أغرق آبياته بدموع من نحب لينتج قصيدته الوجدانية
أختزل كل المرثيات بقصيدته وجعلها قاموساً للرثاء
رسم صوره الشعرية بواقعية رمزية دالة على وقوع الحدث، وعلى الرغم من تنوع نتاجه إلا أن الشاعر العراقي يبدع في البكائيات أو الشعر الوجداني، وهذا متأتي من التجربة التي شذبتها السنين بألم ولوعة حتى استحالت صورة يتقنها شعراء العراق ومبدعيه أكثر من الصور الأخرى التي يرسمون خلالها ملامح قصائدهم.
ولا يخرج سعد جاسم عن هذا التوصيف إن عددناه، فهو أبن تلك البيئة التي حفلت بهذا الوصف وتخرج منها اسماء لا يقل سعداً مكانة عنهم.
ففي قصيدته ( دموع الموتى) التي أجتزءنا منها أربع صور غارقة بالدموع، والتي اختار لها عنوانها لافتاً لا يخرج عن توصيف ما ذكرناه، ذهب ليكرس ذلك الوجع عبر نهجه الوجداني المتسامي فوق الجرح ليباغت كل الأوصاف بدموع من نحب.
اختزل سعد جاسم كل المرثيات في قصيدته فكانت قاموساً للرثاء، واختصر المسافات بين تبدل العصور وأثبت أن الشعر الوجداني هو تعبير صادق مستمر لا تختلف فيه المشاعر وإن تبدل الزمن، فجاء خطابه منسقاً يشي بلوعة الأحاسيس وصدقها. انتقى مفرداته من بين بحور اللغة ليعبر عن ما يجول في خاطره وكأنه يتقمص انفعالات من كتب على لسانهم بواقعية رمزية دالة لا تبتعد عن تكوين الحدث ساعة وقوعه، بل ذهب لأبعد من ذلك تجسيداً للحدث بذاته، فجاءت صوره معبرة لما يدور ساعة أن تذرف الدموع.
أكتفينا من دموعه بأربع ( ألأم ) وهي أشد وجعاً وتنكيلاً بالقلب، ثم (الأب) وفيها ما فيها من اللوعة التي يرافقها صمت الحكمة، و(الأخ) الذي تكسر دمعته الظهر، و(الأخت) التي لا ملاذ لها بعد كل الفقدان الذي عانته إلا الأخ فينكسر قلبها بفقده ، لتكتمل ابعاد الفقدان والحسرة.
ولأنه عاش تلك التجربة فعلاً ومعه أمه عايشتها عن بعد، فقد جسد صورة دمعتها بدقة تحرق القلوب ، وتشعل فيها نار الوجع بحق، دخل الى بيت الداء ( القلب) وحرك ما فيه من تقلبات بواقعية رمزية رسمت ما حدث دون رتوش،فتجاوز صيغة المبهم في السؤال ، ليلج الى جواب الشرط فقال: ( حزناً على…..) لتعليل ما سبق من خذلان قلبها الذي وصفه بالبسيط .
عملية التحول من الوجداني الى الوصفي بتداخل رائع لا يشعر معها القارىء بفنية هذا التنقل ، أجدها رائعة جداً لدى سعد جاسم وقد استخدم تلك النقلة في أكثر من موضع بنجاح. وحين يريد الشاعر أن يترك مساحة تأثير كبيرة على القارىء تدفعه الى التفكر والتأثر الى حد بعيد ، فهو يأخذه الى الغيبيات وربما يدخل به عبر أبواب التصوف ليسرح في ملكوت لانهاية لها ولا تحدها حدود ، ناهيك عن تأثير ذلك نفسياً عليه، وهنا لعب سعد جاسم هذا الدور المؤثر فدفع بنصه نحو الحيز المفتوح بتأثير الغيب وقدرة الله عز وجل ، حين اخذ بيد أمه بعد أن جردها من القدرة على احتمال الغياب ، عاد بها الى الله ملاذ الآمنين بجسمها المنهك من الانتظار وعلى وجهها دمعة تتلألأ.
