في ذات اللحظة التي شاع فيها خبر وصول دفعة من الباصات ذوات الطابقين لمحافظة البصرة، شعرت بإحساس غريب بعد أن خفق قلبي وأمتد عنقي وبصري نحو السماء، فرحا مبتهجا، كفرح الأم بعودته أبنها الضال، ولاسيما والعراق عموما والبصرة خصوصا تشهد أنهيارآ تاما في منظومة النقل والمواصلات وبالخصوص على مستوى خطوط النقل الداخلي،بعد أن سحبت الدولة يدها من رعاية وتأسيس أو خصخصة المنشاة العامة لنقل الركاب، لتبقى وسائط النقل الداخلي ( بيد اللطامات)، من أصحاب الكيات والكوسترات ليصبح البيت (لمطيرة وطارت بي فرد طيرة)، بلا رقابة أو محاسبة أو توجيه، من قبل الدولة، مما جعل المواطن لقمة سائغة بيد أصحاب مركبات النقل الخاص، في تحديد الخطوط والمسارات التي يجدونها تدر عليهم أرباحا وفيرة، فضلا عن تحديد الأسعار، بحسب الأوقات والمناسبات والمزاج، لدرجة عزوف الناس عنها والاتجاه نحو سيارات التاكسي الصغيرة بعد أن تقاربت الأسعار بينهما، في مشهد استغلالي انتهازي للمواطن بعيدا عن أي أجراء حكومي للحد من هذه الظاهرة، التي لم تكن موجودة أيام السبعينات والثمانينات، حيث خطوط النقل العام الحكومي، وهي تتجول بانتظام وبمواعيد محددة حول مدينة البصرة برمتها، وهي تصل لأبعد نقطة في المحافظة إلى القرنة شمالا والى أم قصر جنوبا، وتنطلق بحسب وقت محدد حتى لو كان فيها راكبا واحدا،وهي تجوب المدنية بأسعار زهيدة جدا، لتبقى ( الأمانة) أو ( المصلحة)، في الذاكرة والمخيلة وللأبد، ولهذا السبب جعلني أكاد أطير فرحا لحظة وصول خبر الباصات ذوات الطابقين لمدينة البصرة، علما أن كل بلدان العالم النامية منها أو المتقدمة،تتوفر فيها وسائط النقل الحكومي أوالقطاع الخاص وبأسعار زهيدة جدا وبتكنولوجيا حديثة وأساليب متطورة من استخدام بطاقات تعبئة وما شابه ، عموما درجة فرحي جعلتني أتخيل بأن سرب الباصات القادمة هي عبارة عن سرب من طائر القطا الذي طالما تغنى به الشعراء والأدباء، ذلك الطائر الرائع الذي كان يمر بأسرابه الكثيفة بسماء البصرة وهو يبحث عن مواطن الماء، في أيام الدفء واعتدال الأجواء، والكل يستأنس برؤية شاخصا ببصره نحو السماء كبيرنا وصغيرنا ،ذلك الطائر الذي يتميز بشكل جذاب وصفات فريدة ، فهو لا يتحرك إلاعلى شكل جماعات و ولديه القدرة على الاستدلال مواقع المياه، ولهذا يصف العرب من لديه رؤية ثاقبة بأنه ( أدل من قطا)، بل ويحمل قطرات الماء إلى حيث صغاره ولمسافات بعيدة ، ولا يطير ليلا إلا عند بزوغ الفجر ، لهذا قيل في المثل ( لو ترك القطا لغفى ونام)، لان طيرانه ليلا معناه أنه وقع لتهديد حقيقي، وأتذكر كيف يردد بعض العشاق هذه الأبيات وهم ينظرون معنا لرؤية هذا الطائر 🙁 بكيت على سرب القطا إذ مررن بي..
فقلت ومثلي بالبكاء جدير..
أسرب القطا هل من يُعير جناحه..
لعلَّ إلى من قد هويت أطير!!)،
ويتناهى إلى مسامعنا من يكمل ويقول(وأي قطاة لم تُعِرني جناحها
فعاشت بضير والجناح كسيرُ
وإلا فمن هذا يُؤدِّي تحية
فأشكره، إنَّ المحبَّ شكُورُ).
ولم يكن الشعر الشعبي بعيدا بهذه المواقف حيث يصدح أحدهم منشدآ:
(سرب الگطا وياك إحمل سلامي ..بلغ حبيب الروح اجمل تحيه ..
إخبره بكثر شوگي وبغرامي ..
عزيز ويصعب فراگه عليـّـه..)
ولم يكن حالي الان بعيدآ عن تلك اللحظات وانا اتغنى حبآ بهذه الباصات وكأنها سرب القطا، لدرجة أنني أنشدت هذا البيت لحظة وقوفي أمام أولى طلائعها قائلا:(يلعيناك فحل الگطا الگاطع چول..
يلشوفتك شباچ للقاسم ).وأخذ لساني يكررها وعيناي مغرورقة بالدموع فرحا.
حينها شعرت بيد أمسكت كتفي، وصوتا يخترق فضاءات وجدران سعادتي ، ليقول لي مهلا مهلا أخي المتفائل ، عن أي سعادة وفرح تتكلم ؟ وأي سرب هذا الذي تصف؟
وابتسم مستهزأ وأردف قائلا، أخي لم يكن سربا كما تتصور ولا هم يحزنون كلها(١٢) باص فقط ، إثنان للمطار وثلاثة لجامعة البصرة والبقية ل( التيسي فيسي
دع سرب القطا وشانه واستبدله بالسراب والأوهام والتخيلات.