنيات الإعلام كعناوين كبرى تتناقض أحياناً بين مختلف المدارس والاتجاهات الاقتصادية والسياسية والإعلامية، إلا أنها تعود فتلتقي حول مقولة واحدة تشكل ما يعرف بالعولمة.
على أن التجليات التفصيلية للعولمة تبدو في سهولة وسرعة انتقال البشر والسلع والمعلومات بين الدول ذات الحدود المتساقطة وعلى النطاق الكوني. وإذا كانت الشمولية هي صفة ما يتنقل في أنحاء المعمورة بحيث أنه يطال كل شيء ويصعب حصره، إلا أن “روزناو”( ) جعل هذه المواد والنشاطات المتنقلة في ست فئات أساسية:
-1 الافراد.
-2 البضائع والخدمات.
-3 الأفكار والمعلومات.
-4 الأموال والنقود.
-5 المؤسسات وخصوصاً النتعددة الجنسيات.
-6 الاشكال من السلوك والتطبيقات الثقافية العائدة لها.
وتتمحور هذه الفئات والمجموعات التفصيلية التي تشكل مادة الحركة لما يسمى بالعولمة عبر ادوات معروفة تقليدية منها:
-1 الدول السبع الكبرى بقيادة الولايات المتحدة الاميركية.
-2المؤسسات النقدية العالمية الخاصة.
-3 صندوق النقد الدولي.
-4 البنك الدولي للإنشاء والتعمير.
-5 منظمة التجارة العالمية.
-6 الشركات العملاقة المتعددة الجنسيات.
وإذا كانت مجمل هذه الأدوات التي تشكل عصر العولمة ليست جديدة، فإن عصر العولمة يصبح متنقلاً من عصر إلى آخر حيث يصح القول( ) أننا في مرحلة ماضية كنا نعيش في إطار السلام البريطاني، وفي مرحلة أخرى كنا في إطار عولمة السلام الفرنسي ثم الالماني ثم سلام التحالفات البريطانية – الفرنسية، وبعدها كانت عولمة الحرب الباردة بين الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد السوفياتي، وثمة الآن عولمة من نوع مختلف لكنها استمرار أكثر توسعاً لما سبق وعرفته البشرية من حيث التوجهات الرئيسية.
يقابل هذه النظرة التبسيطية والواقعية في آن إلى العولمة التي تؤكد على وجود قطب مركزي واحد متحكم بالعالم، نظرة أخرى تنفي المركزية وترى أن هذه المسألة تعني العالم غير المحدد.
في الاقتصاد والمال
ولعل أوضح الإشارات إلى العولمة على أنها قطب واحد متحكم هو الرأسمالية الأميركية من دون أن يكون هناك أي إثبات واضح لأن العولمة تعني انتفاء سيادة الدول، هي جواب وزير مالية أميركا روبرت روبن على رئيس حكومـة ماليزيا مهاتيـر محمد: فخلال الاجتماع السنوي لمجلس المصرف الدولي وممثلي صندوق النقد الدولي في هونغ كونغ، هاجم مهاتير محمد العولمة والانحدار الأخلاقي العائد للمضاربة في أسواق المال ومصير الاسهم المالية، وركّز هجومه على هذه الضبابية الهائلة في المضاربة التي كانت وراء الأزمات المالية التي اهتزت وعانت منها بلدان جنوبي وشرقي آسيا، ثم انتقد قوى العولمة الكبرى لإجبارها بعض البلدان الآسيوية على فتح أسواقها للمتاجرين بالعملات والأسهم والسندات بهدف تدمير اقتصادياتها وامكاناتها التناسقية في الأسواق العالمية. ولقد تضمن الردّ الأميركي لوزير ماليتها ما يلي:
“اعذرني يا محمد. ولكن على أي كوكب أنت تعيش؟ انك تتكلم عن المشاركة في العولمة كأن ذلك يتضمن خياراً متاحاً لك. فالعولمة ليست خياراً وإنما حقيقة واقعة. يوجد اليوم سوق عولمة واحدة والطريقة الوحيدة الممكن أن تنمو فيها هي اللجوء إلى أسواق السندات والأسهم للحصول على الاستثمارات وبيع ما تنتجه مصانعك في أسواق العولمة التجارية. كما أن أهم حقيقة حول العولمة هي أن لا أحد يسيطر أيها الأبله. أسواق العولمة تشبه الإنترنت . . . لا يوجد أحد في مركز السيطرة، لا أميركا ولا القوى الكبر ولا أنا.
ويعتبر سوق العولمة اليوم عبارة عن قطيع الكتروني من متاجرين مجهولين بالعملات والأسهم والسندات وكل ما خطر لهم يجلسون وراء أجهزة الكومبيوتر… وهم لا يعترفون بالظروف الخاصة لأية دولة . . . وإنما بقواعدهم فقط، وهي منسقة إلى حدٍّ بعيد. انهم يحددون نسبة الادخار، والتي يفترض أن تحققها دولتك، ومستوى عجز ميزان المدفوعات التجاري.
ويرعى هذا القطيع في 180 دولة في العالم، لذا لا وقت لديه كافياً لأن ينظر إلى مواقفك وأحكامك ومخاوفك بالتفصيل. إنه يتوصل إلى أحكامه بصورة خاطفة جداً عما كنت تعيش استناداً إلى قواعده ونظمه ليس إلا( ).

في السياسة:
هذا التناقض في النظرة إلى العولمة من زواياها الاقتصادية المختلفة ينعكس بالطبع على سياسة دول العالم إذ نجد منظومة كبرى من الدول تدخل عصر العمولة أو تقر بأنها دخلته فعلاً وتشير إليه وكأنه القدر. وتسعى هذه للسيطرة على التطورات الاقتصادية الحالية في البلدان النامية، وتبدو الشركات الاقتصادية الكبرى تهمش دور الدول بالمعنى السياسي وتفرض قراراتهـا على الاقتصاد الوطني. فالاقتصاد أصبح سيد السياسة في العالم، وستبرز نتائجه بشكل هائل بعد سنين من الآن عندما تدخل الأسواق العالمية المنافسة الحرة، خصوصاً وأن عدداً هائلاً من الاتفاقات التجارية الإقليمية والعالمية وفي رأسها “الغات” ومناطق التبادل التجاري الحر ستطبع السنوات المقبلة وتحكم السيطرة على الاقتصاد الدولي والتجارة العالمية.
