وا عجبي ! كيف انطلت حيلة كتبة التوراة على أبناء أمتنا فصدقوها دون التحقق من صحتها وحقيقتها. فالذي يقرأ هذا السفر بأصحاحاته الأربعة وبتمعن، مستخدماً عقله وليس قلبه، لا يخاله سوى حتوتة كانت العجائز ترويها في الليالي للتسلية. ففي الأصحاح الأول: حيث يطلب رب إسرائيل من يونان بن أمتاي أن يذهب إلى نينوى وينادي عليها، لأن شرَّهم قد صعد أمامه. لكن يونان لم يشأ تلبية رغبة ربه، فحاول الهرب من وجهه إلى ترشيش(في آسيا الصغرى)على سفينة منطلقة من يافا. لكن ربه أرسل ريحاً شديدة فحدث نوء هائل في البحر كادت أن تحطم السفينة، مما أرعب الملاحون والركاب. وبالرغم من كل الإجراءات المتخذة، والصلوات المرفوعة للآلهة فإن البحر كان يزداد عنفواناً، يونان لم يكن مكترثاً بما يحصل وكان نائماً نوماً عميقاً مما عاتبه رئيس النوتية. تمَّ الاتفاق على إلقاء قرعة لبيان الذي بسببه تحصل هذه المصيبة، فوقعت على يونان، فاستفسروا عنه فقال أنا هارب من وحه ربي، فألقوا بي في البحر فيهدأ. لم يشأ الملاحون تحمل خطيئة دمه بطرحه، وبذلوا كل ما بوسعهم لدفع السفينة إلى البر لكن بدون جدوى لأن البحر كان يزداد إضطراباً، مما أجبرهم أخيراً طلب عفو السماء لطرحه في البحر. لكن ربه كان قد أعدَّ حوتاً عظيماً ليبتلع يونان.
الأصحاح الثاني: في هذا الأصحاح يرفع يونان وهو في بطن الحوت صلواته ومدائحه لربه لثلاثة أيام وثلاث ليال التي مكثها في جوف الحوت حيث أخيراً أمر ربه الحوت ليلفظ يونان إلى البر.
الأصحاح الثالث: بعد قذف يونان إلى البر يكرر الرب طلبه ليونان ويأمره للذهاب إلى نينوى، وينادي فيها المناداة التي أمره بها بالأول. فقام يونان وذهب إلى نينوى العظيمة التي تمتد لمسيرة ثلاثة أيام، فدخل مسيرة يوم واحد ونادى وقال: بعد أربعين يوماً تنقلب نينوى. ويبلغ الخبر للملك والأعيان، فنزل الملك من كرسيه ولبس الجميع المسوخ وجلسوا على الرماد ونادوا بالصوم بألا يذق الناس ولا البهائم لا طعاماً ولا مرعى ولا شراب، فآمن أهل نينوى برب يونان وصرخوا إليه بشدة كي يرجع عن حمو غضبه ويرحمهم ولا يهلكهم. وعندما رأى الرب توبتهم تراجع ولم يقلب المدينة .
الأصحاح الرابع: يغتاظ يونان من ربه لأنه أخجله ولم يقلب المدينة، وطلب منه الموت على الحياة ، وخرج من نينوى وجلس شرقي المدينة، وصنع لنفسه مظلة وجلس تحتها، حتى يرى ماذا يحدث في المدينة. لكن ربه أنْبَتَ يقطينة ارتفعت فوق يونان لتظلل رأسه، وليفرح بها ويخلص من غمه. لكن في اليوم الثاني؛ رغبة ربه أمرت بذبول نبتة اليقطينة فحزن عليها يونان كثيراً ولما ضربت الشمس رأسه طلب ثانية لنفسه الموت، فيخاطبه الله سائلاً عن سبب حزنه على اليقطينة، التي لم يتعب بها، فكيف بالأحرى ألا يتراجع الرب عن إهلاك أهل نينوى البالغين إثنتي عشرة ربوة من الناس لا يعرفون يمينهم من شمالهم، وبهائم كثيرة، الذين هو قجخلقهم..
تعليقات على هذا السفر الروائية والتاريخية:
أ- على فحوى نصوص السفر:
1- بغض النظر عن حقيقة السفر فإننا نلاحظ في الأصحاح الأول حبكة ودبلجة ملفقة بحيث تأخذ الحتوتة منحاها الشيِّق والمُلفت والجذاب ومتفق مع سيرة البحر والحوت والإعجاز البشري. لكن لا يقبل المنطق أن يهرب الإنسان من وجه ربه الذي يكلمه مباشرة إلا من خلال خيال قصصي. كما لا يقبل العقل أن يظل إنسان حياً لعدة أيام في جوف حوت إلا في الخرافة والأسطورة.
