في هذا الوطن الذي لا يُنصت إلّا لنبض الغياب، ويرى المبدعين أوضح ما يكون بعد رحيلهم، تتكرّر الحكاية ذاتها، وتُكتب بخط اليد المرتجفة ذاتها: لا تذكروا الأحياء إلا حين يغدو صمتهم قبرًا. وكأنما أرواحهم لا تستحق أن تُحتفى بها إلا إذا صارت خبرًا في شريط عاجل أو صفحة رثاء.
رحل سعود الناصري، فاستيقظت الأقلام، وتدافعت المراثي، واشتعلت ذاكرة الصحف والمواقع بخيوط من السيرة والنضال. ولكنه، كما قال الشاعر العربي القديم:
“لأن أموتَ فبعد الموت تندبني… وفي حياتي ما زوّدتني زادي.”
نعم، عاش سعود الناصري غريبًا في وطنه، مهمشًا في ذاكرة الإعلام، ومنسيًا في دهاليز المؤسسات الثقافية. لكنه لم يشكُ، لم ينكفئ، لم يهادن، بل راح يمضي بثبات على طريق الموقف، موقنًا أن القلم أشرف من الخضوع، وأن الكلمة أشد فتكًا من الرصاص حين تكون على حق.
ولد سعود في خمسينات العراق المتخم بالتناقضات، وراوده الفن صغيرًا، فانتسب إلى معهد الفنون الجميلة، وراح يصوغ ذائقته الجمالية على أنغام الريشة والصورة والمشهد المسرحي، لكنه وجد في الصحافة منبرًا أكثر قدرة على البوح، فاتجه مبكرًا إلى بلاطها، فكتب في صحيفة الرأي العام التي أصدرها الجواهري الكبير، وصحيفة البلاد التي أسسها الرائد روفائيل بطي، وتعلّم من أعمدتها أن الصحافة ليست مهنة، بل مسؤولية وطنية.
كتب، واشتغل، وتقدّم الصفوف، فكان من أبرز من صاغوا الكلمة الوطنية في إذاعة بغداد، قبل أن يغادر إلى موسكو مطلع الستينيات، ليغترف من ينابيع الفكر والفلسفة. هناك، حاز على دبلوم العلوم الفلسفية سنة 1965، ثم ماجستير في الصحافة، ليعود إلى العراق مشبعًا بروح التنوير، ويعمل في صحيفة الجمهورية حتى سنة 1978، حين بدأت آلة القمع تطحن الوطنيين، ويُضيّق الخناق على الأحرار.
اختار المنفى، ولم يختر السقوط. غادر إلى موسكو، ثم إلى لندن سنة 1992، حيث أعاد تنظيم صفوفه، وعاد إلى النضال من منفاه، لا كلاجئ منكسر، بل كمقاتل بالكلمة، سلاحه القلم، ودرعه الضمير، ينخر بصوته جدران الطغيان، ويزرع الرعب في قلوب المستبدين.
مارس العمل السياسي مبكرًا، فانتمى إلى الحزب الشيوعي العراقي، وانخرط في اتحاد الطلبة العام، ثم تولّى مسؤولية الإعلام والنشر، وأشرف على إصدار صوت الطلبة عام 1960، وانتُخب رئيسًا لرابطة الطلبة العراقيين في موسكو، ثم رئيسًا لاتحاد منظمات طلبة البلدان العربية. وكان عضوًا مؤسسًا في رابطة الكتاب والصحفيين والفنانين الديمقراطيين، وشارك في مؤتمرها التأسيسي عام 1980، وأطلق صحيفة “الأبيض” الإلكترونية التي كانت شاهدة على حيوية قلمه ووضوح موقفه، وعمل في هيئة تحرير مجلة “رسالة العراق.” التي كانت تصدر عن الحزب الشيوعي العراقي.
لم تكن المنافي تضعف صوته، بل كانت تغذّيه. ولم تكن الأمراض ترهق روحه، بل تجعله أكثر إصرارًا. حتى حين تكالبت عليه الآلام، وجثا المرض على جسده، أجرى عملية جراحية في سوريا، وهناك أسلم الروح، لكنه أسلمها وشفاهه تهمس: “بعين الله يا عراق… لا بد أن ينبلج الصبح.”
دفن في مقبرة الغرباء في دمشق، تلك التي لا تليق باسمها، فهي، كما قال محبوه، مقبرة الشهداء، لأنها تضم رموزًا من وزن الجواهري، ومصطفى جمال الدين، وهادي العلوي… وكأنما كل من أحبّ العراق بصدق، لا يحق له أن يُدفن في ترابه.
وقد أجمع محبوه على أنّ سعود لم يكن مجرد صحفي، بل ضميرًا وطنيًا حيًا، وصوتًا لا يعرف المساومة، ولا يلبس الأقنعة. قال أحدهم:”كان يكتب وكأنه ينزف، وكل سطر في مقالاته كان رصاصة في قلب الظلم.”
وقال آخر:”في زمن تكدّست فيه الأقلام المرتزقة، كان سعود يكتب بدم قلبه.”
وقال ثالث:”رحل سعود كما عاش، نقيًا، شجاعًا، لا يتلوّن، ولا ينكسر.”
و بعد أن طوى جسده الثرى، لا زالت روحه ترفرف في سماء العراق، وتهيم في أزقة بغداد، وساحات النضال، تهمس في آذان الجيل الجديد: “اكتبوا… قاوموا… لا تصمتوا.”
سعود الناصري لم يمت، لأن الذين يختارون المنفى على المذلة، والكتابة على التزلف، والحلم على الانكسار، لا يموتون. إنهم فقط يرحلون قليلًا… ثم يعودون في كل فجر حرّ جديد.