أحيانا كثيرة أواجه مواقف في بلدي وتصرفات غريبة تذكرني بأمثلة سمعتها من قبل أو مسألة شرحها لي الآخرين. ففي صباح يوم ايلولي مشمس وأنا أسير في طريق بغداد وسط مدينة كركوك، حيث لاحظت مرشات ماء وقد فتحت لترش الزرع الموجود في الجزرات الوسطية في هذا الشارع. شاب صغير يبيع الماء في هذه الجزرة الوسطية، يبدو إنه قد انزعج كثيراً من الماء الذي يرش موقع جلوسه. قام من مكانه وأدار إتجاه هذه المرشات كلها نحو الشارع لينعم هو بالجلوس في مكان جاف يبع الماء ودون أن تتبلل ثيابه.
هذا الشاب لا يهمه قط الزرع والمنظر وهيئة هذه الجزرات. ولا يهمه أصلاً الذوق العام وراحة الآخرين وجمال المدينة بقدر ما يهمه الجلوس في مكان مريح وممارسة تجارته التي من أجلها اشغل هذا المكان العام دون حق. سارعت لتنبيهه بإرجاع المرشات إلى إتجاهها نحو الزرع والثيل في الجزرة الوسطية بعد أن فاضت المياه هباءً في الشارع دون نفع وجدوى. قوبلت بهجوم من الباعة الشباب المتواجدين في المكان وهم يخبروني أن الأمر لا يعنيني وإنهم يعملون في هذا المكان العام عاملين على مبدأ أنا ومن بعدي الطوفان.
الحادثة أخطرت على بالي قصة صديقي الذي هاجر إلى السويد. حدثني صديقي هذا عن المعاناة في الحصول على الإقامة وفرص العمل وصعوبة تأقلمه مع الحياة الأوربية الجديدة عليه. أخبرني صديقي بأن الحصول على الجنسية السويدية لم تكن سهلة للوهلة الأولى فإنها تتطلب منه بعض الأمور، منها أن يكون متزوجاً من سويدية. والزواج في تلك المجتمعات ليس بالأمر الهيّن لاختلاف العادات والتقاليد وتضاربها مع ما عندنا من التزامات في الشرق. الأمر الذي دفع صديقي هذا للبحث عن إمرأة يعقد عليها صورياً دون الزواج منها ودون تكوين أسرة وبيت وما إلى ذلك ليحصل على الجنسيّة ومن ثم ينطلق إلى الحياة. أقدم صديقي هذا على التعرف على فتاة من الساقطات ومن اللواتي يعملن في الحانات والمراقص الليلية تصوراً منه بأنه سيتمكن من إقناعها بالفكرة وإنها ستوافقه على الخطة وسيحظى هو بالجنسية السويدية عاجلاً. جهد في التقرب منها وتمكن من كسب صداقتها وودها والخروج معها كل يوم وهو يهدر المال الكثير، فهي في نهاية المطاف لا أهل لها ولا التزامات مجتمعية تمنعها من ذلك وهي تسعى من أجل المال ليس إلاّ. فترة طويلة وصديقي هذا يخطط في استمالة قلبها قبل أن يعرض عليها فكرة إبرام عقد زواج ليكون أمام القانون متزوجاً من سويدية ويحصل على الجنسية السويدية ومن ثم يذهب كل واحد منهم إلى حال سبيله وهو غارق في تقديم الإغراءات المالية لها.
مضت الأشهر وقد أنفق الكثير عليها وهو يتحمل كل ذلك في سبيل الوصول إلى مبتغاه. بعدها لم يتمكن الصمود والمصاريف اثقلت كاهله وذهب يفاتحها بالموضوع.
لابد إنها ستوافق على الطلب كي لا تخسر هذا الشاب الذي تحول إلى بقرة حلوبة بالنسبة لها. فهو ينفق الكثير وكل ليلة يخرج معها ويلبي كل طلباتها ويؤمن لها احتياجاتها. فليس من الممكن بعد كل هذه الامتيازات أن ترفض هذه الفتاة العرض البسيط هذا وليس من العقل أن تضحي بكل ما يجود به صديقي هذا وكما يقول المثل المصري “غالي والطلب رخيص”.
لكن حدث ما هو غير متوقع إطلاقاً.. جاء الرد من هذه العاهرة منافياً لكل ما فكر به صديقي. فبعد أن طلب منها الزواج الصوري لغرض إظلال القانون قالت هذه العاهرة “أنا لا أخون بلدي ولن اعمل بالضد من مجتمعي، ولن أبرم معك هذا الاتفاق حتى لو أعطيتني كنوز الدنيا. فكل شيء بطرف ومسألة وطني وبلدي بطرف”. صعق صديقي هذا حتى اتصل بي يشرح لي مفهوم حب الوطن والأرض لدى هذه العاهرة.
هكذا أثبتت هذه الفتاة التي نسميها بالعاهرة حبها لوطنها واحترامها لقوانين بلدها. هكذا ضحت بكل ما عرضه عليها صديقي هذا من مغريات الحياة مقابل أن تخون بلدها وتلتف على قوانين مجتمعها وشعبها. رفضت حياة الترف هذا والمال دون أن تضع نفسها في محل خائن يدس السم في حلق ابناء جلدتها.
حب الوطن واحترام المجتمع أمر فطري ليس له علاقة بالثقافة والشهادات العلمية والمراتب والوظائف والمناصب. وشتان بين ما شاهدته أنا من الشباب الذين غيروا إتجاه مرشات الماء في الحدائق العامة وبين تصرف هذه العاهرة التي لقنت صديقي درساً قاسياً في معنى الوطن.
هكذا فإن السفالة تكون أحيانا متأصلة في نفس البشر أجلكم الله. والأمثال تضرب ولا تقاس.