قبل سنين عشت كغيري من الذين يحاولون تحاشي الحديث عن هذا المكان ( كامب ) وهو ما يطلق على امكنة تجميع اللاجئين .وهو اشبه بمعسكر او مكان لإيواء طالبي اللجوء او القادمون الى اوربا للعيش او الهروب او طلب الامان وبعضهم للتعرف عن قرب على شكسبير وغوته وبتهوفن وغوغل وخنافس البيتلز .وفي هذا الكامب رأيت الشعوب كلها ..من انغولا حتى التبت .ومن قضاء الخالص حتى ليما عاصمة البيرو …ومن حافات المياه حتى حافات جبال الانديز …بشر دون حصر .ثقافات وسلوك حضاري واجتماعي وديني
قادتني الصدفة لاتعرف على رجل من البان كوسوفو …وبصدفه غريبة الرجل متعلم جيدا ويحسن اللغة العربية اذ عمل 10 سنوات في السعودية …وحالما اخبرته اني من المعجبين جدا برواية إيفو اندريش المسومة ( جسر على نهر درينا ) حتى قال لي ان هذه الرواية يكاد يحفظها على ظهر قلب ، لأنها تتحدث عن فترة مهمة لتاريخ بلاده عندما كانت تحت الحكم العثماني .وانهم اسلموا بمجيء الترك .ولايدري ان كان هو من اسلافهم او البانيا ــ سلافيا .ولكنه الان مسلم وهو فخور بذلك .
بليال متعاقبة استفدت من الرجل كثيرا في التعرف على طبيعة الالبان وتأثير العثمنة عليهم .ومن بعض دهشة حديثة تحدث لي كما فعله اندريتش في روايته عن ذكورية الولاة العثمانيين وطموحهم في جعل رغباتهم الخاصة ترتهن بطغراء اختامهم وكانوا يتفاخرون بشيئين قبل كل الاشياء هما ممارسة الجنس وتعذيب ضحاياهم .وعملية الشنق بالخازوق في رواية جسر على نهر درينا شاهد على ذلك ..غير انه تحدث عن حريم الوالي وقال ان سراي الحكومة اكبر اجنحته هي اجنحة الحريم .فمثلا المحمة القضائية والشرعية بقاعة واحدة وبيت الحريم ب30 قاعة ، فالولاة واللاطين يمتلكون هواية يختلفون بها عن هوايات كل سلاطين الارض وهي تجميع النساء .فلقد كان والي البانيا العثماني لديه من الحريم بشتى القوميات والديانات .واعزهن عنه هي عزرايا اليهودية لكن اجملهن كانت هي اليان الشركسية ولكن معزة اليهودية اتيه من انه تأتيه اني شاء …! من يحق لها دلكه في الحمام والوحيدة من سمح لها ببناء كنيست صغير في سراي الحكومة والذي عادة ما يلحق فيه قصر كبير خاص لسكن الوالي . وكانت له ايضا حريما من الشام وارمينا والبلغار وفلورنسا والحبشة ومصر وبلاد الغال والراين واخر من اهديت اليه جارية هندية يقال كما يتندر عليه الالبان انها علمته رقص القرود .
عبارة ( تأتيه أنى يشاء ) قادتني الى ذكريات وتساؤل عن سر هذه الفحولة المتعددة الالوان والانواع لدى سلاطين بني عثمان . هو حتما آت من الطبيعة الجسمانية والبيئية لحياة الترك الجبلية ربما .وربما ان الامتلاك والجاه واللقب الإمبراطوري يمنح للكورة مدى متسع لتفعل اي شيء وكل شيء .مادام السلطان هو الخليفة وامير المؤمنين واقرب الناس الى الله بعد وفاة النبي …كما ساد الاعتقاد في الخطاب السلطاني في تنصيب كل سلطان جديد يخلف سلطانا اخر ذهب بعملية دسم السم او القتل بواسطة مخصي مقرب اليه او خنقه في حمام او قتله بسيف ..!ليعود في الزمن في عام 2005عندما كنت قرب كنيسة ( فيا صوفيا ) في اسطنبول التي حولها محمد الفاتح عند فتح قسطنطينية إلى مَعلمٍ إسلامي وغير الكثير من طبيعة عمرانه وموجوداته يوجد متحف صغير للسجاد العثماني عبر العصور . وهي بناية صغيرة يحرص فيها المسئولين على أن يظل المكان معتماً كي لا يؤثر على تكوين ونسيج السجاد الثمين واغلبه يرتبط بتواريخ معينة منذ أزمنة المغول الأولى وحتى زمن كمال أتاتورك..
