19 ديسمبر، 2024 2:53 ص

اليوم الذي لم تضحك فيه ، هو اليوم الذي لم تعش فيه ، هذا ما يردده سعدون ، وهو يدور بين المحلات والدكاكين في السوق الكبير ، حاملا على كتفه كيساً من الجنفاص الأبيض بجيبين ،إمتلأ أحدهما بالحَب الأبيض ، والآخر بالحب الأحمر ..يطبق بكلتا يديه على عنق الكيس  ، ويسويه فوق كتفه ، ثم يهرول مسرعاً حينما يقترب من دكاكين  بعض التجار ثقال الدم أصحاب الوجوه المتجهمة  الكئيبة ، كما يسميهم ..ويبطيء حينما يقترب من الدكاكين والحوانيت الأخرى ، التي يحب أصحابها ويحبونه ..ينتظر الجميع مَقدَمَ سعدون ، يدعونه بلهفة ،  لا  لشراء الكرزات اللذيذة التي يحملها فقط ، ولكن لسماع صوته الشجي العذب ، ونكاته التي يطلقها  بسرعة بديهة لاتُصدق ، نكات حاضرة فوق طرف لسانه ، أراجيز وأشعار  ينظمها في غضون ثوانٍ ، ثم يختم هذه الاشعار والنكات بنهايات مضحكة لاتخطر على بال من لايعرف سعدون..من بين هذه الطرائف جمع المتناقضات في بيت شعر واحد ، فيكون الصدر مثلاً ، عن معركة تأريخية ، وعجز البيت عن أدوات سيارة ..!أو الصدر في رثاء ملك ، والعجز عن سندويشة فلافل ، وغيرها الكثير من الطرائف التي يتفنن بتجديدها وتقديمها لمُحبيه..مُدة غنائه وإنشاده ، أو إلقاء نُكاتَهُ ،  تتأرجح بطولها أو قصرها ، وفق مايُدفع له مُقدماً .. يمنح يدفع له أي مبلغٍ ، مهما كان ضئيلاً ، قبضة من الحب الأحمر أو الأبيض ، يرفض بشدة أي عطاء دون هذا الشرط ، إذ يعتبرها تسول وشحاتة ، وهذا مالايرضاه سعدون ..فمقابل الربع دينار ، ينشد بيتين قصيرين ، يختمهما برعشة  كتفيه ، وهز رقبته اللولبية ، ومقابل النصف دينار يقرأ ابياتاً أطول ويدور دورتين او ثلاثة برقصة غريبة..أما إذا دُقع له ديناراً أو أكثر ، فأنه ينشد قصيدة طويلة يعقبها غناء لأبيات أبو ذية ،  يختمها بضرطات مموسقة ، ثم يحمل كيسه ويهرب ، تاركاً الحاضرين يغرقون بثمالة ضحك هستيري ، يُسمع من بعيد..يلاحقونه ، يتوسلون إليه أن يعيد ماقام به ، يزيدون له العطاء ، فيماطل ويفاوض بخبثٍ محبب ، منتهزاً حبهم له ، وعشقهم لفنه الساحر العجيب..تنفذ أكياس الحَب ، ولاتنفذ حكايات سعدون ومرحه ، ينفضّ الناس من حوله ، ينصرفون  الى متاجرهم وأعمالهم  ممتلئين ، فرحين ، تعتلي وجوههم البسمة ،  مستقبلين بتفائل يومهم الجديد ..