18 ديسمبر، 2024 7:08 م

سقطت بغداد..لم تسقط

سقطت بغداد..لم تسقط

أصعب جملة كُنا نلوكها في ألسنتنا، تأبى الخروج من الأفواه أو حتى نُصدّقها صبيحة ذلك اليوم التقارير الإخبارية للإعلام الغربي الذي كان يهتف عِبر منصاته أن بغداد سقطت.

“سقطت العاصمة” هكذا كانت تصرخ الوفود الإعلامية الأجنبية التي كانت تغطي أخبار الحرب وتنقلها إلى العالم من على سطوح وزارة الإعلام التي أُلغيت فيما بعد بأمر من الحاكم المدني بول بريمر.

ومع إختلاف الآراء عن طبيعة النظام السياسي الحاكم في ذلك الوقت بين مؤيد ورافض له إلا أن الأغلب إتفق على الإجهاش بالبكاء عندما كانت التقارير الإعلامية ومشاهد الدبابات تسير في شوارع بغداد مُعلنة أن كل شيء إنتهى.

ذروة اليأس وصلت عندما إختفت الأناشيد الحماسية وأخبار مايحدث في مشاهد الحرب من موجات المذياع، فقد كانت عبارة عن عربة تحمل إذاعة متنقلة تتجول في شوارع بغداد خوفاً من إصطيادها بواسطة الطائرات الأمريكية.

يوماً ثقيلاً ذلك التاريخ بكل ما يعنيه من إنهيار دولة بمؤسساتها وعناوينها وأبنيتها، عندما تحول إلى زمن فاصل بين عالمين كلٌ مختلف عن الآخر، التاسع من نيسان كان الإعلان عن ذبح العراق بغير سكين بلداً وشعباً وتاريخاً.

على جانبي طريق المطار المؤدي إلى العاصمة، كانت سُرف الدبابات الأمريكية تمر في الشارع الذي تتناثر على جانبيه جثث جنود عراقيين مجهولي الهوية قضوا نحبهم وتم دفنهم فيما بعد بشواهد رمزية توحي بالغُربة، لكنها بعد سنة أو أكثر إختفت تلك الشواهد وأصبحت تلك المقابر ساحات وأرصفة وكأن شيئاً لم يحدث.

عشرون عاماً منذ أن ذاب الإسفلت في يوم صيفي، تحت سُرف دبابات الأحتلال وسقطت شوارع وأرصفة وإحترقت بنايات وسُرقت مصارف وكنوز وآثار.

“سقطت بغداد..لم تسقط” هكذا رددتها الألسن من صدمة المشهد، فقد بكى الجميع من منظر العلم الأمريكي مُرفرفاً فوق الدبابة الأمريكية وهي تنتقل بين شوارع بغداد.

كنا نقرأ في كتب التاريخ كيف أن هولاكو دخل بغداد وإستباحها إلى درجة أنه قام برمي جميع المؤلفات والكتب في نهر دجلة الذي أصبح أزرقاً من الحبر الذي كُتبت به، لكن واقع بغداد في التاسع من نيسان كان يُخبرنا بالصوت والصورة كيف أن حفيد هولاكو أعاد صولة جده في تدمير بلاد الرافدين.

تاريخ ملعون كتبه جورج بوش الإبن للعراقيين في إكذوبة غيّرت مجرى ذلك التاريخ وخدعة دفع الشعب أثمانها دماراً وخراباً وقتلاً وتهجيراً، إحتلال أم تحرير؟ لا أحد من العراقيين يستطيع الإجابة على السؤال فقد ضاعت الصورة.

“إفتحوا الأبواب والشبابيك للديمقراطية” كان بوش يخاطب الشعب العراقي وتقف بجانبه كونداليزا رايس وزيرة الخارجية وكولن باول وزير الدفاع صاحب كذبة القرن عن إمتلاك العراق أسلحة الدمار الشامل كما يصفه الإعلام، كانوا يتغنون بالخلاص من الديكتاتورية التي خرجت من الباب لتدخل من الشباك تُمارسها أحزاب وكتل سياسية إستنسخت تجارب من سبقهم.

عشرون عاماً من إحتلال بغداد…هل تغير من الواقع شئ؟ ربما لو كانت الأرصفة والشوارع والأبنية تتكلم لمُلئت مجلدات ودواوين وحكايات عن بشر قضوا نحبهم، وآخرين تناثرت جثثهم وتوزع البعض بين مُهجّر ومُهاجر، ماذا سيقول التاريخ أو يسرد للأجيال غير لون الدم ورائحة الموت ومشاهد الخراب؟.

مازالت مقولة “بغداد سقطت” تُبكينا حين نرددها لذلك إخترعنا في الذاكرة بديلاً يقنع أسفنا، ويبرر الحجج للدموع المنهارة على العراق حين أصبحنا نردد عبارة “لا تقولوا أن بغداد سقطت ولكن النظام هو الذي سقط”.