هناك شركات عالمية تقعد مقابل الدول في الترتيبات الاقتصادية وتوسم العصر بحاجة ماسة خلقتها لضرورة نمو الدول واستمرارها ونعني بها التخصصية( ). إنها شركات عابرة القارات، ويفوق نفوذها نفوذ الدولة ولها أسواقهـا الخاصة الممتدة وأمنها وقوانينها الخاصة.
بهذا المعنى نفهم كيف أن الأوروبيين وخصوصاً الفرنسيين منهم ينعتون العولمة بأنها “أمركة” العالم بينما يصر الأميركيون على أنها النظام العالمي الجديد. وإذا كان النظام السائد هو نظام السوق الذي يروج له على أنه المؤهل لقيام الأنظمة السياسية والاجتماعية وليس العكس “أي تحكم السياسة بالاقتصاد والنظم الاجتماعية”( )، فإن الواقع الحاصل يبرز غلبة الملامح الاقتصادية عن طريق الازدياد في التحرير الاقتصادي، ورفع القيود الجمركية وغيرها عن السلع المحلية والبضائع والأيدي العاملة والأسواق المالية، مع انخفاض حضور وحصص القطاع العام في الإنتاج. وبهذا المعنى نشهد تهافتاً من الدول النامية على دفع عجلة الإصلاحات وتأهيل البنى التحتية، وتشجيع المؤسسات القائمـة على السوق، المواكبة التحول الاقتصادي الموجه مركزياً نحو النظام السوقي( ). كما تشهد سياسة هذه البلدان إعادة نظر شاملة وتسارعاً لعمليات الانفتاح على التجارة الدولية وفق إصلاحات تبدأ من أسواق العمل حتى آخر مرافق الدول وإداراتها.
في الصحافة
إذا كانت العولمة في سماتها الأميركية قد طبعت العالم بمظاهرها في مجمل وقائع الحياة، إلى درجة أن قارةً مثل اوروبا صرخت بالفرنسية لوقف “الأمركة”، وأقصى هذه الصرخات تلك التي أطلقها وزير الثقافة الفرنسية جاك لانغ في المكسيك في المؤتمر العالمي للإونيسكو بقوله: اتحدي يا ثقافات الدنيا ضد الغزو الأميركي الثقافي.
إذا كان هذا موقف فرنسا، فلا عجب أن نجد حذراً وإدانة لمظاهر الثقافة من قبل العديد من أنظمة العالم وخصوصاً في بلدان العالم النامي حيال إقبال أجيالها على هذه الملامح الجديدة التي تكسح ثقافة المجتمعات في الغناء والموسيقى والأطعمة الأميركية.
فالعالم كله “يستهلك الثقافة الأميركية، وحتى أن أعداء أميركا يلبسون الجينز، ويأكلون الهمبرغر، وأصناف الفاست فود والتشيبس، ويشربون الكوك والمِلْك” (الحليب) ويدخّنون المارلبورو، ويرقصون على أنغام الجاز والروك اند رول والسالسا ثم يتسمّرون أمام شاشات الـ سي إن إن التلفزيونية والسينما لمشاهدة الأفلام الأميركية والتمثل بها وتقليدها في المظهر والسلوك.
هكذا تبدو ملامح الدنيا مع نهاية هذا العصر “تتماهى” مع تفاصيل الحياة والثقافة الأميركيتين( ).
ولا يعني التماهي أو التماثل ردة الفعل الوحيدة تجاه أي جديد مستورد يخترق مكونات الثقافة عند أي شعب من شعوب العالم، بل هناك الرفض القاطع وعدم القبول بكل مظاهر العولمة. ولا نرى من جديد في ردود فعل الشعوب تجاه العولمة، كونها تنحصر وتنقسم وتتصارع كما كان يحصل بالنسبة لمجمل الأفكار في ثلاثة تيارات:
-1 الاندماجي المشجع والمتحمّس إلى المزيد من الانفتاح.
-2 الانسحابي الرافض والمتشبّث بالهويات الوطنية والثقافية والذي يوصم شبكات وإفرازات العوملة، كما غيرها من قبل، داعياً إلى التمسك بالقيم والهوية حيال المشاريع التي لا تبرأ من الأصابع الصهيونية التي توحي بالشرق أوسطية في “عملية التسوية التي كانت تهدف إلى استبدال هوية المنطقة العربية – الإسلامية مثلاً بأخرى جغرافية تضم بلدان الشرق الأوسط بما فيها اسرائيل”( ).
-3 التوفيقي هو الذي يحاول جمع التيارين السابقين فيأخذ من هذا وذاك وفق ما يخدم مصالحه وتطلعاته، وهو من أسوأ انواع الفكر بالمعنى الفلسفي. وتكاد تغرق مجمل المجتمعات العربية في المجال التوفيقي حيث تستهلك الغرب ويلبسها الغرب لكنها لا تهادنه في المجالات الفكرية ومسائل حق تقرير الشعوب لمصائرها.
ولو أردنا أن نخلص من الكلام عن هذه التيارات الثلاثـة لقلنا إن الإعلام هو العنصر الطاغي الذي حمل مجمل ملامح ما يسمّى بالعولمة، وتبدو الثقافة والسياسة والمال وتجارات النفط تعبر الحدود والقارات عبر شبكات الصور المتلفزة والإنترنت وغيرها من التقنيات الاتصالية وتقنيات المعلومات. وتنتج أميركا في هذا المجال الإعلامي مجمل المنتوجات الإعلامية التي تغزو العالم بالصوت والصورة والحركة واللون، ويشاهدها سكان الأرض بفضل قوتها وامتدادها العالمي الواسع الانتشار.

في العولمة والإعلام
يعتبر الخبر أو النبأ صورة ناطقة لحدث معيّن في زمان ومكان معينين يكتمل في إجاباته على الأسئلة الستّة المعروفة التي تشكّل مقوّماته: من؟ ماذا؟ متى؟ أين؟ لماذا؟ وكيف؟
والخبر الذي يمثّل البنية الأولى لعلوم الإعلام يرد في اللغة الإنكليزية News حاملاً بذور العولمة وملامحها الرئيسية حيث تعني الكلمة اختصاراً لوجهات الكرة الأرضية الأربع:( )
N وتعني الشمال North، E وتعني الشرق East، W وتعني الغرب West، S وتعني الجنوب South.
لسنا في حاجة ، انطلاقاً من هذه البنية الإعلامية، إلى التأكيد أننا في صدد ثورة تكنولوجية عارمة وخصوصاً في مجال الإعلام، تحدث تغييرات جذرية وبمعدلات متسارعة لم يشهدها المجتمع من قبل وذلك على جميع المستويات السياسية والاقتصادية والتربوية والثقافية وحتى العسكرية منها.