2- في الأصحاح الثاني الذي ظلَّ يونان في بطن الحوت لأيام وليال بدون طعام يصلي ويمدح ويعتذر ويستغفر ربه فيأمر الرب الحوت كي يقذف يونان إلى البر لكن أي بر؟ لم يحدد. وهل مرَّ الحوت العظيم في البحر المتوسط، والمحيط الأطلسي والمحيط الهندي (لأن قناة السويس لم تكن حينها) حتى شط العرب ونهر الدجلة دون أن يلمححه أحد لا صيادي الأسماك ولا المارة بطرفي النهر وكل هذا خلال ثلاثة أيام؟ والمثير للسخرية هو أن كهنتنا إمعاناً في مسح الأدمغة وتمتين للتصديق والإيمان بالرواية، وعظوا بما هو غير مذكور، بأن يونان وهو في بطن الحوت كان يدير وجهه إلى أربعة جهات من جوف الحوت لأنه لم يستطع تحديد وجهة صلاته حسب الطقس اليهودي.
3- في الأصحاح الثالث وهو في شوارع نينوى المترامية الأطراف وفي اليوم الأول ينادي يونان الأهالي وينذرهم ويحيطهم علماً بأنَّ نينوى سيقلبها إلهه بعد أربعين يوماً، دون أن يقدم أي حيثيات وأسباب لهذا الحدث المرعب. فيصدق أهل نينوى ويؤمنون بإلهه ويأمرون بالصوم دون طعام وشراب لا للناس ولا للبهائم، والدعاء كي يغفر لهم رب يونان آثامهم، ولا يهلكهم. لكن السفر لم يحدد المدة التي صامها النينويون، وبالرغم من ذلك فإن رعاة كنائسنا الأُوَلْ الذين قرروا فرض هذا الصوم بإسم صوم نينوى(باعوثا دنينوايه ) إي رجاء النينويين، قد حددوه بثلاثة أيام مستمرة. ربما ثلاثة أيام بقاء يونان في جوف الحوت. أو ثلاثة أيام موت المسيح وقيامته كما يذكر بنفسه في إنجيله(متى 12 آية 40 ).
4- في الأصحاح الرابع يبدو الشعور اليهودي العدواني وحقدهم الأسود على الآشوريين واضحاً جلياً وبعنف. إذ يغضب يونان من ربه لأنه لم يقلب نينوى على رأس أهلها كما روَّجَ ونادى في شوارعها، هنا يحبك ويدبلج الكاتب سجالاً فلسفياً بين الرب وبين يونان على نبتة اليقطينة وذبولها التي لم يكن لها لزوم لتظلل يونان لأنَّ يونان كان قد صنع لنفسه مظلة كما يذكر الأصحاح، إنما الغرض الفلسفي من اليقطينة، كي يظهر الكاتب إنسانية إله اليهود ورحمته على كل البشر من خلقه حتى لو كانوا من أعداء شعبه المختار. لكن الضربة القذرة التي تذكر في نهاية الأصحاح وتوجه للطخ سمعة الآشوريين حين يصفهم بأنهم جهلاء لا يعرفون يمينهم من شمالهم، يعيشون بين البهائم. يا للفشر! بالرغم من أنهم هم الذين علموا البشر الحضارة والمعرفة. حتى أنّ رئيس الولايات الأمريكية الراحل رونالد ريغن قال( لو لم يكن في التاريخ آشوريون لما رأيتم أمريكا هكذا) .
ب- على حقيقة السفر التاريخية:
1- تاريخ زمن يونان هو 862 ق.م. وحينها لم تكن نينوى عاصمة الدولة الآشورية ربما كانت آشور كالخ. فكل المؤرخين يفيدون بأنَّ نينوى اختيرت عاصمة من قبل الملك سنحاريب حوالي 700 ق.م. بدلاً من شاروكين عاصمة والده سرجون الثاني.
2- يؤكد المؤرخ اللبناني الشهير المرحوم كمال صليبي في مؤلفه( خفايا التوراة وأسرار شعب إسرائيل) بأنه اطلع على النسخة الأصلية لسفر يونان وإنَّ إسم المدينة كان (نيزوى في الخليج العربي)، ولكن كتبة التوراة حوروه إلى (نينوى) بدافع الحقد والضغينة على الآشوريين كي يشوَِهوا حضارتهم ويسيؤوا لسمعتهم، كما يعلق بأنَّ نينوى المدينة العظيمة ذات ثمانية مليون إنسان لم تكن فيها حظائر للبهائم.
3- الآشوريون في كل تاريخهم لم يعرفوا هذه الحادثة وهذه الخرافة، وهذا الصوم ولم يصوموه أبداً. إلاّ بعد حوالي 600 سنة من اعتناقهم المسيحية فقد فرضه على الكنيسة النسطورية البطريرك حزقيال 682 م. كما فرضه على الكنيسة اليعقوبية المفريان ماروتا التكريتي 628 م.
