23 ديسمبر، 2024 2:42 م

قصة قصيرة
غربة ؟؟؟
غربتان ..
أهونهما كانت بين الغرباء..
أما الأخرى ، فلايشبهها حتى الجحيم..
أن تكون غريباً بين الذين تاقت الروح سنين طويلة لرؤيتهم ، والارتماء في أحضانهم ، والبكاء على صدر أمي وشيلتها * المضمخة بالمسك ، وعطرأخر لاتمتلكه سوى الأمهات !!
قالها سعيد وهو يقف على الجانب الاخر من الشارع الرئيسي المطل على الزقاق الصغير، الذي إحتضن دارهم القابع بين البيوت القديمة والمتداعية في ذلك الحي الفقير..
ينتظر  كل مساء دخول أخر بنت كلب ( هكذا صار يسميهن ) الى دارها ، ليتفادى النظرات الغريبة ، الممتزجة بالفضول والاشفاق ،  النظرات التي  تخترق جسده ، همسات العجائز، كركرات الصبايا ،علامات الدهشة التي ترتسم على وجوه الأطفال !!  تعَّثر أكثر من مرّةٍ ، وكاد يسقط على وجهه بسبب تلك النظرات والأسئلة التي لم تنقطع منذ عودته من الأسر..
ذلك الأسر اللعين الذي بعثر عشرسنين من شبابه ، في حربٍ لايعرف لماذا بدأت ، ولاكيف إنتهت !! كلُ
مايعرفه أنه مضى اليها بشعرٍ أسودٍ ، وشارب زغبي خفيف ، وعاد منها برأسٍ أكلت الصلعة نصفه ، والشيب نصفه الأخر..
كيف كانوا يعاملونكم ياسعيد ؟؟ مَن كان معك ياسعيد ؟؟ ، أصحيح أنك سمعت  هناك بوفاة أمك وأبيك؟؟ ، هل علمت أن أخاك محمد تزوج بعد أسرك بعام ؟؟ وأن أخوك رعد رُزقّ بتوأم صبيان سَّمى أحدهم على إسمك ياسعيد؟؟
فهيمة طلقها زوجها ، صبيحة طهَّرت أولادها ، جاسم مات حماره ، عبدعون إحترقَ دكانه ، كل هذا حدث بعد أسرك ياسعيد، أعلمت بكل ذلك هناك؟؟؟
هذه الأسئلة وغيرها  ، أجاب عليها الف مرة في الاشهر الستة الأخيرة ، صار يكره السؤال والسائل ، يَردُّ بعصبية ، يتبسم بمرارة ،  وأحياناً يصمت ،  فلايحرر جواباً ، تاركاً الدهشة على وجه السائل ..
لكن سؤالا واحداً كان يغيضه ويستفزه ويجعله يصرخ بأعلى صوته ، سؤال يلقيه الخبثاء ليتسلوا بهيجانه .. سمعه أول مرة ٍ من جارتهم الصبية حينما وشوشت  لزوجة أخيه :
أصحيح  أن سعيد شرب الزرنيخ هو وأخرون عندما عادوا من الأسر؟؟؟!
لاأعلم ، أنا لم أره إلا بعد عودته ، سمعتهم يتحدثون طيبته ورجولته ، لكني أراه اليوم رجل فاتر المزاج ، قليل الكلام ،  غريب الأطوار !!
دنت جارتها منها ، ثم قالت :
سمعت أن هذا الشراب يُسقط الشعر ، ويلحس العقل !!!
يلحس العقل ياإبنة ال……؟؟؟ !! لو ذقتِ ساعة واحدة من العذاب الذي لاقيناه ، للُحس عقلك ومؤخرتك أيضاً ..
عَشرُ سنواتٍ ،حسبتُ ساعاتها ودقائقها ، عشرون عيداً لم أُقبّلُّ فيها وجه أمي ، ويدُ أبي ، لاأعرف كيف ماتا؟؟
وكيف نخر الحزن قلبيهما الدافئين ، أيُّ لوعة باكية غصّت بها أُمي ؟؟ ، وأيُّ دمعة عزيزةٍ ذرفها أبي في الخفاء ؟؟
لم يَرَ أحد دمعته ، أنا رأيتها هناك في البعيد..
ليال طوال بلاصبح ، نشطب على الجدران بلاإنتهاء ، تمتليء أرواحنا حزناً وضيقاً ، نسينا ملامح أحبابنا ، كم تمنيت أن أتذكر ملامح أبي ؟؟ تضيع ملامح من نحب ، كم توسلت ُبطيفه أن يطيل ، ولاأفيق من حلم هو فيه .
لماذا عُدتُ ؟؟
ليتني مُتُ هناك ، قبل أن أموت هنا كل لحظة !!
أحلامي بُعثرت ، ذاكرتي صدأت وشابت ، لم يعد للأشياءِ دفئها وعبقها القديم ..
كان بيتنا يضوع عطراً ودفئا ، في تلك الزاوية الظليلة جلست أمي ، تترنم بأغاني الفرح وهي تطرز الشراشف الملونة وتقول:
هذه لعرسك ياسعيد ، سأزف لك أجمل صبية ، يافرحة عمري أنت ..
أين أنتِ ياأمي ؟؟ تعالي وأنظري ماحلَّ بي !!
أماه..ليتك لم تغيبي خلف سور من حجار**
لاباب فيه لكي أدق،ولانوافذ في الجدار
كيف انطلقت على طريق لايعود السائرون
من ظلمةٍ صفراء فيه كأنها غسق البحار