وبفضل التقنيات الإعلامية لم يعد ينظر إلى التكنولوجيا على أنها مجرد أدوات ووسائل معزولة عن سياقها الاجتماعي والبيئي، ومقطوعة الصلة بالقيم الأخلاقية، وكما كان يحصل تقليدياً، بل ينظر إليها على أنها وسيلة تنتج أدوات ومفاهيم وقيماً تعمل على حل مشاكل الإنسانية في أوقات السلم والحرب. وهذا ما يمنح الإعلام صفة الحتمية التاريخية التي تحمل التقدم والتغير المستمرين بشكل مستقل عن المجتمعات والدول التي تبدو عاجزة أحياناً كثيرة عن توجيهه أو إبطائه أو توقيفه. وتصبح مقاييس تطور المجتمعات في مدى تبعيتها وتكلفهـا مع المتغيرات التكنولوجية والإعلامية التي تفرزها آليات المجتمع الدولي.
وهكذا تبدو البشرية، بالمعنى الإعلامي، تجتاز معبراً مفصلياً يؤدي إلى الانخراط في العولمة. فمن التكنولوجيا التي كانت تطبق المعرفة وتتقولب معها، إلى مقولة فرنسيس بيكون المعروفة “المعرفة قوة” حيث قدّمت تكنولوجيا المعلومات والمعارف حضورها القوي وصحتها كونها من أفضل وأهم مصادر القوة السياسية والاقتصادية والعسكريـة. ووصولاً إلى قلب هذه المقولة مع فوكو أي “قوة المعرفة”، تكون هذه القوة الثلاث بالإضافة إلى الدين ترسي من خلال ممارستها المباشرة وغير المباشرة علماً معرفياً يخدم أغراضها ويروج لأفكارها ويبث قوتها ومصالحها وكل هذا تحت وهم الموضوعية والعلمية بذرة التكنولوجيا الأساسية.
وقبل أن نوصف العلم أنه لم يعد محايداً، وموضوعيته ليست ببعيدة عن طموح وأهواء القادة والدول وحاجات السوق، لا بد من تحديد الدور الذي لعبه الإعلام وكعلم بصيغة الجمع نسف أنسقة العلوم في تقسيماتها التقليدية.
لقد بقيت البشرية حتى “البارحة” تحصر المعرفة في حقلين واسعين من العلوم المعروفة جمعهما ثالث:
أ- علوم ترى المعرفة في دوائر خارجية في بحثها عن الإنسان، وتضم العلوم الإنسانية كلها وحتى المحضة التي تدرس الخارج في خط أفقي يطال كل ما في البيئة والمحيط وتسخّر النتائج والتحليلات لصالح الإنسان. ونورد على سبيل المثال لا الحصر علوم التاريخ والجغرافيا والبيئة والاجتماع والسياسة والاقتصاد والآثار والإنتربولوجيا بالإضافة إلى الرياضيات والفيزياء والكيمياء وغيرها من العلوم المكثفة الحقول والتشعبات.
أليست زاوية المنافسات العسكرية الأولى التي من خلالها يحدد علم الفيزياء الحديثة المتغيرات التاريخية الموجهة والشاملة؟ . . . فعلم الفيزياء هذا يمنح تفوقـاً عسكرياً للمجتمعات التي استطاعت تطوير وإنتاج واستخدام تكنولوجياتهـا بالطرق الأكثر فعالية، هذا التفوق النسبي الذي توفره التكنولوجيا يزداد طبيعياً مع تسارع المتغيرات التكنولوجية( ).
ب- إذا كانت هذه العلوم قد حاولت حصر آثار المحيط على الإنسانية وكيفية تفاعلهما بهدف فهم دوائر تأثر وتفاعل الأفراد والشعوب بمعطيات خارجية عامة، فقد ارتدّ الخط البياني في البحث عن المعرفة إلى الداخل أي داخل الإنسان في تكملة معاصرة للفلسفة كعلم أساس وأب للعلوم الإنسانية على الإطلاق( ).
فمن معبد دلفي القديم ونقشة “اعرف نفسك تعرف العالم” فوق عتبة اليونان، وصولاً إلى فرويد الطبيب الذي رمى المبضع وغرق في تفسير أحلامه وأحلام غيره مرتداّ إلى البحث في اللاوعي للخروج بعلم النفس التحليلي المتشعّب دورة جديدة في البحث عن المعرفة في الداخل. وإذا وجدنا أن هذا النبش التحليلي في الداخل يحمل ملامح اقرار بالإنسان على صورة خالقه ومثالـه أو مشروع خالق غير مكتمل، مما أثر في أدبيات الاعتراف بعملية هذا الخط المرتد، فإنـه حقل معرفي طبع ولا شك النصف الثاني من هذا القرن بما يجعله مواكباً لمجمل العلوم. نتمثل على ذلك بعالمي النفس ارنست ديشر ولويس شيسكين ( ) اللذين قلبا مجمل المفاهيم والحاجات في أميركا بدءاً من الخمسينات ومعهما لم تعد الأسواق تلبي رغبات المستهلكين وحسب بل عمدا إلى خلق حاجات جديدة تفترض أسواقاً وسلعاً جديدة أيضاً. السوق يجذب الرغبة ويتبعها في الوقت عينه والحاجة إحدى أهم مظاهر السوق العالمي الذي بحثـاه بشكل مفصل عبر التركيز على اللاشعور وكشف الرغبات المتحركة.
ج- هناك علم حديث هو الإعلام زاوج مجمل هذه العلوم المعروفة وتقاطع معها وأصبح من المتعذّر النظر إليه إلا بصيغة شاملة جامعة وعامة، وبشكل يطال مختلف أوجه نشاطات وحياة الأفراد والجماعات والدول. بهذا المعنى يتكلمون عن علوم الإعلام بالجمع. تؤثر وتتأثر بالعلوم كافةً وتطال الإنسان بخارجه ودواخله متقاطعة. وأصبح الحقلان المعنيان في تيارات العلوم يخضعان في قيمتهما إلى كون القاعدة والأساس في الاتصال والتواصل. إننا بهذا المعنى أمام تيار عالمي عريض ينخرط فيه المهنيون والنقابيون والحكومات والأحزاب والبشرية ككل وبنسب متفاوتة ومختلفة مع طبيعة الأنظمـة السياسية بحيث تطرح مجمل القضايا المرتبطة بالبشر وبنسب مختلفة أيضاً كالعدالة والحرية والمساواة والتربية والتعليم وديمقراطية المجتمع والقوانين وكل محصلات اساليب وميادين المعرفة المستخدمة.