يطغي اللون الأحمر على اغلب السجاد المعروض، والكثير منه كان ممزقا ومثقوبا في أمكنة عديدة منه بسبب تقادم الزمن أو لحادثة جرت عليه. كنت أقف أمام كل سجادة وأقارن بين تاريخها المثبت وبين حادثة ما جرت عليها. قالت لي دليلة المعرض : أن بعض السجاد المعروض يرتبط بحوادث هامة في تاريخ الدولة العثمانية .
لحظتها تذكرت ما أخبرتني به الروائية المبدعة لطفية الدليمي وهي تستضيفني في كازينو جميلة بمنطقة الشميساني بعمان في أمسية باردة من إنها تهيئ للعدد الرابع من مجلتها (( هلا )) ملفا حول الأمكنة المعاندة التي يولد فيها هاجس العنف والشهادة والمقاومة ( الزنازين، ربيئة الحرب ، المنفى ، الصحراء اليباب ، الفنادق الرثة ، ليالي الجوع الباردة ، غرف التحقيق ، أرصفة الثمالة ، الحدائق الخاوية ..سرير الوصال بين البشر وغيرها …))
في تلك اللحظة وأنا أقف أمام سجادة تلطخت بأحمر غامق تخيلته في البدء بقايا دم اغتيال وجدت فوقها وما أكثر ما اغتيل من سلاطين أل عثمان فوق سجاجيدهم الوثير أو في سحب بخار الحمامات الشرقية أو في حفلة خليعة ويقدم له الطعام أو الشراب المسموم
قلت وأنا أتخيل سيناريو الحدث المقام فوق السجادة المبرقعة بدم الشهوة والخوف والسلطة والاغتيال : إنني وجدت موضوعتي لهذا الملف ، حيث علي أن اجعل من هذه السجادة مكانا للعناد القائم بين القاتل والقتيل ، بين الشهوة ودافعها العنيف ،بين الشذوذ ومتعته الآتية من هاجس الهيمنة والتفوق والعقد الروحية والنفسية ، وحتما سأتخيل شكل الخنجر أو السيف أو يد الانكشاري أو الجارية أو النديم الذي كلف بقتل السلطان ، وارتسم المشهد أمامي كاملا ومنها ما تخيلته في لحظة المؤانسة السلطانية التي تتم بين السلطان الملتحي وجاريته الشركسية أو الرومية أو الارمنية أو العربية الناعمة ، وافترضت ذلك الإرغام الذي يصيب الشفتين في فصل التقبيل العنيد والقاسي بين الملك ومملوكته ومدى إحساس الألم والخنوع الذي يصيب فم الأنثى فيما السلطان على السجادة يمد ذكورته التعبى بشيء من الفجور والعناد ليثبت سلطانيته فتصير تلك القبلات طقسا من طقوس المبارزة واثبات سطوة الشاذة ، وربما ويصير الأحمر الشفاه التي تضعه الأنثى الشركسية مجرد الهام لإثارة السلطان الشيخ الذي عاد للتو جزعا ومليئا بالشهوة والمتخيلة بعد فصل دموي في معاركه التقليدية مع بلاد فارس او جيش النمسا الرومية .
لهذا تحولت السجادة إلى مكان لحدث تاريخي للحظة شهوة السلطان ولفصل من فصول سعادته التي يفترضها أن لا تتم إلا مع ما يثيره الاحمرار الشفاه والجسد الناعم كزجاج كاس الخمر .
الدليلة الجميلة خلقت مفاجأتها حين ذكرت لي إن البقع الحمراء على السجادة التي اشتغلت بحرفية وزخرفة ونقوش عالية التقنية والجمال ويسجل على مكان صنعها إنها صنعت في أصفهان بتاريخ 1405م وقدمت من الشاه الصفوي هدية إلى السلطان محمد الفاتح بمناسبة إعادته الشرق المسيحي إلى الحاضرة الإسلامية ليست لبقع دم أنما هي بقايا أحمر شفاه . وقالت : كنا نعتقد انه أثار دم لليلة عرس أو جريمة اغتيال لكن التحليل الكيماوي اثبت إن تلك البقع الغامقة إنما هي شيء من مكونات زينة المرأة ، وانه على الأكثر كان من تكوينات الأحمر الشفاه المصنوع في ذلك الوقت .
انقلبت صورة التخيل وتحولت موضوعة الدم والاغتيال أو غشاء بكارة العرس إلى فصل من تقبيل غير منظم كان على الشفتين فيها أن تلامس أرضية السجادة.
فأي تقبيل عنيف هذا كان السلطان يفعله مع خليلته أو واحدة من زوجاته الكثر وحتما كان هناك عناد وان المرأة كانت مقلوبة على بطنها بحيث يلامس فمها جسد السجادة .
