23 ديسمبر، 2024 10:31 ص

في ديسمبر 2012 خصّص “المعهد البابوي في روما” التابع للفاتيكان كتابَه السنوي لمواد منتقاة من مجلة قضايا إسلامية معاصرة، اعترافا بالمهمة التي نهضت بها في تحديث التفكير الديني في ربع القرن الأخير، وبوصفها الدورية الأهم المتخصصة في الأديان باللغة العربية، الرائدة في اقتحام الحقول الممنوعة في التفكير الديني، واجتراح سؤال لاهوتي جديد، والعمل على كشف قصور مناهج النظر والمقولات الموروثة في ذلك التفكير اليوم، وتدشين مناهج للنظر وأدوات بديلة فيه، تواكب إيقاع الحياة الشديدة الغنى والتحوّل والتطور والتركيب.

مع هذا العدد، الذي تواصل فيه مجلةُ “قضايا إسلامية معاصرة” إضاءةَ النقاش حول موضوع “الهرمنيوطيقا والمناهج الجديدة في تفسير النصوص الدينية”، يتجاوز عمرُ المجلة ثمانيةَ عشر عاما، صدر خلالها ستون عددا متخصصا في الإشكاليات الراهنة للتفكير الديني، بوتيرة فصلية، بعضها مزدوج. ولعلّها لا تكشف سراً حين تصارح قراءها، أنها لا تتلقّى دعما أو رعاية من أية سلطة سياسية، أو مرجعية دينية، أو جماعة إسلامية، أو منظمة دولية، أو مؤسسة عربية. كذلك لا تحميها أية حكومة، أو طائفة، أو حزب، أو مجموعة قتالية. فضلا على أنها تفتقر إلى فريق محرّرين، ومكتب تحرير، وميزانية مستقلة. مكتبها هو كمبيوتر محمول يتنقل مع أسفار محرّرها المتواصلة. ميزانيتها ونفقاتها مما تمتلكه عائلةُ التحرير، من دون ريع للمبيع أو سواه. محرّروها عائلة: “إبن وأم وأب”، كلُّ واحد منهم يقطن دولة. يتولّون تحريرها كضرورة يفرضها انهيارُ منظومات القيم والوعي، وتمزّقُ الروح والقلب والعقل في ديارنا، وتهشّمُ مرتكزات الدولة الحديثة في أوطاننا، وتعبيرا عن مسؤوليتهم التاريخية في إعادة بناء الحياة العقلية والروحية والأخلاقية في مجتمعاتنا.

لم يكرّمها العراقُ، موطن انطلاق هذه المطبوعة، مع أنه بهمومه وأسئلته حاضر في جميع تفاصيلها، ورغم أن محرّرها، بعد عودته من منفاه إلى وطنه عام 2003، أوهم القرّاءَ بكتابة اسم “بغداد” على غلافيها الداخلي والخارجي، وكأنها تصدر فيها! تعضيدا للدور الفكري لبغداد المحاصرة.

لكن “الحركة الثقافية بأنطلياس” في لبنان، أدركت ما أنجزته هذه المطبوعة، فكرّمتها بشخص محرّرها، بمنحها درعَها الذهبي في مارس 2013، كذلك بادر د. مشتاق الحلو، وهاجر القحطاني، ومحمَّدحسين الرفاعي، من الجيل الثاني لتلامذة هذه المجلة، فأصدروا كتابا تذكاريا لتكريم محرّرها، بمناسبة بلوغه ستين عاما هذه السنة، تضمن 130 مقالة وشهادة، بأقلام زملائه وتلامذته، بحدود 800 صفحة.

افتُتح هذا العدد بمبادرة للمفكر العراقي الشاب علي المدن، وهو أحد أبرز أبناء هذه التجربة، بكتابة شهادة تتحدث عن موقع قضايا إسلامية معاصرة في مسار محطات تشكيل التفكير الديني في العراق، في المائة عام الأخيرة. كما يضم العددُ ملحقا تحت عنوان “ستون عددا ستون عاما”، تطوّع د. حاج دواق، هو وحلقة نقاشية أكاديمية من أصدقاء المجلة في الجزائر، بإعداد ندوة خاصة بهذه المناسبة. وقدّم الباحث د. فؤاد جابر الزرفي رأيَه بتقييم منجز المجلة، كذلك شارك بشهادته الباحثُ الأردني حسن العمري، ، وهو أحد الشباب من الجيل الثاني لتلامذة قضايا إسلامية معاصرة. وكتب د. مشتاق الحلو ذكرياتِه عن هذه المجلة ومحرِّرِها، بوصفها تعبّر عن قراءة ثالثة للدين، بموازاة قراءة الجماعات الإسلامية والقراءة التقليدية. وننشر في ملحق العدد شهادتين، من خارج هذه التجربة، كتبهما: د. حسن ناظم، ود. علي حاكم صالح، وهما من أبرز المثقفين العراقيين اليوم. تحدثا عن اسهام هذه المجلة وصاحبها في تحديث التفكير الديني.