ويبدو الإعلام في كل شيء ويتقن عملية واحدة هي الاتصال بالمعلومات كوظيفة أساسيـة في حركة العصر وسنرى الفرق بين الاتصال والإعلام عند التطرق إلى إعلام القرن المقبل ونعني به الإعلام دمغة المستقبل.
جاء الإعلام الذي عولم البشرية في علومها والمعرفة والمقتدى في السياق الدولي، من حتميات التكتل في مختلف الميادين. ولم يعد محرك التاريخ الإستعمار المباشر والموارد الطبيعية بقدر ما هو قوة المعلومات كما أشرنا. إننا اليوم أمام ثالوث: المال والديمقراطيـة والاقتصاد الحر وفوقها ومعها انفجار تكنولوجيا علوم الإعلام وكلها تدفع إلى عملية التدويل أو العولمة القصرية تماماً كما رأينا في ميادين العلوم حيث تبدو “قوة جذب العالم وإثارة التطلعات وحرية المعرفة والإطلاع وملامح الإستعدادات القوية جداً لجميع المجتمعات الإنسانية بهدف المشاركة، عائدة إلى ترقّب النصر النهائي لآلة الفيديو أو مسجل الأفلام التلفزيونية . . .”( ).
ولكي نفهم الدور الأساسي الذي لعبه الإعلام في العولمة نكتفي بالتوقف عند مجموعة صغيرة من المحطات التي قد تفي برسم الصورة، وهي تندرج في خانتين: محطات تشكل أسباباً تكنولوجية للعولمة، ومحطات جاءت نتائج طبيعية للتكنولوجيا فأصبحت ملامح العولمة الأساسية.
الشبكة أو العولمة
لقد تم تحقيق مجموعة هائلة من الإنجازات البشرية في إيقاع زمني متسارع في مجال ثورة تكنولوجيا الإعلام والاتصال. ولا بد من وضع التواريخ الكبرى للاتصال من حيث اختراع تقنياته أو تطويرها لفهم هذا الكلام – اللوحة:
تواريخ الاتصال الكبرى( )
الإختراع أو التطوير المكــــان السنة
اختراع الطباعة-التيبو الصين 1038
اختراع الأحرف الطباعية المتحركة المانيا 1439
غوتنبرغ يطبع الكتاب الأول المانيا 1455
طباعة الجريدة الأولى الدورية بلجيكا 1605
اختراع التلغراف الهوائي فرنسا 1790
اختراع الصحافة الميكانيكية أو الآلية بريطانيا 1811
ظهور أول صورة طباعية فرنسا 1826
مورس Morse اخترع التلغراف الكهربائي الولايات المتحدة الأميركية 1837
اختراع الروتاتيف في الطباعة الولايات المتحدة الأميركية 1846
اختراع الهاتف Bell)) الولايات المتحدة الأميركية 1876
اختراع الأسطوانة التسجيلية فرنسا 1877
شبك أول خطوط هاتفية فرنسا وأميركا 1884
أخوة النور يخترعون السينما فرنسا 1895
حقق ماركوني أول بث إذاعي (3 كلم) ايطاليا 1896
تجارب تلفزيونية أولى أميركا 1928
ظهور اسطوانة ميكروسيون أميركا 1945
الإختراع أو التطوير المكــــان السنة
ظهور الكومبيوتر (الآلة الحاسبة) أميركا 1948
ظهور ألف تلفزيون فرنسا 1950
تطوير آلات التسجيل أميركا 1957
بداية شبكة انترنت أميركا 1969
العاب الفيديو والفيديوكاسيت أميركا-اليابان 1975
تسويق المعلوماتية الدقيقة أميركا 1976
إطلاق الـ Minitel مجاناً في المنازل فرنسا 1982
إطلاق الاسطوانات الصغيرة اليابان 1982
إطلاق خطة الكابلات فرنسا 1982
CD ROM اليابان 1985
(Multimedia)بداية صناعة وسائل الاتصال المتعددة أميركا 1989
اختراع WEB مقياس الاتصال بالإنترنت أميركا 1992
إمكانية تحويل الفيديو على الخط الهاتفي(ADSL) أميركا 1993
إطلاق التلفزيون المباشر (175 محطة) أميركا 1994
دمج ديزني و ABC وتايم ورنر CNN أميركا 1995
القنوات الرقمية فرنسا 1996
البث الرقمي Canal+، CLT، BSKYB، Kirch، TF1 أميركا – أوروبا 1998

منذ اختراع التلغراف الكهربائي والهاتف تبدو الشبكة كمفهوم بداية منطقية لتاريخ الاتصالات بحيث شكل المنطلق القاعدة التي منها تفرعت وتشكّلت شبكات الهاتف الكابلي والمتحرّك وشبكات أخرى مثلت ملامح القرن الحالي وأسست لفكر ومظاهر العولمة في طغيانها، بل جسّدته فعلياً.
يعتبر مفهوم الشبكة أساسيا في فهم محدداتها المرتبطة بالهاتف والتلكس والفاكس الثابت والمتحرك لشبك الدول المواطنين ببعضهم البعض عبر مركزية تفرضها فلسفات المال العالمي وآلية المحاسبة والتدقيق بدءاً من تاريخ 1948. إنه مفهوم يحيلنا إلى “قوانين” وقطاعات الإعلام والاتصال في اشكالياتها المؤسساتية والاجتماعية والثقافية، وارتباطها الحيوي العضوي بنظريات المرفق العام، وهذا ما يفترض التحكّم بها لا بالرجوع والتلهي بمالكيها من القطاعين العام والخاص ولكن بضرورة تداخلها وتوسعها كما يحصل في بلدان التسويق والعرض الشاسع بمعناه العالمي.
وقد تكاثرت شبكات الاتصالات كانفجار ملحوظ في وسائل الإعلام تجهيزاً ومحتويات (مضامين وبرامج) وانتشاراً (أسواق ودول)، “إلا أن تكاثرها لا يعني استقلالية بعضها عن بعض بل تداخلها وتشابكها وتكاملية الحلول في ما بينها مع احتفاظ الهاتفية منها بتمايز جعل مجمل الشبكات الأخرى تتبعها أو تمر عبرها أو من خلالها، وهذا ما جعلها مع خدماتها مركزاً للزخم الإتصالي”( ).