4- يا للعماء والجنون! كيف أننا بأنفسنا نهين أجدادنا لأكثر من 1400 سنة أمام كل شعوب الأرض ونعترف بأنَّهم كانوا كفار أشرار مجرمين ظالمين فاسقين ونلصق بهم كل هذه الآثام الدنيئة ظلماً وبدون وجه حق، وهم أبرياء ومعلمي الحضارة والشرائع والعدالة التي يشيد بها كل مؤرخي العالم. خرْجَكُم يا آشوريون! حيث يصف السفر الذي تؤمنون به بأن أجدادكم كانوا جهلاء لا يعرفون يمينهم من شمالهم، ويعيشون مع البهائم.
5- إذا كان إله اليهود قبل 3000 عام يقلب المدن بسبب فجور وفسق وظلم أهلها فلماذا لا يقلب اليوم لندن، وباريس، وواشنطن، وموسكو، وروما، وبرلين، وتل أفيف، وغيرها التي آثامها وظلمها فاق شرور سادوم وعمورة ؟ فمتى كان الآشوريون يقبلون أن يتباعل ذكر على ذكر، وأنثى على أنثى، إضافة للاعتداء على الأطفال البريئة وخاصة من قبل رجال الدين؟
6- لقد كررنا مراراً بأن ما ورد في هذا السفر هو مُزيَّف وغير حقيقي ووليد الحقد والحسد والتحامل. لكن لا يبدو أنَّ أبناء أمتنا يكترثون بما فيهم الكهنة. نحن لسنا ضد الصيام، إذا تريدون الصيام صوموا كما تشاؤون ولكن ليس بإسم نينوى، وحسب سفر يونان المزور. إذا لا تصدقوننا يا رعاة كنائس أمتنا الرجاء أن تطلبوا من فطاحلة علماء التاريخ غير الخاضعين لسيطرة الصهيونية، كي يبحثوا عن الحقيقة وسيجدونها حتماً، وفي حال كون ما ورد في هذا السفر بأنَ يونان جاء إلى نينوى هو حقيقة، فإننا مستعدون لتحمل العقاب اللازم لافترائنا، ولكن إذا اتضحت صحة التزوير وبأنّ يونان لم يأتِ إلى نينوى أبداً، فيجب على رعاة كنائس أمتنا الذين يلتزمون بهذا الصيام وقفه فوراً وإلغاءه وإلغاء طقوسه من (الخُضْرا) وحذف هذا السفر، وعدم الاعتراف به.
7- إن الحجة التي يتمسك بها كهنة أمتنا للاستمرار بهذا الصيام هو بناءً على ما ردده يسوع المسيح في إنجيله (متى الأصحاح 12 الآية 41) إذ قال: [رجال نينوى سيقيمون في الدين مع هذا الجيل لأنهم تابوا بمناداة يونان، وهوذا أعظم من يونان ههنا] يا ليته لم يقل هذا الكلام وهو إبن الله أو حتى عند بعضهم الله نفسه، لأن أسطورة يونان هي غير صحيحة بالنسبة لنينوى. لكن ربما كانت غايته تبيان عظمته، أو أن كتبة الإنجيل حرروها عن المسيح لنفس الغرض. لكن الاحتمال الأخير هو المرجح لأنَّ معلم التواضع لا يمكن أن يُشيد بعظمته.
8- هناك أمر آخر وليد التزوير هو أنَّ أحد قساوسة الكنيسة حوالي نينوى، خطر على باله إنشاء ضريح ومزار على أنه ليونان النبي الذي توفي في المنطقة، لا نعرف متى كان ذلك، لكن حتماً قبل ظهور الإسلام، بغرض الكسب المالي واستغلال السذج والبسطاء وأصحاب العاهات، ويبدو أنه كان يدر أموالاً كثيرة مما دفع بأئمة المسلمين الإستلاء عليه لمصلحتهم. والناس لازالوا يؤمنون، ويصدقون، ويزورون ويدفعون، واليهود يطالبون به، وهو قبر فارغ لا يحتوي جثمان النبي يونان إطلاقاً. لأنَّ يونان لم يرَ بلاد آشور.
ملاحظة: أود أن ألفت انتباه القراء بأنَّ القائمين حالياً على طبع وترويج كتاب التوراة يَجْرون تعديلات على بعض النصوص المُشْهِرة بسمعة بعض شخوصاته لتجميل صورة سيرتهم البشعة، ويقولون هذا كلام الله المقدس. فإذا تدققون فيها ستجدون إن ما يرد في هذه النسخ الجديدة يختلف تماماً مع ما هو موجود في النسخ القديمة.