– رسم صورة فذة لمعاناة المجتمع مستدلاً بالإستعارة التاريخية و التأويل
– وظف المترادفات الوصفية تعبيراً عن الحال والهيئة فجاءت اشتغالاته دالة معبرة
قد يتفرد سعد جاسم كشاعر شهدت الساحة نتاجه ، وترك أثراً ذا بصمة على مساحة الشعر في العراق ، وربما ذاع صيته في أوطان العرب ، لكنه بكل تأكيد ذو حضور في موطنه الحالي الذي اتخذه ملاذاً مما عانى منه العراق الذي ينتمي إليه “سعد” ، وذلك لاشك فيه ولاغرابة.
اتخذ “سعد جاسم” منهجاً مغايراً في الشعر ، لا من باب خالف تعرف، فهو لم يخالف قواعد الشعر، ولا حتى عناصر البناء،بل كتب بأسلوب مغاير لما تشهده الساحة الشعرية العربية عامة والعراقية خاصة، ولأن سعدا ينتمي ( لواقع الطين والمعاناة )، وهي البيئة التي تخلق الإبداع كما عهدناها في العراق،فهو أبن الوسط والجنوب، هو عراقي من سومر، وبابلي النشأة والتصور بروحه وأحاسيسه التي يعبر عنها شعراً فذاً يصف من خلاله فيض الآنين والمعاناة.
قصيدة “سعد جاسم” عالم متسع يضم أفقاً غير محدد من الرغبات والسمات والأفعال، عمد في معظم قصائده لتضمينها الوصف وتكريس الصفات ، فكانت أقرب ما تكون لقصائد “دالتها” التشبيه ، مستغرقاً في لغته التي وظفها دلالياً ليصوغ منها أبياته وليلج المكنون التاريخي من الموروث ليأتي بصوره الشعرية مقترنة بخيال عميق، وبدقة قدرته على الابتكار في الوصف موظفاً الأغراض الشعرية بشكل متفرد لتكون قريبة من ذهن القارئ ليعي ما أراد (سعد جاسم) حين أردف صيغ التشبيه والدلالة ليضمنها قصيدته.
ولأن الأسلوب الوصفي يعني فيما يعنيه الأظهار والكشف، فقد سعى (سعد جاسم) لذكر المرادفات الوصفية الدالة تعبيراً عن الحال والهيئة ، ولتقريب المغزى وفق الصورة المتقنة التي يقدم بها قصيدته. ولما كان شعر الوصف هو الأكثر وقعا على المتلقي ، فقد عمد الشاعر لتوظيفه في مسارات قصائده لتكون أكثر دلالة على الحبكة التي يبني عليها عمله الفني بإتقان، وليدركها القارئ بمزيد من الأحساس والتأمل.
( أنا طائرُ الفينيقْ
لايشبهني أحدْ
أفيقُ من الحريقْ
كي ينهضَ البلدْ )
من هذه الأبيات التي جاء بها “سعد جاسم” ليفتتح قصيدته الرائعة (اشراقات الطائر العراقي) ، والتي كرس فيها الوصف والتشبيه والدلالة، نضع أيدينا على الإستعارة التي وظفها الشاعر ضمنياً في أبياته تلك ليلج من خلالها إلى توصيف الحدث العام لمناخ القصيدة والتي احتوت صفات عدة ، فقد ذهب نحو الإستعارة التاريخية وذهب ليوظف التأويل بما هو خرافي ، يقصد منه تهويل الحدث ( أنا طائر الفينيق) ، وذلك توصيف القوة ، والمعروف إن (الفينيق) طائر خرافي يمتاز بقوة هائلة لايملكها أو لايشبهه فيها طائر أخر. واستخدام صيغ التهويل وتوظيفها في الشعر تدل على الفخر ، والفخر باب من أبواب الشعر ولجه العرب بل يكاد أن يكون باباً شعرياً عربياً بإمتياز . وفي ذلك توجد دواوين كرسها شعراؤها واقتصروها على شعر الفخر.
كما ذهب سعد جاسم على تضمين أبياته صفات الوطنية والحماس ،فقال ( أنهض من الحريق كي ينهض البلد) ، فهو يسعى لأن يكرس أبياتاً حماسية تحث على البناء والاخلاص والتضحية، ولانهضة من دون تضحية.