والملفت أن الشبكات أصبحت اقتصاداً للعصر بمعنى أنها مصدر للقيمة والدخل القوميين وفرص العمل. وقد شهد العالم والغرب خصوصاً عالماً من التحولات ولَّدت مجموعـة جديدة من المعتقدات والقيم والسلوك الفردي والجماعي، كما أجهضت مختلف الأسس القديمـة في تكوين المعرفة والقيمة. ويصح القول إن حواجز تاريخية قد انهارت بين المجتمعات وبتنا على قاب قوسين من السلوك الفردي العالمي الذي لا يفترق كثيراً عن السلوك العالمي الجماعي (تشابه المجتمعات في الشكل لا المضمون كمعيار وأسس للعوالمية الكبرى).
وباختصار شديد نرى أن مفاهيم الشبكات في حدودها التأثيرية وقدراتها على التغيير وتحويل الأفراد والجماعات تغلّف الكرة الأرضيـة( ) وغيرها من الكواكب والفضاءات بالمحصلة الناتجة من التقاء ثلاث صناعات رئيسية :
أ- ادماج الكابلات بالسواتل
ب- تقنيات التسجيل والتشفير والهوائيات مما يواكب تاريخ البصريات والتلفزة
ج- البرامج والأجهزة الخاصة بالإنتاج وكل ما يرتبط بصناعة المضمون.
ويفرض تداخل هذه الصناعات الثلاث منظومة عالمية متكاملة أو شبكة الشبكات أو تزويجها وترشيدها لتحقيق أمرين أو انصياعاً لمتطلباتهما:
أ- التداخل التقني لهذه الصناعات لاكتمال مفهوم الشبكات.
ب- الضرورات الستراتيجية للتوسع العالمي التي تمارسها مجموعات الإعلام الكبرى العالمية: إن تملك 3 أقمار صناعية يكفي لتغطية الكرة الأرضية بما نريد بثه.
لا تمارسها فحسب بل تقدمها على شكل أجيال متعاقبة لا نرى في تعاقبها أية قطيعة، بقدر ما نشهد تكاملاً واغراقاً في مبدأ الاستهلاك المميز. جيل يلغي جيلاً سبقه فيدخله مخازن الخردة وأرصفة “العالم الثالث” ولا مكان فيهما “لقمامات” الأجيال المتكاثرة وجيل يطفو يظفر بالسلوك البشري لكنه سرعان ما يغيب ويذوب ويموت (نظرة إلى مصير الأنتينات والهوائيات وخطوط الهاتف والتي انقرضت لصالح الصحون اللاقطـة والتي تنقرض لتغدو صغيرة الحجم وضمن أجهزة التلفزيون، وكذلك أجهزة الخليوي التي ما أن تولد حتى تموت لصالح غيرها … وهكذا).
والكلام عن الأجيال في تعاقبها سمة المعلومات وبالأخص الكومبيوتر حيث عرفت البشرية منها خمسة أجيال كان الفصل فيها للتغيير الذي طال العناصر المادية المستخدمة في بناء وحدة المعالجة المركزية والذاكرة:
الجيل الأول (1948): استخدم فيه الصمام الإلكتروني كوحدة البناء الرئيسية لتطوير حاسبات ضخمة يقدّر وزنها بالأطنان وتشغل الصالات الكبيرة وتستهلك طاقة كهربائية عالية.
الجيل الثاني (1958): حيث حل الترانزستور محل الصمام الإلكتروني ليصبح الكومبيوتر أصغر وأسرع وأكفأ ويخف فمعدل استهلاك الطاقة الكهربائية إلى حدٍّ كبير.
الجيل الثالث (1964): وقد جاء نتيجة استخدام شرائح الدارات المتكاملة Les circuits intégrés حيث حلت شريحة سيليكون واحدة مقام العديد من وحدات الترانزستور والعناصر الإلكترونية الدقيقة الأخرى.
الجيل الرابع (1982): لا يختلف عن الجيل السابق إلا في كثافة العناصر الإلكترونية التي أمكن دمجها في رقيقة السيليكون والتي بلغت عام 1984 خمسين ألف وحدة أولية chip bit.
الجيل الخامس (1982-1992): حيث حاولت اليابان ردم الهوة المتسعـة بين إمكانيات العتاد Hardware والبرمجيات Software في مشروع طموح مدتـه عشر سنوات (أصاب أميركا وأوروبا بالفزع) أطلقت عليه إسم الجيل الخامس. ولقد سعى مصممو هذا الجيل إلى وضع البرمجيات موضع الصدارة عن طريق تطوير حاسب قادر على التركيب والتحليل والاستنتاج المنطقي وبرهنة النظريات وفهم النصوص وتأليف المقالات. لقد راهنت اليابان في مصيرها التكنولوجي المعلوماتي على هندسة المعرفة وأساليب الذكاء الإصطناعي.
وهكذا برزت تضاريس الخريطة المعلوماتية في صورة شبكة عالمية يضيئها قبطان أميركي وآسيوي يسعى كل منهما لاحتواء الآخر بالإضافة إلى كيان أورذي يعتبر الأمن المعلوماتي أحد الأهداف الرئيسة لتكتله العولمي الاقتصادي والسياسي.
لقد انعكس هذا الوضع الثلاثي في صورة مشاريع ثلاثية تلت الجيل الخامس لعولمة المعلومات:
– المشروع الاميركي الهادف دوماً إلى تطوير نظم الكومبيوتر والاتصالات العالية الاداء.
– المشروع الياباني لحوسبة العالم الواقعي.
– المشروع الاوروبي للبحوث الستراتيجية في مجال تكنولوجيا المعلومات.
وتتنافس هذه المشاريع المختلفة للمعلومات في وحدة عالمية متكاملة تضيع فيها الحدود بين العتاد والبرمجيات، وبين انظمة الحاسبات ونظم الاتصالات، وهي تسعى إلى خلق نوع من التناغم اكبر بين الإنسان العالمي والالة.
الرقمية Numérique أو Digital
يفترض الكلام عن الرقمية ظاهرة الشراكة الكاملة التي جمعت تكنولوجيا الكومبيوترات إلى تكنولوجيا الاتصالات. والسؤال الأكبر المطروح هو: هل يواجه البشر حاسباً الكترونياً يرتبط بالعالم الخارجي من خلال شبكة من البيانات أم أن هذه الشبكة ترتبط بها معدات الكترونية كالحاسب والهاتف والفاكس وآلات تصوير المستندات وغيرها؟
من هو صاحب القدرة؟ منتج المعلومات أم موزعها؟ يبدو أن اوتوستراد الإعلام تحول منتج المعلومات من سلعة إلى خدمة مما يفرض اهمية عليا في شق الاتصالات حيث يتوارى منتج المعلومـة كما توارى من قبله مولد القدرة الكهربائية في شبكة توزيع الكهرباء حيث لا يهم التعامل معها إن كان هذا التوليد قد جاء عن طريق الشمس او الفحم او الوقود والسائل او النووي.
