عندما اصبت في 6/8/1988 نقلت على مراحل كانت اولاها بطائرة هليكوبتر روسية قديمة – نصفها كان يهتز كخلاط بطيخ كهربائي والنصف الاخر كان يسرب الهواء من جميع الجهات وكأنك ممدد على سطح سفينة بحرية تمخر عباب بحر هائج في يوم عاصف – حتى وصلت أخيرا الى مستشفى اربيل وكان البديل لشغل مكاني هناك في احدى الجبهات المشتعلة آنذاك هو رئيس عرفاء سعدي ..وسعدي هذا كان بغداديا كرخيا شعبيا حتى النخاع وقارئ مقام عراقي من الطراز الاول يتقن كل انواع المقامات ويجيد كل انواع البستات ويحفظ عن ظهر قلب جل المربعات ، كان الجنود يتحلقون حوله لسماعه ساعة يطلق لحنجرته العنان …سعدي كان على وشك التسريح من الجيش انتدابا برغم الحرب الضروس الدامية لكونه موظفا في وزارة النفط وكان ينتظر كتاب الانتداب ليودعنا الى غير رجعة ..الا انه وكذلك نحن لم نكن نعلم بأن تسريحه لن يكون من الخدمة العسكرية هذه المرة ….وانما من الحياة برمتها !
سعدي وبرغم ما كان يبدو عليه من سعادة – وهمية – وبرغم ابتسامته العريضة التي لاتكاد تفارق محياه ونكاته المتتابعة التي كان يضحكنا بها في سلسلة طويلة تكاد لاتنتهي حتى انني كنت اشك بأنه كان يخترع بعض النكات اختراعا ويرتجلها ويؤلفها لحظيا بحسب المواقف المستجدة امامه ، الا انه وفي حقيقة الامر – كان تعيسا جدا – فإبنه الوحيد قضى بحادث دهس مروري في كرخ بغداد – سجل يمك اول وحدة – ونتيجة لهذه الصدمة التي وقعت على رأس الزوجين كالصاعقة تبادل هو وزوجته التي يحبها الاتهامات بشأن المقصر والمسؤول الرئيس عن ضياع ابنهم الوحيد الامر الذي انتهي بهما الى الطلاق – سجل يمك ثاني واحدة – ،سعدي وبعد ان كلف بالذهاب الى الجبهة – المتقدم – بالعرف العسكري حيث الارض الحرام وحقول الالغام والقصف المستمر الذي لايتوقف ليلا ولا نهارا ، وكان مصابا بالزكام ما اضطره للف نفسه ببطانية مقلمة تجعله الاكثر بروزا بين اقرانه اثناء المسير فأصابه القناص المعادي برصاصة في قلبه مباشرة ما اسفر عن مصرعه في الحال ….تفرقت الجموع من حوله وكلما اشتد الظلام وارادوا اخلاءه الى الخلفيات اطلق القناص وابلا من الرصاص تجاههم ليتفرقوا مجددا وهكذا ظل الحال على ماهو عليه طيلة ثلاثة ايام متتالية ، وكان هناك عرف في الجيش بأن الشهيد او الجريح يجب أن يخلى من ساحة المعركة مهما كانت التضحيات ،اذ من المعيب ان يظل شهيد أو جريح في الارض الحرام تنهشه النسور و الضباع الضارية ..واخيرا تم اخلاؤه وكلف احدهم بنقله الى ذويه في بغداد ، فوقعت الصدمة التي تمثلت بأن اخوته لوالده من زوجة ثانية قد رفضوا تسلمه – سجل رقم ثلاثة -، وان اخته الشقيقة العزباء هي التي تسلمته فقط وهي التي تولت دفنه في مقبرة الشيخ معروف !
