على مدى عشر سنوات الماضية قيل الكثير عن سقوط نظام صدام ،أسبابه واهدافه ، ولم يكتفي البعض من الكتاب الى ذلك ، بل عمدوا لخلق فجوة بين اسباب السقوط واهدافه رغم انهما يلتقيان في نقطة واحدة ، فمنهم من وصفه باستجابة انسانية من لدن المجتمع الدولي لنداءات الشعب العراقي وحجم معاناته ، في حين لم نجد على ارض واقع ما يؤكد صحة ذلك ، بل وجدنا عكس ذلك تماما حين فضل الاغلبية من ابناء الشعب العراقي الصمت مقابل تفاديهم لخطر الهلاك والموت بسبب وحشية النظام واساليبه الدموية طيلة (35) عاما الذي جعل منها وسيلة للبقاء ، باستثناء المدن الكوردستانية التي لم تتردد في اعلان معارضتها عبر مظاهرات معادية للنهج العدواني لنظام صدام التي شهدتها مدن كركوك وسليمانية واربيل في ثمانينيات القرن الماضي ، وفي فترة اشتداد الحرب مع ايران ،والذي قام النظام بقمعها بأشد الوسائل وحشية ودفع الكورد بسببها اغلى الاثمان ..
كثيرة هي الاقلام المنهارة تحاول الى الآن ان تشوه الحقائق الدامغة التي تدين النظام بهدف لململة ممن يذرفون الدموع على نظامهم المنهار لانتزاع شرعية السقوط وأهميته ، وحقائق عن حجم مخاطر ديمومته ، والتي كانت كافية تماما امام المجتمع الدولي ان تعد عدتها باتجاه الاطاحة به ، وانقاذ المنطقة برمتها من اشرس حرب كان النظام يستعد لها من حيث التحضيرات الاستباقية التي كانت الاجهزة الاستخبارية العالمية على معرفة تامة بدقائق تفاصيلها ، وشددت من اجل ذلك اسلوبها الرقابية لمعرفة أدق التفاصيل ما يدور في اروقة النظام السياسية والعسكرية ، ولهذا نجد ان السبب الاطاحة بالنظام كان يكمن في خطورة نواياه العدوانية تجاه المنطقة عموما ، واسرائيل كدولة ذات خط احمر في اهتمامات الغرب خصوصا ، بل وتجاه مصالح الدول الكبرى واستراتيجياتها الخاصة بهذا الشأن ، في وقت وغرور صدام السياسي لم يقف عند حد حروبه مع دول جواره ، بل الى احراق نصف اسرائيل ، والتي كانت بمثابة اعلان حرب مفتوحة على الغرب والولايات المتحدة الامريكية ومصالحهما في المنطقة ..
اذن انه من الخطأ الاعتقاد أو التصور بان قدوم امريكا بجيشه الجرار صوب العراق لإنفاذه من نظام صدام هي كارثة فكرية ينبغي على المختصين في الشأن السياسي تفاديها بشكل مطلق لان الحقائق التي دفعت بأمريكا لخوض غمار حربه المؤجل تتناقض تماما مع ما يتداوله الاقلام العاطفية حول طبيعة وشراسة وسوء معاملة النظام مع ابناء شعبه ان كانوا كوردا او شيعة ، فالأهداف التي رسمتها هذه الدولة القوية هي اكبر من ان ننظر اليها كاستجابة انسانية لنداء المظلومين ، لان الغرب عموما والولايات المتحدة الامريكية خصوصا لا تنظر الى قضايا الشعوب بمعزل عن اهمية مصالحها ،ولو كانت رؤيتها عاطفية لقضايا الشعوب لامتلأت سماء صومال والسودان بطائراتها الحربية لأنفاذ الاطفال والنساء من محنتهم الانسانية التي من الصعوبة وصفها على الورق ، وهذا يعني ان امريكا لا تحشر نفسها في مغامرات غير محسوبة العواقب كالتي كان يفتعلها صدام املا بشهرة تاريخية نادرة لتصبح مادة دراسية في كتب الاطفال بعد(200) عام ،
من هذا المنظور نجد ان الولايات المتحدة الامريكية حين اكملت مهمتها في العراق على اكمل وجه لم تتردد في اعلان انسحابها تاركة هذا البلد أرض مستباحة وسماء مفتوحة امام دول جوارها ، بل حاضنة لشتى الجماعات والاصناف يعملون على تمزيق ما تبقى منه ..
