وسط الإحتدام المفزع ، والإستقطاب الخطير الذي يدور في عالم اليوم ، إستمرارا للعبة الأمم، وتقاسم النفوذ ، وإعادة رسم الخرائط الدولية، والتي تدار كالعادة بمهارة الخبراء ، وتوظف فيها أدوات الحضارة المعاصرة كالعلوم الإنسانية والإجتماعية والدين والتاريخ والجغرافيا ، فضلا عن التقنيات المعاصرة ، لايسع (المثقف) أو من أوتي وعيا يقظا، وحسا إنسانيا، وعلت مواطينيته على (لاوعيه الطائفي) إلا أن يتحصن بقناعات تقيه من ساطور التقسيم وحدود الدم المراد رسمها سواء منها (الطائفية) أو (العشائرية) أم ( المناطقية) فيحاول أن يجد له مكانا ، يتسع له وللآخرين ، عبر مقاربات فكرية ، لأنه لايستطيع التنفس في أقبية الخنادق والقلاع التاريخية ، التي توقظ الأحقاد والثارات ، وتدعو الى هجر الحاضر، بدل ترميمه ، وإحتواء أزماته ، والرجوع الى مغارات التاريخ المظلمة، بدل إستشراف المستقبل، ورسم خرائط الدخول إليه.
يولد الإنسان حرا من أية قيود أو أغلال،ولكن مجتمعه يقولبه بأفكاره ورؤاه، فيبقى يدور في جاذبية مجتمعه الثقافية ،لايستطيع منها فكاكا،ويبقى مستمتعا بقناعاته المريحة التي أخذها من محيطه الإجتماعي،ظانا أنه يحوز الحقيقة الوحيدة المطلقة ، وكل ماسواها في معتقده الفكري ، باطلة بلا شك ، هذه المدخلات العشوائية ، هيأته لأن يكون نواة لشبح قاتل ، يمارس القتل والإقصاء وتغييب الآخرين مرات كثيرة في مخيلته الفكرية ، فأصبح جاهزا للفعل على أرض الواقع.
ومن جانب آخر لا يخفى أن الحمولة التاريخية العراقية الثقلية تضغط على أبناء العصر الحالي ، وتضّيق من خياراتهم ، فأنت ليس لك خيار، ولابد أن تفكر بعقلية القبيلة والطائفة والمنطقة ، وأي طرح يشذ عن هذه الأفكار تعني أن لوثة فكرية ، وصحوة متأخرة قد أصابتك ، وآن لك الرجوع الى الحقيقة الوحيدة مستدلين بوقائع التاريخ ، وشواهد الواقع المعاش لا تخذل أيا من الفريقين، ولسان حالهم يردد :
وما أنا إلا من غزية إن غوت غويت وإن ترشد غزية أرشد
لكن قي المقابل كيف نجحت الشعوب الأوربية ، وبمهارة يحسدون عليها في إدارة ملف تنوع مجتمعاتها الداخلي ، تم ذلك من خلال إنتاج مكون معرفي جديد يعتبر تنوع أصول وأعراق ولغات وديانات ومذاهب وطوائف المجتمع نقطة قوة ، وليس نقطة ضعف يجب القضاء عليها، وتحصين الحس الجمعي العام ضد الأفكار الانقسامية والفتنوية التي يمكن أن تهدد الوحدة الوطنية للمجتمع.
وبعد جهود متنوعة ومضنية تكوّن لديهم حس جماهيري يرفض أي إثارة ، ولو كانت ضعيفة لأي فئة أو طائفة أو عرق أو دين ، بعد أن دفعوا أثمانا باهظة من أجل الحصول على السلم والتعايش المجتمعي ، وهو ما شارك به الفلاسفة والمفكرين والكتاب والحكام حتى شمل عموم النسيج المجتمعي.
أما نحن فلا نزال نلوك تاريخ العصور الخوالي، بل وننقسم ونتنازع عليها ، أما آن لنا أن نتحرر من جروح التاريخ ، ونعمل متكاملين على إزهار الجغرافيا، من خلال طرح برامج إجتماعية وثقافية وإعلامية تعمل على إعادة إنتاج المواطن العراقي المعاصر لكي يرى في مواطنيه أفضل إيجابياتهم ، ويحترمهم ويقدرهم سواء أكانوا زملاء عمل أم جيران ، وفي كل الأحوال هم أبناء وطن واحد بغض النظر عن هوياتهم الفرعية.
آن لنا أن نعيد قراءة الدين والتاريخ برؤى معاصرة،تعزز وحدتنا الوطنية،وتجذر السلم المجتمعي،عبر قراءة عراقية تستوعب كل أبناء الوطن،تتجاوزالتاريخ وصراعات الماضي، لأننا إذا فتحنا خصاماً بين الحاضر والماضي فسنفقد المستقبل.
آن لنا أن نكسر أغلال التاريخ،ونتحرر من أغلاله الثقيلة،لأن(الذين يقعون في أسر التاريخ يولدون وشعرهم أبيض) كما قال نيتشه،وحينها نعيد (لبغداد) دارالسلام سلمها ولعراقنا تعايشه الفريد.
آن لنا أن ننتج ثقافة عراقية، تنبثق عنها سلوكيات حضارية ، تتضمن ثروة معرفية تفكك معاضلنا الفكرية والإجتماعية، وتجيب بسلاسة عن أسئلة المآزق الحضارية الكبرى ، من نحن ، سماتنا ، كيف ننهض معا، عراقيتنا بين تغول الماضي وعواصف العولمة ، فحري بنا أن نعزز عراقيتنا الجامعة لكل أبناء الوطن،من أجل المستقبل الذي لن يتحقق إلا أن نبيه معا، فقناعتنا بعراقيتنا تعني أننا أصبحنا جزء من الحل ، سجّل أنا عراقي.
إضاءة : يجب أن نتعلم كيف نعيش معا كإخوة، أو نهلك جميعا كالحمقى (مارتن لوثر كنج ، زعيم أمريكي من أصول إفريقية1929– 1968).