عند اشتداد النبرة الاحتجاجية في مصر ضد سياسة محمد حسني مبارك انقسمت اراء المحللين السياسيين بشأنها فمنهم من ذهب بعيدا ليتوقع بان حسني مبارك سيقاوم ويحسم الجولة لصالحه بالاستناد الى حجم علاقاته القوية مع الغرب ، وقربه من الادارة الامريكية ، ودوره في عملية السلام مع اسرائيل ، الا أن الاحداث هناك قلبت الموازين كلها حين استطاعت حركة الاخوان ان تحتل الشارع المصري ،ووجدته فرصة تاريخية للعودة ببريقها السياسي والديني التي كانت خافقة بسبب قدرة الانظمة العلمانية المصرية على احتواء نشاطات هذه الحركة التي لا يلتقي خطابها السياسي والديني مع مصلحة مصر وآفاقها المستقبلية ..
لقد عمدت حركة الاخوان بزج كل طاقاتها البشرية والدينية للتأثير على الشارع المصري بهدف كسب الجولة ، وعدم افساح المجال للأحزاب السياسية الاخرى التي نزلت بموازاتها ان تثبت وجودها في تلك المظاهرات ، حتى تحولت الانظار بان الاخوان هم الاسياد لوحدهم على الساحة المصرية ، وان مستقبل النظام سيكون نظاما إسلاميا بالاستناد الى حجم حضور الحركة وقوة نشاطها الميداني ، وحجم المساعدات المالية والمعنوية التي كانت الحركة تتلقاها من اكثر دولة عربية واسلامية ، وتحديدا تركياالتي كانتترى في نجاح الاخوان في مصر بداية النهاية لاحتواء الدور الايراني في المنطقة ، وثورة سنية سلفية الملامح تحد من الامتداد الشيعي في ارجاء المعمورة ، اضافة لدولة قطر التي لم تتوانى في تقديمها للمساعدات المالية الاخوان التي تجاوزت (8)مليارات دولار…
اذن .. تنحي حسني مبارك عن السلطة كان استسلام للواقع ، لأنه لم يكن قادرا على مواجهة الاحداث ،التي بدأت تتجه نحو المزيد من العنف ، في وقت والولايات المتحدة الامريكية التي كانت هي الاخر تراقب الاحداث بصورة مباشرة أدركت بان المؤشرات كلها تجري عكس الاتجاه ، وتؤثر سلبا على مصالحها في مصر وبسببها طرحت فكرتها على القيادة المصرية بضرورة تنحي مبارك لتفادي خطر انزلاق مصر نحو الهاوية ، وهذا يعني ان خضوع مبارك لتلك الفكرة قد قطع الطريق امام حركة الاخوان لاتساع رقعة فوران الشارع المصري نحو المزيد من العنف والتدمير للبنى التحتية والاقتصادية في البلاد ، وازاء ذلك لم يتردد امريكا ان تترك حليفه القوي مبارك عاريا امام موجة الزحف الاخواني في مصر حفاظا على مصالحها في المنطقة ، وعلى امن اسرائيل التي فقدت عاملا مهما من عوامل السلام ، وبدأت مخاوفها من ان ينقلب الموازين عليها ، وتموت اتفاقية السلام الاسرائيلية المصرية التي وقعها الرئيس المصري الراحل محمد أنور السادات ، والتزم خلفه مبارك ببنودها كاملة ، مما زادت من استقرار اسرائيل على حدودها مع مصر، ولكن سرعان ما تبددت تلك المخاوف بسبب انشغالقيادة الاخوان بأوضاع مصر الداخلية والاقتصادية والسياسية التي تدهورت تماما بعد اشهر قليلة من استلامها لدفة الحكم من جهة ، وتوقعات الموساد الاسرائيلي بعدم قدرة الاخوان على مجاراة الشارع المصري وقوته ارادته الوطنية نحو التغيير من جهة اخرى…..
واليوم فان في فشل الاخوان الاحتفاظ بما اكتسبوه على الساحة المصرية هو دليل فشل لمبدا دمج السياسة بالدين التي ارادت بها الحركة ان تكون قاعدة تنطلق منها الافكار صوب البلاد الاسلامية لتكون زعيمة للبلدان العربية والاسلامية ، ورسالة واضحة للنظم السياسية التي تجعل من الدين اداة ووسيلة لديمومة بقائها في سدة الحكم ، التي تتناقض مع الطبيعة المصرية ، وترى في مصلحتها ان يكون نظامها السياسي واشخاصه على قدر كاف من المفهومية لطبيعة ادارة البلاد على اسس عصرية تتناسب مع حجم التطورات العلمية والتكنلوجية التي تدر بعوامل الرفاه والتقدم والازدهار….
