لفت إنتباهي، الفرح الغامر، الذي أغدقته الطبيعة، على جوق فتيات قرويات، حين حبتهن ترعة ماء، في ظاهر الفلاة، يقطعن سدف الظلام، ستارا؛ كي يعشن لحظات من المرح البريء.. يسبحن فيها مبتهجات، كما لو ملكن أقطاب الارض وأقطار السماء، وذلك في فيلم “أحب عيشة الحرية”.
أية حرية!؟ إنها حرية نابعة من رضاهن بالقليل، وهي قلة تكثر ومحدودية تتسع، جراء الفطرة العميقة، المتأصلة في أغوار ذواتهن.. قناعة تتحمل الى ثراء، يملأ وجدانهم الراضي بـ “القسمة” فكل ما يرد خيرا “من حقنا فما دون”.
يلتف محيط الدائرة، يلتقي بنا.. نحن الأنتلجسيا.. صانعو الخدمات الثقافية، التي تسعى للإسهام في بلورة الرأي العام، يستنزف الهم الكوني طاقات عقولنا المركبة ويلهينا عن ذواتنا، متلاشين، نعيش للآخر، وسعاداتنا صغيرة.. بسيطة.. هادئة؛ بقدر ما إنتظمنا في تلقي التعليم الاكاديمي منهجيا، تداعينا في الإنسياب مع تلقائية السلوك، في حلقات متوالية، تبدأ من حزمنا، ضد ذواتنا.. نقمعها؛ كي لا نتخطى حدود الإخلاص للعائلة.. زوجة وأما وأبا وأولادا، بإعتبارهم الحلقة الاولى، خارج الذات، متفانين بالعمل، الى حد يزعج رب العمل الذي نخدمه، بإعتباره الحلقة الثانية، في تراكب وجودنا، ملتزمين بالولاء للحلقة الثالثة.. المحيط الإجتماعي الذي يضمنا، وبالتالي تعاليم الدين وهي الحلقة المطلقة، التي ترتقي بنا من “ناسوتيتنا” المدنسة برغبات النفس الأمارة بالسوء، الى التماهي مع نقطة الصفاء الإلهي محلقين في فضاءات سماوية بيض.
سعاداتنا صغيرة، بحجم بساطة الترعة بالنسبة لقرويات “عيشة الحرية” نفرح كالأطفال بكتاب نادر، نقرأه ونعيره لصديق كي نتحاور بمضمونه.. حضور فعالية ثقافية، نصغي بشغف اليها، كما يصغي الصوفي لملائكة يساعدونه على فك أسرار علم الجفر، وهكذا.. لا اقول ننسى أنفسنا، إنما نهملها تفانيا في إسعاد الآخرين، ولا نبقي لأجسادنا ظلا، الا بضعة ملمترات نستفيء بردها من الحر، ونستدفئ حرها من البرد.. صيف شتاء، تعاقبا، ونحن ماكثون حيث أفرزنا الوجود، رسوخا في المكان والزمان من دون حراك.
وهذا ما يجعلنا سائرين وفق السياق الذي قال به الفيلسوف الفرنسي غرامشي، عن المثقف العضوي، المتفاعل مع المجتمع، ثباتا على موقف، يحيله الى شهيد حي.
فكم مثقف خالد في التاريخ، دفع حياته ثمنا لموقف، إنجازه خدمة للآخرين، وليس له، أيمانا بالآية الكريمة: “ولسوف يعطيك ربك فترضى” وأظن الرضا والقناعة والتصالح مع الذات، نعمة سابغة من الله، تديم إستمرارنا في الوجود، من دون ان نقلق: هل نحن أحياء الان، وفي السابق؟ وهل سنحيا مستقبلا؟ وتلك نابعة من أن حياتنا تتوزع في حلقات المحيط، المتراتبة تباعا: قمع الذات، وإسعاد العائلة، والإخلاص في العمل، والإلتزام الاجتماعي، والإيمان بمعتق ديني.. تتجلى كلها، من خلال حديث حميم مع جمع من زملاء حالمين، بشأن كتاب جديد او قديم، قرأناه مؤخرا، يلذ لنا سرد انطباعاتنا النقدية عنه… إنها سعاداتنا الصغيرة، التي لا نريد أكبر منها، في حياة تعلمنا الزهد بها؛ كي لا نتنافر مع وجودنا، المتوزع على حلقات متوالية، تبدأ من قرويات يمرحن في ترعة، وتنتهي بشهادة جامعية، تعبنا حتى استحصلناها، وعمل تناهشتنا الظروف والشروط والقوانين.. تمزقنا؛ كي نناله، ونوفيه حقه، فيحل علينا الراتب الذي نتقاضاه منه، ونسعد به من نعيل.