23 ديسمبر، 2024 5:34 ص

سدرة الضوء.. تأطير مكاني للوقت

سدرة الضوء.. تأطير مكاني للوقت

اطلت الشاعرة المغربية صباح الدبي، على الثقافة العربية، بديوانين رسخا تجربتها واشرا تميزها، بخصوصية التعامل مع التفعيلة بانثيالات النثر، متوهجة بغنائية، تضفي على العروض انسيابية اجرائية.
في ديوانها الاخير (سدرة الضوء) الصادر عن اتحادج كتاب المغرب، في اربع وتسعين صفحة من القطع المتوسط، ضمت ثماني عشرة قصيدة، اولاها (معارج الارتواء) التي ضمنتها اكثر من مقطع مدور التفعيلة، تلاحقت خلاله الافعال:
“تشتهي الروح اشتعال رماده الحجري…
كم كان يكفي من هوء
لاقتراف الغوص في لجج تعاظم كل فرق من منابتها وانت كمثل شمس الوقت، منفلت تصاعر ضوءك الممدود للروح وتولج الممحول في ليل يرابط في مداك…”
وهكذا توالت المقاطع المدورة، ليشكل كل مقطع.. تقريبا.. او يشكل كل جزء من مقطع، امتدادا مدور الكلمات حول فكرة محورية، تمتد بامتداد النسج العروجي الذي لا يمتمفصل في جمل، كما اعتدنا من القصيدة الحرة.
وبهذا اكسبت صباح الدبي قصيدتها مميزات النثر، بغنائية عالية، اتحاها حسن توظيف التفعيلة، في مقاطع تستطيل، برغم توزيعا الى جمل منتظمة، من دون فاصل اللفظ ولا في المعنى.
اشتغل الديوان على التصميم التشكيلي من خلال وضع خطوط بين اشباه الجمل:
“تنح بعيدا
……………
اقيمي قليلا
………………
هو القرب والبعد
يهصر هذا التجلي
ويربكني وايك…”
تأكيد تشكيلي لتناقضات فيزيائية، لتنتهي القصيدة الاولى (معارج الإرتواء) بالانفتاح على القصيدة الثانية (مشارف البياض) وكلها احالات مكانية الى اجراء معنوي؛ فالمشارف، هي حافات المدن، من حيث الطمأنينة للوصول، قدر ما تسعف الساعي وفوراته في بلوغ المقاصد، ومنها (اطلس الروح) ايضا.
وهذا ما يشمل المعراج، باعتباره سبيل الارتقاء انطقة مستحيلة، ومنها عروج الرسول محمد الى السماء وتعريجة الاستاذ الجامعي بطلبته على موضوع خارج المنهج المقرر، او الالتفات الى قضية مهملة، وهذا هو جوهر التماهي الشعري بين المدهش واطلاء الدهشة على ما هو آفل.
اكدت قصائد الديون على امكنة معنوية تنبض في اغصان سدرة الضوء.
في قصيدة (مشارف الضوء) ادت صباح الدبي لعبة بلاغية علافت المجهول لتكسب سياقا لغويا متفردا، اذ بدل النداء المألوف: “يا ممتط سروج صوتك الشفيف” كتبت: “يالممتطي سرج صوتك الشفيف” ما اكد قصدية الهيمنة على المتلقي بالمغايرة للمألوف.. المستهلك، الذي يستشفه القارئ قبل الولوج في القصيدة.
اذ ما عاد مبدأ “افضل الشعر ما يفسر آخره اوله وما يشي صدره بعجزه” القصيدة الحديثة لا تتخارج من قريحة الشاعر تحت هذا الفهم المنتفي، ولا يتلقاها القارئ على هذا الاساس.
وتلك ميزة تدل على مواكبة الدبي لتطورات الذوق الحديث في التلقي.
اقترن (خفف الوطء) بـ (هذا) فاحال القارئ الى بيت ابي العلاء الشهير: “خفف الوطء فما اديم الارض الا من هذه الاجساد” ساحبا قصيدة (شعلة في اطلس الروح) من التحلق الشاعري الى الرصانة الفكرية الراسخة، ونحن ننساق مع قراءتها:
“خفف الوطء
يسرق من جنة القلب
تفاحة الضوء
في حربك المعلنة”
فتتداخل اسطورة خروج آدم من الجنة، مع تيريزا باتيستا التي تعبت من الحرب في بيت دعارة وليس جبهة قتال، ثم يتفجر ينبوع تفاؤل “من متاريسها تولد الصبوات.. يزهر البدء من جرحها.. مخمليايرصع عرش البياض…”
اختارت وزنا غنائيا لقصيدة (اجنحة تشف العتمة) انسجاما مع مضمونها؛ ليكتمل بناء القصيدة:
“لك الريح التي حملت شعاعك من بروج الغيب
ولي اسرار دهشتي التي فتقت غيمتها…
على وتري
سكبت اللحن
اطربني
وامطرني
بما يطفي سجوف العتمة المزجاة”
سامحة للكلمات بالانسكاب من على سطور الورقة؛ تجسيدا للمعنى.
هل نقول حققت الشاعر المغربية صباح الدبي، تجربة متكاملة وفي ابسط التقييمات مدعمة الاركان، بمرونة التعامل مع الاوزان الشعرية والاحساس المعنوي في صناعة القصيدة، وتحولات بنائها المتناظر.. شكلا ومضمونا.
سبق للشاعر ان اصدرت ديوانها الاول (حين يهب الماء) العام 2007.