ينتج سعدي يوسف قيما زمنية يتقبلها أي زمن أخر وينتج أمكنة سريعا ماتتقبلها أمكنة أخرى وهو لايفكر بمقاييس أو وسائل مقبولة وأخرى غير مقبولة ضمن معيار تصور حقيقةٍ ما بل يترك الأمر للغته التي توصل موضوعا وتنقل معنى ،وهي حين تكسب حريتها فأنها تختار نماذجها الصالحة بعد أن تُشبع خصائصها من بواعث القلق والحيرة والتكهن ،وبذلك تحتفي بمضمونها الدرامي الذي يعني الميل الى العدمية الروحية وتمزق الأضداد والسخرية المرة وتنعكس هذه الرؤى على مضادات أخرى غير ملموسة ويكون الإحساس تجاهها بالبطيء كونها وبشكلها العمومي غير قابلة للمثول في مناخات سعدي يوسف ومنها السعادة والأمل بالنعيم ،ضمن وحدانية إنفرادية بوجود يجيد عملية
الإختزال للوجود نفسه في مساحة ضيقة لاتتعدى الأمتار (غرفة – طاولة –قنينة – ساعة – مرآة – قنديل .. )هذه الإصطفافات التي تقدم صورا مربكة هي بدورها تقدم سيلا من التفسيرات المختلفة أي أن قاعدة البناء ستسلم من أي وجود للتكهن أو الضرورات المنطقية أو لرفع حسية اللغة تحت تأثير ما يتطلبه إشتغال ما في معنى ما :
أمس
في الغروب
كانت شمسان تطفوان على البحر
وغلالة غيمِ أبيضَ
تدنو منها لتصطبغَ
………
……..
………
أين الشمس التي نعرفها
شمسُ الهاجرةِ
قرص الفولاذ السائل
…………
………..
……….
لو كان الأمرُ بيدي
أو بيد الطفلِ
أما كنا سنطلق من جيوبنا الشموسَ
لتطفو على البحر كله
طوافاتِ نجاةٍ..؟
إن من متطلبات المكوث أمام (الوحيد يستيقظ ) التدرج للاقتراب من الديمومة النفسية بحركتها الوجدانية التي تؤمن صفاءها تلك التقاربية المتنافرة التي يحيها تارة العقل البعيد وتارة العقل القريب واللذان لايستقران على منحنى معلوم بقوة الضغط الذي ترسله قدرة تقدير القبض على الصور الشعرية ليتم تطويع المُلَمح العقلي بعد أن يُعطى شيئا من إستحقاقاته لتهيئة رؤيا جديدة للتعامل مع نوايا العاطفة عند إفراطها أوعند وقوعها تحت سطوة الحضور المكاني والذي يشكل المحسوس جزءها الأكبر
لذلك تجد في (الوحيد يستيقظ ) ذلك التشكيل الذي يدل على رغبة سعدي يوسف في نقل الكل الى الجزء وقد يكون الكل هنا الطبيعة برمتها منقولة إلى جزء من سياج كي يجلسها علية او تكون الشمس منقولة لخصلات شجرة وهكذا في
التعامل مع الأشياء الكبيرة التي ماأنفك يدقق لحظاتها ، ملامحها، دالاتها، إذ أن وسائل الإنقاذ لأي مضمون إستكمالي قد هيئا له مجهولا مطلقا أراد أن يتخطى به كل ماهو مضمونا ومتوفرا لذلك عجت كياناته بأدوات تعذيب النفس بين ميتافيزيقيا ساخرة ووجدان مهذب بليغ ،:
كيف أخرج من هذه الغرفة
اليومَ
أمسِ
ومن قبل عشرين عاما
أفكر أن أصطفي لي سواها
أحاول أن لاأراها
ولكنني لاأزال بها
هذه الغرفة التي أطعمتني، جرعة ، جرعة ،أفاويهها
صارت هوائي وجبتي
وجليسي الذي يقاسمني غرفتي
غريب هذا الذي يجري
غريبُ
لكن إذا غادرتها مرة
فأين سأمضي
إن العمق الإستدلالي في هذه المجموعة يشير إحيانا إلى مرتكزات الخطوات الأولى في الماضي وهي مجموعة من العواطف الموروثة والعينية الآنية المكتسبة التي أصبحت فيما بعد أحد الروافد للحنين للأرض الأزلية وللتعرف وللتعامل مع الأرض الأخرى الجديدة
لتفادي تقبل الوقائع المكررة ولم يكن بالغرابة حين رفع علامات التحديد والخيال المسبق في علائقه الصورية إذ لم يفارقه التذكر السمعي والتذكر البصري ولم يجد من مناص من ان يحيل تلك الطانات الى شئ من الهمس والوشوشة تخلصا من رتابة الزمن الذي اتخذ مقعده امامه وكأنه جليسه الوحيد :
هل تتذكرُ أولى خطاك
أتذكرُ قنطرة البيت
تلك المسنأة
والجسر حيث السبيل إلى المدرسة
أتذكر صفصافة المدرسة
وهي تغسل في النهر خصلاتها
………..
……….
كم بعدت عن النخل والأهل
كم فاضت الأرض حين تتالت عواصمها بين كفيك
كم غاضت الأرض حتى غدت محض زنزانة
كن مثلما
قد عرفتك
لاتبتئس
نحن في آخر المدن الملكية في أول الجلجلة
لاشك أن سر سعدي يوسف لازال مستمرا في معطيات شعره الى الآن وفيه من الصراع والتوتر مالايضمن الإجابة المباشرة عن أسئلة الشعر الأزلية ومفهوم الجمال وبما يحمل من فاجعة لاتحتمل الشرح والتعليل إنما هو من ذلك الإرهاص الوجودي الذي لن يغيب عنه يوما ولن يكون أليفا إلا بما يحتويه من مآسٍ والآلام ،،
هامش /
(الوحيد يستيقظ )مجموعة سعدي يوسف الشعرية ضمن أعماله جنة المنسيات