هذه المآسي بمجملها ربما تمر على اغلب الناس مرور الكرام الا انها تشكل عندي هاجسا يظل محفورا في الذاكرة وتظل كألبوم صور ودفتر ذكريات تتجدد عندي لكتابة مقالات وتدوين مذكرات ..اذ كيف يفقد اخوة وان كانوا لأم ثانية ، أو أب ثان ثقتهم ببعضهم فتقسوا قلوبهم على بعض الى هذا الحد المقيت ؟ كيف ينهار الزوجان الحبيبان مع كل مصيبة كفقدان الابن الوحيد فينهيان علاقتهما الزوجية الحميمة بالطلاق البائن بينونة كبرى وكان الاولى بهما أن يتماسكا ويواصلا علاقتهما اكراما لفلذة كبدهما الفقيد على الاقل ، وانا على يقين بأن أيا منهما لم يكن مسؤولا عن وفاته وإنما هي الاقدار فحسب والتي اذا نزلت بساحة احدهم فلاينفع الحذر وعلى قول الامام الشافعي ” ومن نزلت بساحته المنايا ، فلا أرض تقيه ولا سماء …وأرض الله واسعة ولكن ، إذا نزل القضاء ضاق الفضاء ” ، كيف لقناص وان كان معاديا أن يقتل خصما ثم يحول جثمانه المسجى على الارض في العراء الى مصيدة فئران كلما اقترب احد منها لإخلائها واكرام الميت دفنه أصابه أو قتله ..اين فروسية المحاربين وأخلاقهم ومروءتهم وقيمهم ؟
كيف كان هذا الانموذج العراقي يتظاهر بكل تلكم السعادة الظاهرية المصطنعة فيما قلبه يغص بهذا الكم الهائل من الجراحات والحزن والالم ؟
عندما أرقب العراقيين منذ مدة وهم يزدادون تنكيتا وسخرية وقهقهة بإطراد مع كل كارثة جديدة تنزل بساحتهم وتعصف بأذهانهم ، اذكر سعدي ذاك الذي كان يضحك ويرقص فوق جراحه كالطير مذبوحا من الالم ..انها ظاهرة عراقية -سعدية – بإمتياز !
سعدي كان لايمل الحديث عن طيوره الزاجلة في سطح منزله القديم المستأجر في اقدم أحياء بغداد الشعبية وكيف كان – يطش لها الحب قرب البرج – على حد تعبيره بلهجة البغادة الدارجة ويجلس قربها مستغرقا بأحلامه العريضة ما بعد الانتداب من الجيش لبدء حياة جديدة ملؤها الامل والسعادة والطمأنينة والحب …فطارت طيوره وتبخرت احلامه وتبددت امانيه وظلت الاحزان تترى بمعية الاوهام تحوم في سماء داره وتحوم حول قبره ولما تتحقق بعد ..وما درى سعدي بأن النفط العراقي الذي كان يريد الاسهام في استخراجه للاجيال القادمة سيباع الى الشركات الاحنكارية الاجنبية بثمن بخس مستقبلا في ليلة ظلماء يفتقد فيها البدر ..مادرى بأن دمه الطاهر الذي بذله دفاعا عن وطنه الغالي الحبيب لن يمنح لشقيقته قطعة ارض ولا متر واحد ولامرتب تقاعدي في هذا الوطن مستقبلا لأنه خارج نطاق المكرمات فيما منحت للرفحاويين وامثالهم مرتبات واراض بالمليارات ، مادرى سعدي ان – مليون سعدي وسعدية – سيعقبونه لاحقا نصفهم سيموت ظلما وعدوانا بحصار أميركي بوشي لعين غاشم ولئيم ، وماعلم أن داره المستأجرة لن تكون حكرا عليه وعلى امثاله من البسطاء فحسب فملايين العراقيين ببلاد النفط سيسكنون من بعده تباعا دورا مستأجرة ، بيوت طين، عشوائيات على اطراف المدن تفتقر لأقل الخدمات وأتفهها ، سيقطنون في الفيافي والقفار خياما للنازحين هربا من مساكنهم ومدنهم غير الامنة تصدقت بها عليهم – من اموالهم المسروقة – المنظمات الدولية والانجيليني جودلية قصدي – جولية !
وسيظل الواقع المرير وبرغم الرحيل المدوي للجمال ، للطيور ،للاماني ، للاحباب، للاحلام ، للثروات ، للكرامة ، للعزة ، تباعا على مر عقود مليئة بصراخ الجياع ، دخان الحروب ، أنين المجاعات ، وجع الامراض والاوبئة ، وسيبقى للحديث عن المأساة التي لاتنتهي في جعبة كل عراقي وعراقية ثمة ..بقية ! اودعناكم اغاتي