لسعدون عينان صغيرتان ، تتوهجان بمكر فطري وتلتمعان كعيني ذئب ، أنفه كبير ، عليه آثار كدمات وبثور ، وندب ثلاثين عاماً من التدخين وكؤوس العرق ، وجهه مثلث قاعدته الى الأعلى ، في خديه غمازتين كبيرتين يضفيان على بسمته سحراً ، وشارب رفيع إختط فوق شفته العليا. لاتفارق البسمة وجهه الصغير ، حتى عندما يكون غافياً في إحدى زوايا السوق ، بعد جولة مرح وضحك  تمتد الى الواحدة ظهراً ، وبعد أن يمج آخر قطرة من زجاجة العرق الصغيرة التي لاتفارق جيب معطفه البالي.. عندما  تنكمش الشمس في نهاية جدران الدكاكين المقفلة ، يستيقظ سعدون ،    يطوي كيسي الحب الفارغين ، وينحدر صوب الشارع العام. على الرغم من حضور سعدون بين الناس لسنين طويلة ، لكن أحداً لايعرف أين يعيش ، ولامن أين يأتي !! ظل لغزاً مُحيراً ، قيل عنه الكثير ، نسجوا حوله  حكايات تشبه الأساطير  ..قال أحدهم ، أنه شاهد سعدون  خارجاً من إحدى النوادي الليلة الشهيرة ، يرتدي بدلة غالية ، بصحبة حسناء كالقمر..والبعض إدعى أن لسعدون أبناءً ، مهندسون وأطباء ، تبرأوا منه ، بعد عجزهم عن ثنيه من امتهان بيع الكرزات ، والدوران في الأسواق ..وقال رجل بدين ، أحمر ، أنه رأى سعدون أو شخص يشبهه تماماً ، أمام  مديرية الأمن ، ترجل من سيارة فارهة ،  وعلى كتفيه ثلاث نجمات !! بل هو سعدون بعينه ، كما قال،  مؤكداً مارآه  ..وأقسم آخر ، أن سعدون كان في مزاد علني ، إشترى صفقة كبيرة من آلآت ثقيلة ومعدات زراعية وشاحنات ..قالوا وقالوا ، أحاديث كثيرة ، وقصص أكثر ، وهذا هو ديدن الناس ، فيما يجهلون..لم يكن  بوسع أحد أن يُثبت أو ينفي تلك الاقاويل ، أو أن يُقطع بذلك ..تبعه بعض الفضوليون الى مرآب المدينة ، ليعرفوا أي مكان يقصد ، وأي حافلة يستقل ،  لعلهم يقعوا على شيء من أسراره !! لكن دون جدوى ، فقد كان يتبدد على نحو غامض ، ويختفي اثره ، مثل فص ملح  يذوب في الماء ، كما قالوا..في سفرتي الأولى الى الوطن ، وبعد عشرين عاماً من الغربة ، كنت أجلس في مكتبٍ للعقار وسط المدينة ، مَرَّ رجل يسحل برجله ويتكأ على عكاز خشبي عتيق ، هرعتُ الى الخارج ..سعدون ..سعدون ..توقف ، إستدار نحوي بعد عناء ، دنوت منه ، حدقت في وجهه ، تلاشت شكوكي ، كونه هو ،  أم لا !! نقلت نظري بحزن فوق جسده الضئيل وثيابه الرثة التي تشي بحياة بائسة مريرة..سعدون ؟؟؟!! إختلجت قسماته وهو يتفحص وجهي وقامتي بإستغراب ودهشة !!..هل عرفتني ياسعدون ؟؟؟أستاذ سامي قفطان ؟؟ قالها ،  ( رغم عدم شبهي بالأستاذ سامي قفطان ) ..ضحكت بفرح : أنت كما أنت ياسعدون ، لم تكبر ولم تغيرك السنين ، مازالت النكتة حاضرة على طرف لسانك !!تبسم بلوعة ، مسد لحيته البيضاء بيده ، وأشار الى رجله المشلولة والعكاز ..لاتؤاخني ياأستاذ ، الزمان اللعين أنسانا حتى أسمائنا ، شكلك ليس غريباً عني ..لاعليك ياسعدون ، مَرَّ زمن طويل ..لاحظتُ كيس نايلون طويل يتدلى من كتفه ، فيه صوراً للزعيم عبدالكريم قاسم ، ولممثلين أتراك!!والحَب الأحمر والأبيض ياسعدون ؟؟؟؟؟