20 ديسمبر، 2024 2:16 ص

سحر المكان وسطوته

سحر المكان وسطوته

ما قاله المتصوف جلال الدين الرومي:
إلهي ، خذ روحي إلى ذلك المكان الذي يمكن فيه أن أتحدث بِدونِ كلمات.
في كتاب الحكمة وثوابت العصر جاء ما يلي: إنَّ الناس راحلون وإن بعد طول دهِِر، وان المكان هو ألابقى. ومن كان على ألفة ومحبة وذو قربى باﻷثر فلا مناص من العودة اليه مهما طال السفر ومهما بعدت المسافات. ولوعة التواصل مع الماضي ستبقى كذلك وسيزداد الحنين اليه كلما هزَّكَ الشوق، فالعودة الى النبع اﻷول حيث إرتويت لا ينازعك عليه أحد. أما عن شكل إستحضاره (الماضي) فلا أظنه موضع خلاف أو إجتهاد، كذلك سوف لن يُمسي موضع شك أو تساؤل، فمهما إبتعدت فسيبقى شاهداً حيا، وصادقاً، لا يمالئ أحداً ولا يحابيه، حتى وإن فعل الزمان وعاتياته ما فعل. عُدْ اليه إذن، فلابد أن تَجِدَ أو تعثر على بقايا أثر كنت قد تركته هنا أو هناك، فمنه وبه ستستعيد نعمة التذكر التي ظننتها قد خَبَتْ وإنطفت جذوتها.
إن عدتَ فلا تنسى المرور بتلك الشجرة الباسقة التي ما إنفكتْ تناجيك منذ ابتعدت. إن عُدتَ فتذكر يوم تسلقك كرمة العنبِ رُغمَ عدم نضوجه، إن عدت فتذكر ذلك الزقاق وسطح ذاك الدار، يوم رمت إحدى الصبايا وردة حمراء لا زال عطرها عبقاً، وكُدتَ تهوى من الهوى ولوعة الحب. إن عُدتَ مُرْ بذاك الحجر وذاك الذي كان على عهدك يسمونه قنطرة أو جسرا، كنتَ قد عبرته وعَبرهُ أيضاً سواك من البشر، منهم ما زال حيّا ومنهم من غادرها.
المكان هو ذات المكان إذن.. ثابت، لم ولن يتغير، شاهد حق لا يساوم أو يخاتل، صابر على ماهو عليه وليس في ذلك من هوانٍ أو ضعف، ولا تذهب في حسابك سوءا أو يخونك التقدير. لم تستطع الريح هزّه (المكان) ولم ينحنِ لها ذات يوم أو ذات مرة. واهمٌ ذلك البعض ممن طوعته الغربة ولوَت ذاكرته، بأنه باتَ شاهد زور، أو أنَّ رقبته مالت حيث الحاكم وقسوته. أجْزِمُ انه لم ولن يُخطئ أبدا، إنَّه أصدق مني ومنك، راسخ أصلب مني ومنك حتى وإن بانت عليه علامات الكبر وتغضن وجهه بشيخوخة العمر ومصائب الدهر.
إذن سيبقى المكان وكما عهدناه، منصفاً، لمن استقرَّ أو مرَّ به أو حتى غادره على الكراهة أو مجبرا. لا يأتيه الباطل من أي جنبٍ، لا من يساره ولا من يمينه. لا يخاتل ولا يهادن، ولا يميل نحو هذا أوذاك، أو يضربه الهوى فيفقد الصلة الحسنة والقسطاس بين الناس. فهو واﻷرض التي نريد ونحلم صنوان لا يختلفان، فكلاهما وطأتهما قدماك، وهما مَنْ حَماكَ يوم ولدت ويوم غادرت ويوم ولّيت وجهك صوب أصقاع العالم وأطرافه.
آه، تذكرت الآن وقبل أن يفلت السؤال من بين يدَي وذاكرتي، لِمَ أدرت ظهرك ونأيت عن ذلك الذي حملك على هذا الكف وذاك الكتف؟ ألمْ يصلكَ نداء المكان وخشية العابثين به؟ هل أصغيتَ الى صوت من سامرك الخمر والحب والطفولة وما بينها من مشاكسات محببة؟. إن نسيتَ أو تناسيت سأعيد عليك ما قالوه وقاله أخاك اﻷكبر: لا ترحل، ثم أضافوا عليه وبنسيم لغة عذبة، مخافة عليك لا منك: إياك يا ولدي، فقد تهتز الارض من حولك أو من تحتك وتفقد الوصل باﻷصل وبالجذر! لكنك لم تصغِ ولم تلتفت، فَرِحْتِ مولّيا وجهك صوب اللامكان وصوب اللاعودة، وأصبحت في تيه من أمرك، يأتي بك اﻷغراب والريح حيث تشاء، من يدري فكل الإحتملات ممكنة بل لعلها لَوَتْ ذراعيك. وربما صادفتك أسوء المآلات، واعلم إنَّ اﻷحمال الثقيلة لا تُلقى على أي أرضٍ . ولعلك صاحبت مَنْ كان عصيٌ عليك أن تألفهم أو يألفوك، وليس مستبعدأ إن ضاقت بك المصادفات الطيبة وحُسن الأحوال رغم طول المقام هناك. لذا عُدْ الى الجذر والى تلك الشجرة الباسقة وَنَم تحت فيئها فظلالها لا زالت وفية، بإنتظار عاشقيها.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ما فات ذكره هو مفتتح رواية كنت قد فرغت منها منذ فترة، والمكان فيها هو لبُّ الموضوع وهو جوهره. السرد في العمل السردي اﻵنف قد يأتي متداخلا، يُقسِمُ أحياناً ويُشطرُ بعضه بعضا، أو يخترق بعضه بعضا دون إستئذان. وقد تتداخل فيه اﻷيام والحوَلْ، غير اني سأحرص أو قُل حرصتُ على المسك بالتتابع الزمني ما إستطعت. أما إذا فُرضَ علي أو تسَلَّلَ من بين يدي ما هو خارج عن السياق والرغبة، وبما لا يوحي بالتسلسل الزمني للاحداث، فإعلم إنَّ وراء ذلك خلل ما قد حصل، مردّه الغفلة أو سوء الحساب، أو لضرورات اقتضاها النص فدُفعت للِّحاق به لتدارك ما فات من خطل ومن خطأ، لذا حسبتني مرغماً، ملتجئا الى شيئ من (المراوغة)، غير أن الأمل يحذوني أن تبقى الحبكة ويبقى السرد متماسكان، مترابطان.

أحدث المقالات

أحدث المقالات