لذلك فحين نحاول ان نقارن الاوضاع في العراق مع الاوضاع التي كانت سائدة في فترة حكم صدام ، نجد ان الفرق هو ان القتل والموت في عهد حكم صدام كان يجري تحت جنح الظلام ، وتخفى الجثث ايضا في الظلام ، اما اليوم فنحن نجد ان القتل ومناظره البشعة اصبحت مادة اعلامية ينظر اليها الاطفال والنساء والشيوخ بعين الخوف من نفس المصير ، فيما تتسابق القنوات الفضائية على عرضها كسبق صحفي واعلامي ،واصبحت بحكم حدوثها كل يوم تشكل حالة طبيعية ، وغدت اطفال العراق يميزون صوت السيارات المفخخة عن اصوات العبوات الناسفة واللاصقة بمنتهى الدقة والمعرفة ، وهذا يعني ان الظلم والطغيان مهما تعددت اشكالها لا تشكل سببا لتدفع بالكبار ان يكونوا طرفا في ازاحتها ، و اذا كان الشعار الامريكي في حينها هو تحرير العراق من ابشع دكتاتور ، فان المخفي في مضمون الشعار كان هو حماية المصالح بل الاستحواذ على ما سيخلفه النظام من بعده في ظل الفراغ الذي سيعقب سقوط النظام ، ومن ثم النقاط التي لم يتمكن احدا من الوصول اليها سابقا.. والتي كانت سببا من اهم الاسباب التي دفعت بالولايات المتحدة الامريكية ان تتقاسم مع بريطانيا غنائم الحرب والنفوذ حين خصت البصرة ان تكون حصة لهذه الدولة التي لم تتحالف لخوض الحرب الا وفق شروطها ، وتبقى العراق برمتها تحت سيطرة مخططاتها العسكرية والسياسية التي وضعت اسسها في دائرة القرار الامريكي على ضوء المنفعة الاقتصادية والسياسية ..
وازاء ما يحدث الان في العراق نجد ان الاهتمام الامريكي لا يتعدى حدود تقديم المشورة السياسية لمواجهة ما سيتمخض عن تداعيات انتهاء الفصل السوري والاستعداد لها وفق منظور حماية المصالح الامريكية والغربية ، فزيارة جون كيري وزير الخارجية لا يخرج من هذا الاطار مهما حاول البعض اعطاءها صورة غير هذه الصورة التي يتبلورها البعض في ذهنيتهم ، ويستخدمها كدافع قوي لوجودهم السياسي ، متناسين وهذه هي المصيبة ان امريكا لا يمكن ان يجامل أحدا من الحكام على حساب مصالحها الاستراتيجية ، والشواهد هي كثيرة بهذا الشان لا نريد ان نذكرهم بها لان (الحر كما يقولون يكفيه اشارة ).. وان سبب ما يعانيه العراق هو انصهار العقلية السياسية عند القائمين على ادارته في بوتقة البحث عن الارتماء في الاحضان املا بالخلود والبقاء في الواجهة معتمدين على مبدأ مقولة شعبية يرددها المقامرين (دلعب يمعود منو ابو باجر)..
ولهذا فأن المؤشرات كلها توحي ان اسباب السقوط بالنسبة لأمريكا والغرب قد هيئها النظام بنفسه ، ولعب شخص صدام دورا مميزا فيها حين مارس الطائفية والقبلية في حكمه الجائر ، والجهالة في معرفة مدى وحجم القوة العالمية التي لا ترغب على الاطلاق ان ترى دولة تجتاز حدودها المسموح بها وتشكل خطرا على مصالح الغرب الاقتصادية ، وكيف ببلد يطل على الخليج الذي يعتبر الشريان الاقتصادي للغرب عموما ، وان اهداف السقوط قد تحققت بفعل العقلية السياسية الناضجة التي صاغتها لتكون ثمارها المستقبلية بمستوى حرص الولايات المتحدة الامريكية على مشاريعها الاستراتيجية في المنطقة ، ولهذا نجدها وهي تغفو في بحر احلامها بأمن وامان ، واما نحن نتواصل مع صراعاتنا ولا نشعر بحياء وخجل حين نمحو من ذاكرتنا جبروت و وحشية ذلك النظام الذي تهاوى مع جيشه المليوني خلال ايام ، ولم يترك من وراءه سوى لعنة التاريخ…..