إن غياب المنتج يشابه غياب سلطان المال الذي ذكرناه، وهو الذي يمنح الإعلام هذه القدرة الانتشارية التي تشكل سبباً للعوامة ومظهراً اساسياً لها في آن واحد. ولقد كان لقاء الاتصالات بالكومبيوتر متنافراً في البداية لأن المنتج الخاص بالكومبيوتر كان يطمح منذ الاساس إلى تغييرات تبلغ حد الثورة الشاملة. وهذا ما اعرض عنه نهج الاتصالات الذي اعتبر الكومبيوتر مجرد طفرة جديدة تضاف إلى قائمـة المستفيدين من خدماتها. والسبب لهذا الحذر بالطبع هو حجم الاستثمارات المالية الضخمة التي انفقت على الشبكات ومعدات تركيبها وايصالها إلى الاطراف. ولم يطل الزمن حتى نجح الكومبيوتر كصناعة في تحويل السنترالات الكهروميكانيكية إلى سنترالات رقمية مما يعني قدرة عالمية ومرنة على تحويل الرسائل وتحسين خدمات الاتصالات وانخفاض معدل أعطال الشبكات. وهكذا دخل الكومبيوتر قلب التقنيات الاتصالية وتبادل معها ليمثلا العدَّة الأولية للعولمة. لقد حلّ فيها عبر العناصر المكروالكترونية بحيث ان تكنولوجيا الاتصالات تدين له بارتقائها السريع بينما يدين هو لها بالدور الخطير الذي تلعبه على مستوى العالم والمتعاظم في المستقبل.
“لقد حررت الاتصالات الكومبيوتر من سجن المعامل والصالات المكيفة لتخرج به إلى الشارع والمتجر والورشة والمنزل تنشر خدماته عبر القارات والبحار والفضاء الخارجي”.
تشكل هذا الانفجار في ميدان المعلومات المصاغة بتقاطع نظم الاتصال وثورة السمعي البصري والكومبيوتر، والمحكومة بالرقمية كملمح عام للعوامة. والرقمية منحت امكانيات مضاعفة التقاء هذا الثالوث وتفاعله، واسست للبدايات التي ستكرس اقتصاديات المعرفة والعلم والسلوك في المستقبل.
“وتعني الرقمية تحويل الارسال إلى إشارات ذات شيفرة في لغة مرقمة من صفر وواحد بعدما كان يتم الارسال سابقاً بطريقة شبيهة بانتقال الصوت في الهاتف او بواسطـة كثافة الضوء في الارسال التلفزيوني. ولم تعد مقسمات الاصابع الهاتفية مجرد وسائل لتحويل المكالمات الهاتفية، بل عقول الكترونية دقيقة مبرمجة بإمكانها إرسال المعطيات والاصوات والصور بعد دمجها وتحويلها إلى ارقام مشفرة.
وتعتبر الرقمية تقنية سريعة ومرنة إذ ان المقاسم تحل محل الأنظمة الإلكترونية ميكانيكيـة، ويصبح كل مقسم حزمة من المعلومات باستطاعتنا نقلها بسرعة فائقة بمجرد ملامستها عبر الألياف البصرية وبكميات غير محددة. وهكذا يتدرج التلفزيون مثلاً ليصبح جهازاً متعدد الخدمات Multimédia كما ان شبكات التوزيع ستتدرج نحو شبكات رقمية متداخلة الخدمات Réseaux Numérique à intégration de services وهكذا ندخل القرن المقبل ونحن نشهد الإعلام متمحوراً حول شاشة هرتزية عادية أو مشفرة وفيديو وحاسوب وبنوك معلومات وفاكس نقال وهواتف مرئية وبريد الكتروني نقال والعاب الكترونية.
الانترنت ومنظومة الـ P.P.I.I
مع هذا التمحور الإعلامي المشار إليه، تقترب البشرية وتندمج عبر الألياف الضوئية والكابلات الأرضية والبحرية واشعة الميكروويف ودوائر الأقمار الاصطناعيـة. ولقد وصل الأمر إلى الحد الذي توقع معه البعض حدوث ” أزمة مرور” للأقمار الصناعية التي تزاحمت في ارتفاعها الثابت بالنسبة للأرض وبصورة يخشى معها تداخل موجات ارسالها.
إن تكنولوجيا الاتصالات هي مصدر “الشفافية الجغرافية” لتكنولوجيا المعلومات والتي جعلتنا لا نستشعر الفرق بين من يجاورنا ومن له القدرة أن يتصل بنا عبر ملايين الكيلومترات. هكذا لحقت صفة ” عن بعد” السوق والمدرسة والصحة والحياة في لغة عالمية واحدة. وهناك:
– التسوق عن بعد.
– عقد المؤتمرات والندوات عن بعد.
– التعامل مع المصارف عن بعد.
– التعلم عن بعد.
– الإنتاج والعمل عن بعد.
– إصلاح الأقمار الصناعية عن بعد.
– الطبابة وتشخيص الامراض عن بعد.
– إجراء العمليات الجراحية عن بعد.
– المشاركة في التمثيل المسرحي الفني التلفزيوني عن بعد.
– المسامرة، المراسلة عن بعد.

وليس مستبعدا التلامس عن بعد بعدما تم تطوير الياف الكترونية حساسة بشكل فائق تميز بين الناعم والخشن والاشكال. وهناك قواسم مشتركة غدت تؤمن الترجمات الفورية بحيث يستطيع مشترك في طوكيو يتحدث باليابانية ومشترك في دبي يتحدث بالعربية وآخر في واشنطن يتكلم بالانكليزية تجاذب أطراف الأحاديث مع الماني لا يعرف سوى الالمانية مثلاً.
فماذا تقدم الإنترنت للعولمة؟ وهل هي العولمة في مظهرها الثقافي؟ منذ أن أقدمت وكالة المشاريع المتقدمة ARPA التابعة لوزارة الدفاع الاميركية على اقامة شبكة ARPANET بهدف الربط بين مراكز الابحاث والجامعات في اميركا، وبهدف تواصل العلماء واصحاب القرار حيال خطر نووي سوفياتي عام 1969، راحت هذه الشبكة تنمو بمعدلات هائلة حتى اصبحت تعرف “بالشبكة الام” او “شبكة الشبكات” المتوقع أن يصل حجم مشتركيهـا إلى 350 مليون مشترك قبل حلول الالفين. ويبدو أن نسبة المشتركين فيها تتسارع بشكل ملفت يصل إلى 1700 بالمئة.
