19 ديسمبر، 2024 12:18 ص

سعد محمد رحيم.. الكتابة الصادقة

سعد محمد رحيم.. الكتابة الصادقة

سيذكر الأدب العراقي باعتزاز شديد رواية سعد محمد رحيم ” مقتل بائع الكتب ” التي حَوّل فيها حكاية محمود المرزوق ، بائع الكتب المستعملة ، إلى سرد مثير ورواية مشوّقة. تَعمد أن يرويها بلسان صحفي ” ماجد البغدادي ” يتلقى مكالمة من شخص ثري متنفذ ، لن يكشف عن هويته، يَطلب منه تأليف كتاب يروي فيه أسرار حياة بائع كتب ، في السبعين من عمره ، وملابسات مقتله، وسيعثر الصحفي على دفتر دوّن فيه المرزوق بعض يوميات تؤرخ لحياة مدينته بعقوبة ، وعلى رسائل بينه وبين امرأة فرنسية اسمها جانيت كانت تربطه بها علاقة حميمة في أثناء لجوئه إلى باريس. ومن خلال هذه الوريقات القديمة التي يعثر عليها ماجد البغدادي تتوضح شخصية المرزوق وتبين فصولا من حياته المثيرة والغريبة ، وعلاقاته وصداقاته مع النساء والرجال، وتجربة السجن في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، وايام الدراسة في براغ ، وتقلبات التجربة السياسية ، ولحظة مقتله التي سُجلت كالعادة ضد مجهول !

الكتاب سيكون ممتازاً هكذا يصرُّ صاحب المكالمة الغامضة :” سيكون بالتاكيد كتاب العمر ” هذه النبوءة تجسدت واقعاً ، حيث تحولت ” مقتل بائع الكتب ” إلى رواية العمر بالنسبة لسعد محمد رحيم .

نلتقي في هذه الرواية بوطيفة الرواية الحديثة ، نحن امام وريقات كتبها مثقف يساري يُجيد التعبير عن افكاره ومشاعره ، لكنه يخشى الكتابة لانها كشف حساب حقيقي امام النفس :” لماذا تراني اخاف الكتابة ؟ أعني المباشرة الجادة بكتابة كتابي ( كشف حساب ) الذي طالما تبجحت به امام معارفي وكأنه ألياذة هوميروس المرتقبة ؟ ألأنني أخشى الماضي ؟ ألأنني افتقر الجرأة اللازمة لإجراء كشف حساب حقبقي لحياتي ، ألانني أرتعب من الوقوف إزاء المرآة والنظر عميقا إلى داخلي وما ينطوي عليه من منعرجات وزوايا معتمة وخراب ؟ ” . وصاحب هذه الكلمات او الوريقات واحدٌ من تلك الوجوه التي لا تخطئها العين ، تدركه من اول نظرة ، واحد من الملايين الذين يملأون الشوارع وباصات النقل والاسواق ، يندفعون بلا حركة ، ويتحدثون بلا ضجيج ، لكنهم يتركون اثراً عميقاً في النفس .

في الرواية نشاهد عالما أشبه بوثيقة فنية بالغة القيمة ، يقدم الروائي من خلالها صوره للمثقف العراقي ، بلا اطارات مسبقة ، وبلا نظرة ” تثاقفية ” ، ان عالم الكتب والثقافة هنا يقدم بمعرفة موضوعية عميقة النظرة خالصة النية للادب والفن وللحياة ، هدفها في النهاية تقديم عمل روائي ، غايته الدقة في اختيار المعاني ، القدرة على التعبير .

سعد محمد رحيم اديب يكتب بهدوء لكنه يفكر كثيرا ويعيش الحياة بكل قلبه المتعب من آثار الحياة ومشاغلها ، ولعل القُرّاء يذكرون له مقالاته الممتعة التي قدم فيها صوراً شخصية مقربة لكثير من مفكري العصر الحديث مثل غرامش ولوكاش وفوكو ، فكانت هذه المقالات التي نُشرت في جريدة المدى ، تلويناً يمزج ما بين فن الحكاية وقليل من أُطر الصحافة ، ولعله أستفاد من الكتابة فى الصحافة في صناعة نصوص بها سلاسة التوصيل الصحفي والتجسيد القصصي، وهو ما تجسّد بوضوح في روايته مقتل بائع الكتب ، وفي اعماله الروائية الآخرى ، فقد عشق سعد محمد رحيم الرواية وتربت معه شخوصها ، واقام علاقة ودٍ طويلة مع اعلامها الكبار ، منذ ان اصدر روايته الاولى غسق الكراكي ، التي حظيت باهتمام النقاد وحصدت جائزة الإبداع الروائي .

يدفعنا سعد محمد رحيم في مقتل بائع الكتب الى تذكّر حقيقة اساسية ، وهي ان الكتابة الجيدة ليست بالضرورة هي الكتابة التي تأخذ القارىء في متاهات ودهاليز الاساليب الحديثة في فن القص ، والتي قد تكون مغرية للكاتب ، وقد يكون الوصول اليها انتصارا أدبياً ، لكن الكتابة الصادقة التي تعني التعبير عن الواقع ، تحتاج الى جهد والى متابعة والى عقل يقظ واحاسيس مرهفة ، تلك الكتابة الصادقة قد تكون هي الرسالة الأهم التي يريد سعد محمد رحيم ان يحققها .

من هذه الكتابة الصادقة ينسج سعد محمد رحيم عملا فريداً ومشوقاً ، رواية لاهثة فيها كل إثارة وتشويق العمل البوليسي الذي لا تستطيع ان تتركه منسوجاً من فصول مدهشة ، متتابعة في شاعرية تعبيرية غامرة تدخل الى الماضي وتعود الى الحاضر ، لكي تقدم لنا تاريخ حياة مثقف مليئة بالحب والاخلاص والمغامرة ، كان فيها الروائي متكئاً على المكان كتجربة حيّة تتيح له أن ينمو وتنمو شخوصه معها ، ويشعرنا انه يصوّرها لا يكتبها ، مجسداً لنا تلك القضية الاساسية التي لم تفارقه سواء في كتاباته الفكرية او القصصه والروائية ، وأعني بها قضية الدفاع عن الناس البسطاء الذين عاش عالمهم وملأوا عليه عالمه.