لم يُبقِ سعد جاسم أبياته محدودة الأفق، وسعى لإخراجها من الإطار التقليدي نحو الأفق المفتوح، فأجاد في ذلك ، مكرساً أبياته بمزيد من صفات التحدي والاصرار.
( أنا طائر الشعرْ
والمدى أُفُقي
هيهات للقهرْ
أن تنحني طُرقي )
شاعر التأويل ( إن جاز لي أن أطلق عليه) حمّل قصائده العديد من صيغ التشبيه والاستعارة اللفظية، لتكون أقرب دلالة وأكثر سعة في تبسيط المعنى، لم يبقِ سعد جاسم صوره الشعرية قاتمة أو غامضة، بل جاء برؤية موسعة احتوت التصورات وجسدتها أُفقاً لامنتهي يتمثل بالخلاص من واقع مفروض.
( انا طائرُ المدياتْ
والكونُ فضائي
والأرضُ والحياةْ
تعرفُ كبريائي )
…
( أنا طائرُ الرؤيا
والرؤيةُ رأسي
أجولُ في الدنيا
بوصلتي نفسي )
ولم يتجاوز الشاعر الأمل ، وأبقى بابه مفتوحاً ليذهب من خلاله إلى ماوراء الواقع ( الحلم ) ، وليظهر منه على بارقة ذاك الأمل الذي يضيء القلوب بصحوة على واقع مظلم.
( أنا طائر الأحلامْ
أمنيتي شعبي
يصحو من الظلام
يضيء لي قلبي )
قصيدة متنوعة الأغراض متعددة الأبواب جال فيها “سعد جاسم” بين الفخر والحماس ، وولج باب الخيال فأفرد فيها أبياتاً جميلة عبرت عن معانيها بدقة الوصف ورشاقة المفردة ودالة المعنى.
وفي قصيدة ( صرخة عراقية) ذهب “سعد جاسم” ليعبر وبصوت عالٍ عن رسوخ ألم كبير في بقايا النفس العراقية الجريحة جرّاء ما يشهده الناس من ظلم ومعاناة.الاستعارة التي وظفها سعد جاسم في أبياته ، كانت للتشبيه أيضا كما أسلفنا ، بدأها بالاستفهام ، ومن خلاله أفرد للتوصيف حيزاً ومساحة حتى باتت قصيدته أشبه بقاموس مصطلحات دالة على عمق الحدث.
لقد جاء بالمترادفات من التعابير والكلمات ليقف على صيغة وصفية تؤشر الحدث كدالة يعنى بوصفها بشكل دقيق.
وفيها أصر على تفعيل صيغ الاستفهام للدلالة على حجم وهول الحدث، ولتكريسه في ذهن المتلقي بصراخ لاينقطع وبما استخدمه من تضادات الكلام وليخرج منه بصور شعرية مؤطرة بالحزن دالتها التوصيف .
( هل يُصْلُحُ الخياط
ما مزّقَهُ الذئابُ
والثعالبُ والضباعُ
والأفاعي والكلاب ؟
وهلْ يُصلحُ العطارُ
ما أفسده الخائنونْ
وطغاةُ القهرْ
وزناةُ العصرْ
وتجّارُ العروشْ
وخرفانُ الكروشْ
والحروبِ والذنوبْ )؟
انَّ الصفات المتاخمة المتقاربة في نص “سعد جاسم” الشعري جاء بها متوازية بين منهجين: الاستفهام والوصف ، وكلاهما يكمل بعضهما البعض ، فحين يستخدم الشاعر صيغ الاستفهام في قصيدته ، لابد وأن يورد توصيفاً للحدث الذي بنى عليه حبكة القصيدة. من هنا كان سعد جاسم ملزماً لإيراد التوضيح أو الجواب على الاستفهام بصيغ التشبيه والاستمالة، استمالة النص الشعري نحو توصيف الجواب بمقاربات مادية محسوسة تدل على الفعل ، وفي هذا السياق لايصلح إلا تكريس الصفات الدالة على الحدث.