أدركت قضايا إسلامية معاصرة لحظةَ صدورها، أنّ التفكير الديني في دنيا العرب تحتكره؛ المؤسساتُ الدينية من جهة، والجماعاتُ الإسلامية من جهة أخرى. المؤسّسات الدينية تواصل ترسيخَ التقليد والبناء على ما كان، لا ما ينبغي أن يكون، والجماعات الإسلامية لا تنتمي للتقليد روحا؛ بقدر ما تنتمي إليه شكلا وصورة وشعارا، ذلك أن مؤسّسيها وكتّابها لم يتكرّسوا بتكوين تراثي تقليدي، ولم يتسلحوا بأدوات تمكّنهم من الخوض في حقول الموروث الواسعة المتنوعة. فلا يعرفون شيئا في الغالب عن المعارف العقلية، كالمنطق والفلسفة وعلم  الكلام، ولم يتوغلوا في أصول الفقه ومسالك الفقهاء المتشعبة في الاستنباط الفقهي. أما خبرتهم بالتفسير، فإنها مبسّطة، لا تعدو سوى محفوظات يجري تلقينُها في أدبياتهم. وكلّ ما يتصل بالعرفان والتصوف وميراث الحياة الروحية يخاصمونه، تبعا لمنظّريهم، بلا اطّلاع على مضامينه الخصبة. ويتفننون في ابتكار شعارات تبسيطية تعبوية حالمة، ذات تأثير سحري في تجييش المراهقين والشباب.

جاء صدور هذه الدورية إيذانا بتدشين مسار جديد لتحديث التفكير الديني، كما ستوضح ذلك افتتاحية هذا العدد، يستلهم أفقا يضئ لنا ما ينبغي أن يكون، بدل أن نلبث الى ما لا نهاية فيما كان. أفق لا يدعو لإقصاء الدين، بل يشدّد على أن الدينَ هو منطلق أية عملية للنهوض والتنمية والتحديث في مجتمعاتنا، يكون رأسمالُها ومادتُها المحورية الشخصَ البشري؛ كيفيةَ تربيته وتأهيله روحيا وأخلاقيا، وأن الدين هو المنبع الأساس في بناء حياته الروحية، وتطهير حياته الأخلاقية، وحماية الكائن البشري من الاغتراب الكوني، والقلق الوجودي، والعبثية، واللامعنى.

لقد كان لمجلة قضايا إسلامية معاصرة مقاربتها لمأزق التفكير الديني في عالمنا المعاصر، سعت من خلالها لتجاوز التبسيط، والقطيعة مع حالة الغرق في الماضي وأسيجته المنيعة، فغامرت باجتراح تفسير لا يخشى توظيف معطيات العلوم الإنسانية والمعارف الجديدة في قراءة النصوص الدينية، ولا يمتنع من الإفادة من خبرة فلسفة الدين الحديثة والمعاصرة في الكشف عن جوهر الدين، ونمط التجارب الدينية. وانتقلت بدراسة وتحليل ما يرتبط بالدين وتعبيراته في الحياة من الآيديولوجيا الى الإبستمولوجيا، فلم تدرس الدينَ بعقلية لاهوتية، ولم تنقد علمَ الكلام بعقلية كلامية. واهتمت بالكشف عن المهمة المحورية للدين في إرواء الظمأ الأنطولوجي للكائن البشري، وحرصت على ضرورة عودة الدين الى حقله  الأنطولوجي، بعد أن رحّلته الجماعاتُ الإسلامية الى الآيديولوجيا، وحوّلته الى وقود يحترق في عربة السياسة، وزجّته في الدولة؛ فأفشلت الدولةَ، وأمرضت الدينَ، وأفسدت رسالتَه. ولم تدرك هذه الجماعات أن الدولة ظاهرة بشرية؛ أنتجها العقلُ وتراكمُ الخبرة، كما تدلّل الوثائقُ التاريخية، إذ هي تجمع على أن نشوء الدولة سببه تعقيد الحياة الاجتماعية، وصراعات القوة والنفوذ بين البشر، وحاجاتهم إلى أسلوب للتنظيم والإدارة، ولا علاقة لذلك بالأنبياء. وبعبارة أخرى: إن البشر لم يتعرفوا على الدولة من خلال الأنبياء، كما هو الحال مثلاً مع مفهوم التوحيد، وإنما ظهر الأنبياءُ داخلَ الدولة وضمنَها. وسياق الآيات القرآنية واضح بشأن هذه القضية؛ إذ طالما أعلن الأنبياءُ دعواتِهم داخلَ التجمعات الحضرية، بعد أن عرِفت الدولة وعاشت في ظل الأنظمة السياسية.

لم تلبث مجلة قضايا اسلامية معاصرة في مرحلة النقد والتفكيك، وانما انتقلت الى مرحلة البناء والتركيب، فمثلا عبرت من علم الكلام القديم الى علم الكلام الجديد وفلسفة الدين، ومن أصول الفقه الى علوم التأويل والهرمنيوطيقا وفلسفة الفقه..وهكذا.

 ولم تترقب أسئلة يطرحها الآخر لتجيب عنها، مثلما كان يفعل المتكلمون، بل بادرت هي لصياغة أسئلتها الجديدة وغير المألوفة في حقل الدراسات الدينية في الحواضر التقليدية. كذلك لم تنشغل بأسئلة الفكر العربي المكررة منذ ما يُعرف بعصر النهضة، ولم تستأنف الإجابات المتداولة عنها، ببيان وشرح مختلف، وانما اجترحت إجاباتها الخاصة. إجابات ابتعدت عن الذرائعية والإنتقائية، وحاولت أن تحلّل المعرفة الدينية في ضوء التجربة التاريخية للاجتماع الإسلامي، وسياقات هذه التجربة الاجتماعية والثقافية والسياسية والاقتصادية، وتدرس هذه المعرفة بوصفها جزءاً من التاريخ، وليست خارج مجال التاريخ، وكأنها عابرة للواقع وللزمان وللمكان.