ويرى الدارسون والمتحمسون لشبكة الإنترنت فيها الملاذ الواسع لديمقراطية المعرفة في كل الامكنة والازمنة ومن دون أية قيود … وتبدو انها النتيجة الفعلية لتجسد “القرية الإعلامية الإلكترونية” التي رددها الناس وانتظروا حلولها كالاحلام. لقد وفرت الانترنت مجتمع المعلومات السريعة الانتشار والتوظيف،”وباتت من افضل الوسائل لتحقيق نزعات القوى الدولية نحو العالمية الكونية، واظهرت بصورة جلية اقتصاد عصر المعلومات التي لا تنقص خلافاً، للموارد المادية، بل تزيد مع زيادة استهلاكها”.
هكذا تبدو البشرية منقادة بالمعنى الإعلامي إلى العولمة الحتمية او إلى ما يعرف بـ P.P.I.I التي باتت تحكم الاسواق الحالية بفضل التقنيات والشبكات الجديد المعروفة بالـ WWWأي WORLD WIDE WEB أي نسيج خيط العنكبوت، الشبكة الاساسية التي باشرت عام 1994 بتغليف الكرة الأرضية وتبعتها شركات عالمية أخرى.

ما المقصود بأحرف هذه المنظومة؟
كونية PLANETAIRE
دائمة PERMANEUR
فورية IMMEDIAT
غير محسوسة IMMATERIEL

إنها صفات أربع تمثل مجمل ما أسلفنا، تقارب صفات الخالق ويروج لها على أنها تفرض الخضوع والإيمان والمذاهب الجديدة وأدبيات العولمة. كل أمر وسلوك يعمل على محاولة تنظيمه وفقاً لهذه المنظومة من وسائل الإعلام المتعددة إلى الثقافة الكلية.
هكذا يدخل الإنسان المعاصر حساب النسب اللامتناهية، والمنطق الغامض، وتصبح ثقافات البشر ومعارفهم محكومة بفعل الصدفة والعلاقات المحكومة بصدفة الضوء (الزواج عن طريق الإنترنيت) وعدم اليقين مقياس حركة العالم الحديثة. وهكذا يبدو الزمن كمفهوم فلسفي في الدنيا منصبًّا على الحاضر. الحاضر هو الأبلغ والأنقى والأبقى أمام غياب الماضي وانحساره، وظهور المستقبل كزمن أوحد موجود في صلب الحاضر. ويبدو تخلخل التقسيم الزمني اليوناني المتساوق زمناً كونياً وتظهر اللغة الكونية أو ما يروج له بتطبيع البشرية.
مشاعية المعرفة
تفرض هذه المنظومة نفسها على البورصات العالمية وأسعار العملات، البرامج الإعلامية، ووسائل الإعلام المتعددة، والـ cyberculture وتفرض الأسواق المالية نفسها كعلوم مرجعية لا كالعلوم الطبيعية وآلية نيوتن أو الكيمياء العضوية بل وفق الحسابات والأفكار اللامتناهية كما أشرنا وعلوم الأحياء ( ).
إنها فكرة العولمة وبذرتها، تتحكم بالعالم، توحد شبكات الاتصال وتسمح لأي كان من وراء جهاز كومبيوتر أن يتصل مع أي آخر عبر شبكة الإنترنيت ومن خلال المراكز الكثيرة التي تؤمن مثل هذا الارتباط بواسطة أية وسيلة من وسائل الاتصال بما فيها شبكة الهاتف العالمية. وهو يؤمن البحث عن معلومات أو تلقيها ويضع الأجيال والبشرية في ما نسميه مشاعية المعرفة التي تسقط خاصية الرغبة في هذه المعرفة، إحدى أبلغ المرتكزات الثابتة في المنظومة التربوية وتطور وتوازن السلوك البشري ونمو الشعوب.
الإعلان أو الإعلام مقابل الاتصال
ترافقت تقاطعات الحياة السياسية والاقتصادية والثقافية مع تقاطع وسائل الاتصال وتقنيات المعلومات مما أدى إلى تحولات كبرى لطبيعة الصحافة والاتصال. فقد انحسرت سلطة الصحافي في المجتمع وصار عصر الإعلام غير عصر الاتصال.
وكانت كلمة اتصال تعني تبادلاً بين متحاورين، وبسرعة فائقة احتكر المعلنون السوق للإعلام السريع لا للاتصال لأن الإعلان بهذا المعنى لا يدعو إلى الحوار بل إلى الإصغاء والإعلام. فالإعلام والاتصال ثقافتان مختلفتان، تقوم كل منهما على الصورة والمرسلة لكنهما يفترقان في الوظيفة، فالاتصال يحمل ويدعم مواداً بهدف تحقيق المكاسب والسوق مكانه الطبيعي، بينما الإعلام يجمع ويبث حقائق وأفكاراً تغذي التحولات الاجتماعية والسياسية.
وفي ظل المعلومة، يعيش العالم اليوم المرحلة التي يبدو الصراع فيها محسوماً لصالح الإعلان في صراعه مع الإعلام بمعنى الاتصال. ويبدو الإعلام أو الإنباء هو الوظيفة الاتصالية الكبرى التي يسخرها الإعلان بشكل كامل لغاياته وأهدافه السريعة والمدرّة للأرباح.
نحن نخرج عولمياً من القرن العشرين أو قرن التواصل فالاتصال، إلى قرن جديد هو قرن الإعلام وحسب، قرن المعلومة. وللإعلان الدور الكبير في هذا الخروج عبر مواد ومعلومات لا يهمهـا أن تتواصل بقدر ما تعلم لتتواصل، وهي مادة “معارك” حالية خفية تستوحيها معارك “أوتوسترادات الإعلام” وتظهر في تحفز الشركات الإعلامية الضخمة للتقاتل على المليارات المحددة بسرعة إعلام الناس وتزويدهم بالمعلومات والأفكار.
وإذا عرفنا أن إجمالي الإنفاق الإعلاني في وسائل الإعلام الرئيسية قد وصل إلى 350 بليون دولار خلال عام 1996( ) نفسهم كيف أن الدول قد لجأت إلى توظيف تكنولوجيا الاتصال في إعلامها.
وهكذا يشغل الإعلام حيزاً واسعاً في ستراتيجيات هذه الدول السياسية والاقتصادية والعسكرية، متخذاً قوة ما يعرف بالبعد الرابع تراتبياً (الإعلام) والأول قوة إلى جانب الأبعاد الثلاثة المألوفة في ركائز الدول ونعني بها الاقتصاد والعسكر والدبلوماسية.