فجاءت الصفات التي أوردها الشاعر دلالية تؤطر صوره الشعرية لتكون أكثر انسجاماً مع الاستفهام الذي استفتح به القصيدة،وابقى جواب التأويل مفتوحاً يورد أكثر من معنى ، رغم أن الحدث واحد ، إلا أن الجواب قد يحتمل عدة أوجه، فقد (يصلح أو لايصلح) أو ربما لايمتلك القدرة على الاصلاح أصلاً . انَّ استعارات “سعد جاسم” قد تحمل أوجهاً أخرى إن نظرنا لها من جانب التشبيه الذي أورد منه صيغاً عدة جاءت كدالة على الحدث :
( حتى يمزقوا
جلدَكَ الكوني
وكلَّ الخرائط
وأَديمَ أرضكْ
أيها الوطنُ الجريحُ بلا أحدْ
وأنتَ تحملُ فوقَ ظهركَ
بلداً على شعبٍ
وشعباً على بلدْ )
إنَّ الطاغي على القصائد التي أخترناها للدراسة هو المنهج الوصفي ، والشعر أغلبه وصفي تتشعب منه أغراض أخرى متعددة ، وهذا ما تؤكده قصيدة ( حياة تأخذ شكل بيانو عتيق) ، فقد كرّس فيها سعد جاسم الوصف بصورة طاغية، ثم أفرد مساحة واسعة للحزن، وكأن القارئ لهذه القصيدة يحسبها من شعر الرثاء ، وقد تصلح ، لولا مفاتيح ذلك ( البيانو) التي منحها سعد جاسم بياضها فكانت “سوناتات” فرح ، أبهجت جو القصيدة العام .
( حياتنا التي تأخذ كُ شكلَ
البيانو العتيق
الذي وسْعَهُ هذهِ الأرضُ
الطاعنةُ باليبابِ
والسرابِ والأوبئة
ومفاتيحهُ السود “اء”
نعزفُ عليها اوجاعَنا
واحزانَنا الثقيلة
أما مفاتيحُهُ “البيض”اء
فنموسقُ بها
سوناتاتِ فرح
وأعيادَ حب
وكرنفالاتِ مباهج
ومسراتٍ وفراديسْ )
كتب سعد جاسم في صيغ المبهم في الشق الثاني من القصيدة ذاتها، وفتح أبواب الحيرة للقارئ ليضعه أمام دهشة أبياته التي احتوت الغموض والوحشة، وفيها أيضاً لم يبتعد عن استخدام التوصيف معللاً ذلك من وجهة نظري بالتطابق في توظيف النص الشعري كي لايبتعد القارئ بذهنه عن الغرض الأصلي للقصيدة. وجال بين أبياتها ما بين الاستفهام والجواب ، وتفسير الدهشة بغرائبية كبيرة أضفتْ على أبياته مزيداً من التشويق والجمالية.
( كلما حاولنا أن نفكَّ
ابوابها السرية
والغازها الخفية
كي نستقرىء اسرارها
فإن حياتنا هذهِ
تجعلنا دائماً نتوه
في غاباتها المشتبكة
وفي مجاهيلها الموحشة
ومتاهاتها التي نجهل تماماً
إلى اين يُمكنُ أن تؤدي بنا :
إلى الجحيم ؟
ام إلى فردوس الخلاص؟ )
وفي قصيدته ( فلافل وطنية) ذهب “سعد جاسم” ليركز على الوصف والكناية في كل اشتغالاته التي ضمنها أبياته ، جاعلاً منهما ركناً اساسياً بنى عليه حبكة قصيدته، لكنه أختلف فيما أورده من “وصف” عما سبق من توظيف، ذلك أنه كرّس خطابه الوصفي لفئة دون سواها أسماها ( ذوو البدلات الفاخرة)، كما ذهب في نصه هذا ليُحَمّله طابعاً سياسياً شيئاً ما، كصيغة اعتراضية لما يجري من أحداث تتصف بطابع الظلم الطبقي الذي كرسته تلك الفئة، وليبين من خلال ما وظفه من وصف اعتمده كسياق لصياغة القصيدة مدى التباين بين هؤلاء وبين الطبقات الأخرى من المجتمع، ممن أسماهم ب (معوقي الحروب) والآباء الذين عَرفهم بأنهم “متعبون” من القهر والفاقة والجوع والحرمان.