أصبح هذا البيت الدافئ ، موحشاً بغرفه الثلاث ، والتي إحتلها إخوتي وزوجاتهم وأولادهم ، لأولادهم الذين لاأعرف أكثر أسمائهم !!
كل ماأملك في هذا البيت  أربعة مسامير صدئة علّقتُ عليها أسمالي ، وحقيبة جلدية متهرئة تضم أوراقاً ورسائلَ وصور لأحبةٍ غابوا ، كانت رفيقة أسري ، وكانت وسادتي التي حفرت دموعي غدراناً على صفحتها ..
 في تلك الغرفة الصغيرة يشاركني ثلاثة من أولاد أخوتي الإقامة والنوم  ،  أحلامي بُعثرت ، ضاع كل شيء ، اشعر بغربة مخيفة وسط هؤلاء.. حتى الشاي الذي أشربه في الصباح ، أشربه على إستحياء عندما يذهب أخوتي الى اعمالهم..
تدور هذه الافكار برأسه نهاراً ، وتقظُّ مضجعه ليلا.. لايعرف أين يقضي يومه الطويل !! بحث عن عمل في كل مكان ، لكن دون جدوى ، من سيرضى برجلٍ تجاوز الخامسة والثلاثين ، لايتقن أي مهنة ، وليست لديه شهادة ؟؟؟
ليس لديه مال ، ولاصديق ، ولاحبيبة ، لايملك شيئاً من حطام الدنيا ، فكأن الحياة والدهر تآمرا عليه..
وفي إحدى المرات ، بينما كان عائداً من رحلة ضياعه اليومية ، يخبُّ في مشيته كالعادة ، إستوقفته جارتهم :
سعيد ، ياسعيد ، هذه هذه قريبتي تود أن تلقي عليك سؤالاً ..
توقف مطرق الرأس الى الأرض..
هل صحيح ياسعيد أنك شربت الزرنيخ ؟؟ وماهو هذا الشراب ؟؟
صمت برهة ، ثم نظر إليها وصرخ :  شربونا الزرنيخ ، شربونا الخراء ، مالكم وشأني؟؟ ياناااااااس إترررركوني بحالي..
أو أقل لك .. إنتظري ..
خلع حذاءه الأيمن بمشط قدمه اليسرى وركله بعيداً ، ثم خلع الأخر بذات الطريقة وركله الى الخلف فسقط فوق أحدى السطوح..
دَسَّ إبهامية في سرواله ،  أنزله بسرعة الى ركبتيه ، إستدار نحوهن وصرخ :
أهذا ماتردن معرفته ؟؟؟ ( مشيرا الى تحت بطنه) ، وهل أن الزرنيخ لحس عقلي ، وهذا ،  أم لا ؟؟؟
خلع السروال وراح يلّوح به ويركض ، ركضت مجموعة من الاولاد خلفه ، طار السروال في الهواء ، ثم تبعه القميص والملابس الداخلية ، أصبح عارياً تماما ً، مجاميع الصبية تكبر وتكبر كلما إبتعد ..
ضحكت نسوة ، صفقّ رجل كبير بكفيه أسفاً ، تهامست صبايا ، بكت عجوز ، بينما ذاب صوت سعيد وسط هرج وضحكات الاطفال في الشارع الأخر.

* الشيلة : حجاب الرأس الذي كانت أمهاتنا يرتدينه..
** هذه الابيات للشاعر الكبير بدر شاكر السياب