دمعةٌ للأمِ
وقدْ خذلَها قلبُها البسيط
حزناً على غيابي الغامضِ الثقيل
فعادتْ الى اللهِ
بجسدٍ مضيءٍ بالدمعِ
وحليبِ البراري .
وبدمعة الأب يكون سعد قد استخدم قاسماً مشتركاً بين دمعة أمه وأبيه تثمل بالعودة للرب سبحانه وتعالى، وهنا رغم تكرار الصورة لكنها لا تدخل في باب (التكرار) كصيغة يتبعها الشعراء لتجسيد أو تكريس معنى بعينه، وإنما جاء متداخلاً مع النسق الجمعي للقصيدة والفهم العام ، فالعودة الى الله تمثل النجاة لمن ضاقت به السبل، كما إنها تسليم بقدرة الرب على تنقية الأجواء واختصار مآسي الكون بحل منفرد لا يقوى عليه سوى الله سبحانه، لذلك هو الملجأ والمأمن الذي يقصده الجميع ، وبخاصة كبار السن بحكمة ودراية ، وهذا تجسيد للواقعية الرمزية التي بنى عليها سعد جاسم صوره الشعرية لتكتمل القصيدة ، ومنها رسم صورة الألم بصمت الوالد الذي هده المرض الوجدانية التي بدا بها بحكمة ، وهذه دالة عن عمق تأثير الباطن كتعبير لا يختلف عن معنى الوجداني الذي بنى عليه الشاعر قصيدته.
بناء هيكل القصيدة عند سعد جاسم مكتمل من حيث المشهد الشعري ، والعناصر المكملة ، والصورة المتكاملة بوجه عام ، هو يبتعد عن النمطية أو التقليد قدر الإمكان ليتفرد باسلوب الكتابة بعيداً عن تأثير ما سبقه من الشعراء ، وهذه نادرا ما تجدها في الأجيال التي تلت عمالقة الشعر في العصر الحديث، نعم ربما يرجع من يقرأ أو يكتب وحسب
فهمه للتصور العام للقصيدة أو مجموعة قصائد يرجع تأثيراتها أو تكوينها الى ما علق في ذهنه من وصف للشاعر الفلاني، لكن الواقع يعكس غير تلك التصورات إن تم تناول القصيدة بشيء من التفحص الدقيق المجرد والبعيد عن التأثير.
وهنا لابد لنا أن نقول إن سعد جاسم قد تتشابه صوره مع غيره إلا انه لم يذهب الى التكرار لتحديد المعنى، هو لم يستخدم الاستعارة في هذه القصيدة للدلالة ، وذهب ربما بعض الشيء الى الملموس أو المادية لتجسيد الصورة الشعرية بدلالة معناها، من باب الحداثة وقوانينها التي بنيت على الكل وليس الجزء.
دمعةٌ للأبِ
وقدْ نهشَ رقبتَهُ
وحشُ السرطانِ
فعادَ الى الربِّ
بجسدٍ مُكتظٍ
بالحكمةِ والصلوات .
وبتداخل معنى الحرب مع دمعة أخيه أراد سعد جاسم أن يذهب الى مفهوم الحنين بسبب غربته التي طالت ،مرجعاً الأشياء الى مسببات بعينها ليرسم من خلالها صورة ما أراد من حنين وبحزن عميق لذلك الطين كرمزية للوطن حين جاء على استخدام ( طينها الحزين) و( مقبرة الجنوب المالحة) كدلالة تشير الى مسقط رأسه في الجنوب من العراق.