وفيها أيضا ذهب الشاعر ليبين أن هؤلاء ( ذوو البدلات الفاخرة) و( وذوات الوجوه المطلية) لتوظيف ( الكناية اللفظية) للتعبير عما يختلج في نفسه من شعور بأن تلك الفئات تُدار وتُحرّك وفق ما يريد ويخطط له ، أي استخدم الكناية اللفظية للتعبير عن حقيقة قد تكون مغيبة عن الناس، إلا ان الشاعر أفصح عنها بأسلوب شيق وظّف فيه المواربة ،أو توظيف المبهم في الخطاب الشعري.
( ذوو البدلاتِ الفاخرةِ
والقبعاتِ الأجنبية الأنيقة
والأربطة والأحذية اللماعة
وذوات الوجوه المطلية بأحدث
مستحضرات التجميل
والمساحيقِ الباذخةِ منها والفاقعة حد القرف والتهريج )
انَّ القصيدة الوصفية تحمل في طياتها سمة تعريفية أولاً، تغدق بالوصف لتوصل المعنى، والذي دائما ما يكون ضمنياً في الشعر، (والشعر مرآة الأمة) كما يقال.
و ” الفائخون والفائخات”
من ذوي وذوات المؤخرات والعجيزات
والكروش والبطون الرجعية والتقدمية كلها
وكذلك تجار الحروب والقلوب
والصفقات والبورصات والعملات والبترو دولارات
والمخدرات والبغايا والعاهرات والغلمان والخصيان
والمثليين والمؤمنين والملحدين
والظلاميين والغواني والجنرالات المجرمين
كلهم يدخلون الفنادق الفارهة )
إنَّ التجليات الإنسانية التي حملها “سعد جاسم” أبياته دفعتني لأطلق على قصيدته ( الضحايا)،فهي تعكس واقعاً أليماً كرسه الشاعر بدلالة المنهج الوصفي ليجسد معاناة فئات عدة من شرائح المجتمع، تلك المعاناة التي تسبب بها (ذوو البدلات الفاخرة، وذوات الوجوه المطلية بالمساحيق) ، والتي عبر عنهم سعد جاسم من خلال أبياته ليرسم صوراً شعرية احتوت أبعاداً درامية جسدت الواقع، ولانجدها ربما عند شاعر أخر غير “سعد” الذي عرفناه متمرساً بتضمين قصائده أبعاداً لتلك الصور.
( أَمّا مُعوقو الحروبِ
والآباءُ المُتعبونَ من القهرِ والفاقةِ والجوعِ والحرمانْ
والأُمّهاتُ ذواتُ الامراضِ المُزمنة
فيعرضونَ أقدامَهم وأَذرعَهم المُمَزَّقةَ
وأَدويتَهم الرخيصةَ
و ” الإكسباير “
أمامَ حضراتِ السادةِ الاثرياء
وسيداتِ الصالوناتِ السرّيةِ
والخاصةِ جداً جداً .
عسى أَن يعطفوا على هؤلاءِ الضحايا والسبايا
ويتصدّقوا عليهم ببضعةِ
ملاليمَ وفلْساتٍ ودراهمَ وليراتٍ
بالكادِ يقدرونَ أَنْ يشتروا بها
” ساندويشات ” فلافل وطنية )
أرى أنَّ “سعد جاسم” قد نجح بتصوير المعاناة عبر أبياته وبواقعية تثري الاحساس لدى المتلقي ، وجسد صدقية الحدث المعبر عما في قلبه، تمكن من تصوير المشهد الشعري بدراية تامة ، وأبدع في تنقلاته بين خبايا الموضوع دون تحريف أو مواربة أو ابتعاد عن المغزى، هو شاعر أمتلك ملكة الكتابة وبثقافة عالية أوصلت المعنى الضمني للقارئ بسهولة تامة.
جمالية الطرح جسدت المعاناة التي تناولها سعد جاسم بمتعة الأسلوب وبساطة الطرح ودقة الإيحاء ، فكان نسق قصائده موحداً لاغرابة فيه ،تعامل بصدق ودقة مع ما طرحه من حدث، واستطاع أن يُحمّل عناصر السرد في قصائده رؤياه المتكاملة عن الواقع ، بل جسّد صوراً حقيقية بصيغ خطابية دقيقة بعيدة عن التزويق والاستعارات غير المجدية.