وترتفع حدة الانشغال الدولي حيال امحاء ملامحها الخاصة بالمعنى الإعلامي خلال القرن المقبل، والطغيان الواضح لمبدأ الشمولية كعنصر أولي في تشكل القوى العالمية والتكتلات الواسعة وتقرير المستقبل. وتصبح المنجزات ومعارك الحال الإعلامية مكونات رئيسية في كيانات الدول وطاقاتها. وأبرز ملامح هذه الطاقات توجيه الرأي العام العالمي نحو ذهنية التقبل الواقعي “بالقوى” و”الإعلان” كحقائق تاريخية ثابتة تعصى على التبديل.
إنها معارك شكلية تستعيض عن المكاسب العسكرية المستحيلة بين الشعوب بالمكاسب الثقافية – المعرفية – المالية الأخرى. وتبدو نتائجها آيلة إلى وقوف العالم وانشقاق دوله إلى صفين تحددها القدرات الإعلامية – الإعلانية.
“إننا بالمعنى الإعلامي على شفير إمحاء الجماعة بالمعنى التقليدي والتوجه نحو الجماعة العالمية. ويبدو العالم يضع يده على قلبه صارخاً: ليس المهم الكلام فقط عن التكنولوجيا والإعلام ولكن عن الاتصال لأن الجماعة La communauté لا تأتي إلا من الاتصال La communication، وإذا كان الاتصال ينسحب لصالح الإعلام الإعلاني أو الإعلان الإعلامي فإن في هذا خوفاً من الإعلام ومن فقدان المضمون”( ).
ما هي الآثار الكبرى لهذه العولمة؟
الإنسان الجديد
الإنسان الجديد في الجواب الغربي، لكن الغرب المعلن يبدو إعلامياً غارقاً في الشكل أو أنه يعاني نفاذ المضامين أو أن الشكل صار هو المضمون بالمعنى المعاصر. فمنذ اختراع التيبوغرافية عام 1038 في الصين حتى 1998 حيث تتحقق مشاريع الأقنية الرقمية في الغرب مسافة زمنية بلغت 960 عاماً من الجهود والمنجزات تجعل المستقبل قرن جمع المعلومات والأفكار المعصورة الموجهة بهدف إعلام البشرية وحسب، لكنه في العمق هو الإعلام الغربي الذي يسخر كل العلوم بنجاحات الغزو والتحولات العالمية باسم مساحات الحرية والديمقراطية. وهكذا تبدو العولمة بفضل الإعلام تتسارع عبر توجهات أساسية في تكنولوجيا الاتصالات تشكل محطات السنوات المقبلة وأهمها:
-الخروج من الصوتي إلى الرقمية.
-البحث عن الرخيص والمتيسر للجميع.
-الخروج من الثابت إلى المتحرك والنقال.
-تعميم الشيفرة الإنكليزية والتوجه نحو الشيفرة المتعددة اللغات.
-من الأسلاك النحاسية إلى الألياف الضوئية التي يسري بداخلها شعاع الليزر حاملاً الرسائل المراد نقلها. أو من الإلكترون إلى الفوتون.
سقوط مصطلح العالم الثالث – اللاتبعية
هكذا يخرج العالم، بفضل الثورة الاقتصادية، من ظاهرة قديمة طغت على الفكر وخصوصاً في علاقات الأفراد والدول ولفترات طويلة ونعني بها التبعية وما رافقها من فلسفات وأفكار وحروب وصراعات قسمت العالم إلى شرق وغرب وشمال وجنوب وغني وفقير ومرسل ومتلق.
إننا اليوم أمام ظاهرة جديدة هي اللاتبعية، إذ لم يعد رخاء بعض الدول مرتبطاً بالمطلق بفقر الدول الأخرى. ولم يعد محرك التاريخ السيطرة المباشرة وانقياد الدول إلى صياغة التكتلات مصحوبة بكمٍّ من الأسئلة المكثفة عن طبيعة التنمية في العالم الثالث الذي تضاربت النظريات حول بقائه أو إزالته كمصطلح صالح للأبحاث الكلية.
“لسنا اليوم في صدد ازدواجية الاستبداد بين العالم المنتج والعالم المستهلك”( )، وليس هناك من محيط مرتبط بمركز رأسمالي من خلال علاقة تبعية كلاسيكية. والدولة التي لا تملك في الوقت الراهن قدرة الاستثمار والصرف في العلم والتكنولوجيا مع الحرية والاعتراف بالحقوق الفردية للمواطنين لا يمكنها أن تماشي ثورة التقنيات. ولم تعد إذن نظرية التبعية كافية لفهم المنظومات والآليات الجديدة التي تحكم العلاقات الفردية والدولية. لقد أسقط انفجار الإعلام الكثير من النظريات الاقتصادية والاتصالية خلال عقدين من الزمن. وبدا العالم المستهلك الراكد يعاني تهميشاً وتنحيـة شاملين إزاء التطور الاقتصادي العالمي الذي تخضع له قطاعات ضخمة من المجموعة البشرية في نهاية هذا القرن وفي المقبل. ولم يبق للعالم الثالث في قواه العاملة وموارده الطبيعية أية جاذبية كالتي شهدها العالم في الستينات لدخوله الكوكبية محصلة التكنولوجيا الجديدة، والفكر العقلاني وتراجع مؤسسات التقنين التي كانت إلى وقت بعيد مصانة من كل نقد، وطبعاً لصالح الدول الصناعية الكبرى والشركات المتعددة الجنسيات ومؤسسات التمويل العلمية والتوسيع المتواتر للأسواق الاستهلاكية.
لقد فتحت العولمة بوابات الفيضان المعلوماتي، وأمام تيارها الجارف ليس هناك سوى خيارين:
-السيطرة عليه ودخول فلكه.
-القطيعة معه والانغلاق في متاهات تقينا هذا التيار الكاسح. ولا من ينجو منه إلا من كانت له القدرة على استقبال المعلومات وإرسالها.
يبقى القول أخيراً إن المعلومات قد يصيبها العفن إن غاب الطلب عليها، وستبقى حبيسة مصادرها إن لم تجد من يمارسها ويوظفها لحل مشاكل قائمة أو لطرح مشاكل مستجدة. ويمكن أن يتحول الإفراط المعلوماتي إلى هادر هو الآخر لو عجزنا عن تنمية الطلب على موارد المعلومات والمعارف وتوظيفها بصورة فعالة. إن الإعلام … أو العالم في حالتي البث والتلقي.