دفع في ما يشبه بالمرثية على أخيه ليعبر من خلالها عن شوقه وحنينه الذي أخفاه خلف كلمات الرثاء التي نعى بها أخيه ، ليصور حنينه وشوقه الجارف للوطن بمزيد من الحزن والبكاء، ولتكون الصورة أكثر تعبيرا طرزها بتعابير دالة عن الحزن مرة وعن السلام أخرى ، وأنهاها بالعودة للانتماء الى حيث بدء الخلق بدلالة ( الحمامات) التي أشار إليها ، وقصد بها قصة سيدنا إبراهيم عليه السلام من باب الإسقاط بالدلالة، ( خذ أربعة من الطير ……. الى أخر الآية) من القرآن الكريم.
دمعةُ للأخِ
وقدْ دفنتْهُ الحربُ
بطينها الحزينِ
في مقبرةِ الجنوب المالحةِ
ولكنَّ روحَهُ البيضاءَ
مازالتْ تتلألأُ
مثلَ حمامةِ الخلقِ الأولى .
وفي أقتطافتنا الأخيرة من سعد جاسم بقصيدته ( دموع الموتى) رسم دمعة أخته التي أضناها الحزن وهد قلبها الموجع بفقد الولد، فجاءت وقفته تعبيراً حسياً استخدم فيه الوصف بصورة مطلقة ، ليبرز من خلاله الألم الذي لف القصيدة من بدايتها حتى أخرها، وظف سعد العاطفة بدقة متناهية مستغلاً عناصر السرد وتأثيرها بإتقان ليكرس العاطفة بشكل متقن ، وبمحاولة منه لإسقاط مشاعره على شكل القصيدة بوجه عام لتأخذ هذا المنحى الدرامي التراجيدي ، عبر الأسلوب الوجداني الذي أشرناه فيما سبق.
لعب سعد جاسم على المرادفات من المعاني ليظهر نصه بصورة قصيدة متكاملة أجاد فيها ، وكان موفقاً جداً في وصفه الدقيق لمشاعر شخصياته التي كونت محور النص ، وخرج منها بنصوص واضحة جلية هادفة ، كرست شكل القصيدة بصورتها العامة.
دمعةُ للأُختِ
وقدْ أكلَ قلبَها
فقدانُ الولدِ الجميلِ
فعادتْ الى هناكَ
بقلبٍ مثقوبٍ
ينزفُ حزناً خاثراً
وحنيناً ابيضَ .
أبدع في اختلاف مضمون فقراته التي جسدت كل فقرة منها شخصية مختلفة ، وكأننا نقرأ قصصا مختلفة لمضامين اختلفت فيها الحبكة ، كما اختلف السرد، لتكتمل الصورة بنهاية القصيدة بدلالاتها ومضمونها. لكنها لم تخرج من سياق البكاء والحنين واللوعة ، ناهيك عن الاشتياق للوطن الذي رسم سعد جاسم خطوطه بعيداً مجرداً عن السياسة ، لكن لم تخلوا أبياته من إشارات ضمنية.
” سعد جاسم ” شاعر عراقي مغترب ولد في مدينة الديوانية العراقية عام 1959 . وهو شاعر وكاتب مسرحي توزعت حياته في مدن عديدة، حاصل على دبلوم الإخراج والتمثيل المسرحي – معهد الفنون الجميلة – بغداد عام 1982 وعلى البكالوريوس في الإخراج والتمثيل المسرحي – أكاديمية الفنون الجميلة – جامعة بغداد 1986
وله العديد من الأعمال الشعرية منها على سبيل المثال لا الحصر:
فضاء ات طفل الكلام – دار الخريف – بغداد عام 1990 .
موسيقى الكائن – اتحاد الادباء – بغداد 1995 .
أجراس الصباح – شعر للأطفال – دار ثقافة الأطفال – بغداد 1995 .
طواويس الخراب – دار الخليج – الأردن – عمان 2001 .
قيامة البلاد – اتحاد أدباء الحلة 2007 .
أرميك كبذرة وأهطل عليك – مجلة الصداقة الأدبية عام 2009