لعل من نافلة القول، الإشارة إلى أن السعادة الحقيقية عند الإنسان ، تتجسد بأشكال متنوعة، في مقدمتها سعادة الوعي. وهي لاشك سعادة معنوية. ولذلك فهي لا تتأتى الا عبر جهود مضنية، من القراءة المستديمة، والمتابعة الحثيثة، والبحث المتواصل، وما يرافق ذلك من تجارب ذاتية، بحلاوتها، ومرارتها، بل واحيانا قساوتها.
ولاشك ان تلاقح الافكار، بما يؤدي اليه من محصلة فكرية ثقافية، بين ذوي العقول الراقية، والهمم العالية، والنفوس الكبيرة، من اصحاب المواهب الإبداعية، والاقلام المتوقدة، من الكتاب، والادباء، والعلماء، والمعلمين الاكفاء، ممن يحملون الهم الثقافي، يؤدي بالمحصلة إلى رفع الوعي، والارتقاء بالسلوك الإنساني، إلى أفق حضاري متنور، ومتقدم، و فوق كل هذا وذاك، رفع الحس الموضوعي عند الإنسان، كي يكون مقياسا متجردا للأحكام الصحيحة على الأشياء ، التي تقترب من الحقيقة إلى حد كبير.
ولعل من المفيد الاشارة في هذا الصدد، الى أن الوعي الثقافي الجمعي، في الأوساط الاجتماعية ، في العقود المنصرمة كان في أوج توهجه ، حيث حقق سعادة وعي واسعة بين الجمهور. فقد لاحت في الافق، معالم نهضة فكرية ثقافية، على جميع الاصعدة، الثقافية، والعلمية ، والفكرية. فقد ازدهرت الثقافة، وازدهر الوعي الجماهيري العام. فكانت مراكز التثقيف العامة، والمكتبات، ووزارة التربية والتعليم، والجامعات، قد اهتمت بإعداد نخب تعليمية رصينة، تخرج على ايديها، مفكرون،وكتاب، ومثقفون، من طراز متميز.
ويتذكر جيل تلك المرحلة، كيف كانت تصدر المجلات، والجرائد، والكتب، وتنزل إلى المكتبات بشكل دوري، حيث يتهافت القراء على اقتنائها، والانكباب على قراءتها بشغف. وقد نشط الادباء، والمفكرون، والعلماء، وبرز مبدعون من اعمدة الفكر، والثقافة، والفن، رفدوا الساحة الثقافية بابداعتهم.
لكن تلك النهضة الثقافية، مالبثت ان انحسرت، مع حلول أواخر القرن الماضي، وبشكل متسارع. فانحدر مستوى التعليم، وانحسرت الثقافة، وجفت الاقلام، والصحف، والمجلات، واضمحلت القراءة، وتناقص القراء، وتيبس الحس الثقافي، وخفتت سعادة الوعي.