لا ادري لماذا هنا وزرقة عيون الأناضولية دليلة المتحف تفتح نافذة أخرى لتخيلي المفترض عن موضوع جديد للمكان المعاند تخيلت كافافيس ثانية وهذا المقطع الساحر من قصيدته :
(( أغنية معسولة
تُقطُرُ من شَفَتَيك ، وأنتََ كِنزٌ من الصَمُغِ المُر ))
تلازمت هذه الصورة مع ما يحدث فوق السجادة وحتما افترضت إن الصمغ المر هو اللون الأحمر المعاند المطبوع بالارتباك متفرق على وسط السجادة وأطرافها وتخيل لي إن ثمة مقاومة عنيفة في لحظة الممارسة القاسية تلك ، كان يبديها هذا الذي صبغ شفتيه بالأحمر مرغماً ، وارتبطت أيضا بما كان يحدث في ذلك الزمان حيث لكافافيس قصائد كثيرة تتمنى عودة البهجة القسطنطينية التي سلبها صاحب السجادة في حصار دام وطويل ، ولهذا تخيلت معاكسا مفترضا لما تمنحه الحسية الذكورية لقصائد كافافيس إن الأحمر الشفاه قد لا يكون مثبتا على شفتي أنثى ..ربما ذكر !
وهذا جائز من خلال قراءة السير الذاتية لتاريخ الإمبراطوريات وخاصة ((الإمبراطوريات الشرقية )) حيث يشاع الغزل بالغلمان ودعابة النديم وكثيرا ما تحول أولئك الندماء أو الغلمان إلى ولاة وسلاطين كما حدث في العهد المملوكي. لهذا خلق لدي مشهد ما يحدث وما حدث فوق السجادة المرسوم بخفاء في بقع الأحمر الشفاه ما تم في الممارستين المفترضة بشكلها الذكوري والأنثوي استعادة ما يريده كافافيس من تلك المباهج ما يثيره هذا الأحمر على شفاه أي كان في قصيدته (( جوليان والأنطاكيون )) ، وعلينا أن نعرف إن أنطاكية اليوم واحدة من الأماكن السياحية والمتبقية من العهد الرومي القديم على الأرض التركية :
(( كيفَ يُمكنُ لهُم أن يتخلوا أبداً عن طريقتهم الجميلةِ في الحَياة
مدى مَلَذاتهم اليَومية، ومسرحِهِم الرائِع
الذي يُحققُ الوَحدةَ بَينَ الفََن ومُيُولِ الجَسَدِ الشِبقِيَة ؟))
لهذا وطوال سيري في أروقة المتحف الضيقة بقيت أتخيل سيناريو ما حدث فوق هذه السجادة المخملية وأنا أدرك جازما إن جميع الذين وقعت نظرتهم على تلك السجادة منذ تعليقها وقفا للمتحف السلطاني وحتى لحظة وقوفي أمامها كانوا يعتقدون إن تلك البقع الحمراء هي أثار دم لاغتيال ما أو لحظة انتفاضة ذكورية في طقس جماع ولأاعتقد إن أحدا تخيل إن تلك البقع المنتشرة بارتباك ومساحات متباعدة ومتقاربة إنما هي بقايا احمر شفاه لشخص لايُعرف جنسه بالتحديد .
بقي هذا الطقس السلطاني العنيف يمثل حافزا لذيذا لدى الآخر المتمتع في المشاهدة أو الممارسة الطقسية وأي كان المقدار الذي يمنحه هذا اللون والمكان والمنثور عليه فان القيمة الإنسانية له تتحد في اعتبارات ما يمكن أن نضع تصوراتنا للحظة التي يكون فيها موجودا وليس بالمحتم أن يكون وجود هذا اللون مثار للشهوة فهو أيضا يغطي مساحة الشفتين بشيء من البراءة وحسن النية ، لان المرأة حتى في عفتها تحتاج لما يثبت إنها جميلة ، وكذلك نرى هذا اللون في مناطق بريئة كثيرة ( الأخت ، زوجة الصديق ، زميلة العمل ، الأنثى العابرة ، والكثير …)..
بين سجادة السلطان وهذا الزمان لم يتغير في الأمر شيء .فربما عقدت العولمة تلك الطقوس والممارسات وصنعت منها تنوعا حضاريا تتعدد جغرافيته وتواريخه لكن مشهده يكاد يكون واحدا حتى لو تتم ممارسه عبر وسائل الاتصال الحديثة وتطور تقنيات الصور والتلفزيون والسينما وما يطلق اليه ( الفن الاباحي ) ..وهو ليس بسمو الفنون المعروفة لكنه صانع ومحفز قوي للشهوة ونوازعها الشاذة خاصة عن الشباب الاميين والذين يعانون من الحرمان والثقافة الجنسية والدينية..