هزَّ رأسه بأسف  ولوعة ، إلتمعت عيناه بحزن عميق ، اخرج من جيبه علبة دخان رخيصة ، إستل سيكارة وقدمها لي ، وألقم فمه بواحدة .. سارعتُ الى إشعالها ، ربتَّ على يدي شاكراً ، ثم سحب نفساً عميقاً موجعاً ، ونفث الدخان بعيداً :لم تعد للناس أسنان يكرزون بها يا أستاذ ، ولاوجوه تضحك ، ثم أشار بيده التي تحمل السيكارة وحركها حوله  بنصف دائرة ، أنظر الى  الخراب الذي شمل كل شيء ، ولاأعني هذه البنايات المتداعية والشوارع المقفرة الخربة فحسب ، أنظر الى وجوه الناس المطاطية المقيتة ، وجوه تلتحي الكآبة والوجوم ، كأنهم من عالم آخر ، يتصنعون الأيمان والتقوى والشرف ، أغلبهم لصوص ومرتشون ، وعديمي الذمة ، أعرف آباء هؤلاء المنافقين التافهين الذي يحدقون بك وبي الآن وهم يجلسون أمام دكاكينهم المترعة بالبضاعة والسلع الفاسدة ، كفساد عقولهم ..أعرف آبائهم جميعاً ، كانوا مرحين يعشقون الحياة ، متسامحين ، متحابين ، ضحكاتهم تجلجل وتملأ السوق الكبير ، لاأعرف كيف خلفّوا هذا الجيل اللعين؟؟!!دنا مني وهمس : تصور ياأستاذ أن هؤلاء لايضحكون حتى في الاعراس ، يلطمون ويبكون بمناسبة أو بدونها !! هل لك ان تتخيل شكل الحياة  بلافرح ياأستاذ ؟؟؟وأنت ياسعدون ، كيف تعيش ؟؟؟الحمدلله ، مستورة ، كثيرون هم مُحبي الزعيم ، يشترون صوره ، مازالوا متعلقين به ..وآخرون يعشقون صور ( مُهند ) التركي ، وهذه الحسناء التي لاأعرف إسمها هههههههسعل ، ضحك ، فبانت أسنانه المتهرئة المنخورة ..بكم تبيع الصورة ياسعدون؟؟الف دينار ياأستاذ .. خذ هذه مني لك ، قدم لي صورة الزعيم ..تناولت ورقة من فئة الخمسة والعشرين الف دينار من محفظة نقودي ، دسستها في جيبه ، قلت إحتفظ بالباقي ياسعدون ..إرتمى على يدي ليقبلها ، سحبتها بسرعة وقبلت رأسه..أسمِعني شيئاً من غناء الأمس  ياسعدون..سحب نفساً عميقاً من سيكارته التي ترمدت بين أصابعه ، رماها قريباً ، ثم راح يغني هذا البيت الزهري بصوته الدافيء المبحوح :ياصاح دنياك مُظلم كــــــــــل وكت جوها *وتشوف سمح الأرض لاجن من نكر جوهاأخبرك نفس الصحيب الساعدك جوهامن حيث عسر الدهر ينيسر بالعانةوالعبراك إبفلس صارت عبرته بعانةلايامريض الحسد ماكو ناس بالعانةدنياك هَم وقهر ، ذبها ، لاتذب جوهاتدحرجت دمعة من عيني ، وتراقصت مثلها في عيني سعدون ، مازالت عيناه الثعلبيتان تحتفظان بذاك البريق القديم ..مددت يدي الى محفظتي لأستل ورقة نقدية أخرى ، ضغط على كفي بقوة ،أقسم أنه لن يأخذ شيئاً آخر مني..تذكرت عناده ، وعزة نفسه ، وفي غمرة الحزن ، حضنته وبكيت ، إستشعرت اهتزاز جسده الضئيل وهو ينتحب معي .. كفكف دموعه بظاهر كفه  المُنمشة ، مثل طفل صغير..جَرَّ عكازه ، أومأ لي شاكراً ، ثم ذاب في السوق.

أحدث المقالات

أحدث المقالات