ومن هنا نعتقد ان الجموع المليونية التي خرجت ضد حكم الاخوان المسلمين وضد شخص محمد مرسي ارادت ان تعيد وجه مصر الى مكانتها الحقيقية خصوصا وانها بدأت تتشوه يوما بعد يوم في ظل الاجراءات الردعية لعلوم الفن والادب والثقافة والتمدن التي من شانها ان تكون سببا في انهيارها الحضاري والمدني ، وتعيدها الى زمن التخلف الفكري والحضاري الذي يسيطر القوي فيه على مقدرات الضعيف بلا حول ولا قوة ، في ظل تفاقم اعداد العاطلين عن العمل الذي بات من اهم المشاكل المستعصية التي تشكو منها مصر حتى في فترة نظام حسني مبارك ……
لذلك فان عملية اسقاط الشرعية من محمد مرسي وعزله عن السلطة من قبل القيادة العامة للقوات المصرية كانت تتويجا لرغبة الجماهير المحتشدة في ميدان التحرير ، وهي نفس الجماهير التي اطاح بحكم حسني مبارك ، وهتفت برحيله املا بنظام ديمقراطي يراعي مصلحتها الوطنية على اسس العدالة والمساواة ، وينقذ البلاد من الازمات الاقتصادية والديون المستحقة التي وضعت البلد على حافة الانهيار المؤكد ، لذا فان الاعتقاد السائد لدى المحللين وخبراء السياسة ان ثورة مصر البيضاء جاءت لتحذر اصحاب النزعة الدينية في المنطقة عموما ، ان السلطة اذا طغت عليها الصبغة الدينية ، والاعتماد عليها سيكون سببا في ازاحتها ، باعتبار ان الدين ليس بمطلب الاغلبية من ابناء الشعب في كل زمان ومكان ، واذا كان البعض من اصحاب تلك النزعات يفسرون الاعداد الرقمية من الموالين لسياستهم فهم المخطئون ، وانه من الغير الممكن اعتبارهم اداة تجنبهم من خطر السقوط ، أو لقمع الاصوات المناهضة لسياساتهم الدينية التي يكسبون بها فئة معينةعلى حساب الفئات الاخرى ….
لقد كشفت عملية عزل مرسي عن السلطة ان الفوز بالأغلبية الساحقة في الانتخابات لا تشكل عقبة امام الجماهير بالمطالبةبإلغائها اذا ما تأكدت لديها بان رئيسها المنتخب غير مؤهل وغير قادر على ادارة البلاد ، ولا يستطيع توظيف امكاناته الفكرية و السياسية لمعالجة الازمات التي تعصف بالبلد ، لذلك فان ما حصل في مصر هو جزء من حقوق المواطنة التي لابد للسلطات ان تنظر اليها بمزيد من المسؤولية الاخلاقية التي تلزم الرئيس للخضوع الى صوت الشعب ، وان جاء به اختيارا عن طريق صناديق الاقتراع ، وان مرسي أخطأ الحساب حين المح في بداية الازمة انه غير مستعد للتنحي لأنه يمتلك الشرعية ، متخيلا وهذه هي كانت مصيبته الكبيرة ان الذين ساعدوه للوصول الى سدة الحكم سيقفون مجددا الى جانبه ، متجاهلا ان للسياسة عالم مختلف عن عالم الدين والتدين ، وهما عالمان مختلفان لا يمكن ان يلتقيان معا ، وكل عالم يسعى لتدمير العالم الآخر وان التقيا كذبا ونفاقا ومجاملة لفترات محدودة التي يتوافقان فيها ثم يختلفان لينقض الاول على الثاني والعكس صحيح …
اذن هذه هي كانت صورة مصر خلال عام كامل من فوز الاخوان بمقاعد مجلسي الشعب والشورى ، وهي كانت البداية النهاية للحكم الاسلامي في مصر ، والذي اراد ان ينتزع من ارادة شعبها الذي يشهد له التأريخ بانه من الشعوب القادرة دوما على خلق المفاجآت اذا تهيأت له نظام سياسي متزن يفهمها وتفهمه على اسس الحضارة والتمدن ….
يقول ابن سيناء …. ابتلينا بقوم يظنوا ان الله لم يهدي الا سواهم ..
[email protected]