8 أبريل، 2024 11:21 م
Search
Close this search box.

ستوديو جليل.. نص مفتوح جدا

Facebook
Twitter
LinkedIn

ستوديو جليل هو ذاكرة مدينة (الثورة) . سجلت عدسته أبرز  الوجوه والحوادث التي شهدتها المدينة  . من هنا جرني أليه  وصار مزارا ألجأ اليه بين الحين والآخر  . وفي زيارتي الاخيرة للعراق كنت حريصا على اطلاع  ( خضر قلي ) شريك المنفى و الصديق لماتبقى من العمر على هذا الكنز  فقد صادف سفرنا سوية . سحبت خضر من مدينته (كربلاء )  الى الستوديو ودخلنا الى تاريخ (الثورة)  من منفذ لايمر عبر نقاط التفتيش ورحنا نغوص في  تفاصيل تلك الوجوه والحوادث الغابرة  .
….
قبل سنوات طويلة صعد  جليل الى أعلى قمة في المدينة  وهو خزان الماء التابع لبلدية العاصمة  , ركب عدسة  مكبرة (زوم ) والتقط صور لمدينة ( الثورة)  بشوارعها ودرابينها وساحاتها وسوقها وسطوحها . نزل الى الارض وهو يحمل مفاجأة . وحين توفي  والده ذهبنا جميعا لنودعه . وجدناه  حاملا كاميرته  مشغولا بتسجيل تفاصيل ذلك اليوم . يعرف جليل بالغريزة انه الشخص الوحيد الذي ينبغي ان يظل يقظا . لاينسى دوره في اصعب الظروف .  ترك اخوته يحملون النعش  تراجع الى الوراء وراح يلتقط لهم صورة وهم في ذروة الفاجعة  . وقبل ان تنطلق السيارة التي تحمل نعش أبيه وقف فوق سطحها  والتقط صورة للمشيعين . حمل جليل كاميرته وركب في مؤخرة السيارة .أزاح الستارة عن النافذة  وراح يصور جميع الوجوه والأيادي التي تلوح لأبيه وهو في طريقه الى مثواه  الأخير في  النجف  . حين انتهينا من الدفن التقط  جليل  لنا  صورا عديدة ثم تركنا  ليصعد على مرتفع في وادي السلام  ويلتقط صورة  شاملة للمقبرة .  وحين ظهرت الصورة وضعها جليل ملاصقة لصورة مدينة (الثورة ) .  كان الدكتور (سلمان كيوش) أول من رأى هذه التوليفة  وانتبه الى المفاجأة  . اقشعر بدنه  فقد وجد تطابقا غريبا بين المدينة و مقبرة وادي السلام في النجف .
….
صور عديدة لمقهى (ابو عكش)  ورواده , صورة لفيصل البيضاني وهو يحمل هرما من اقداح الشاي ليوزعها على الجالسين  . صورة لحلقة المقامرين  والعاطلين وأشهر الهاربين من الجيش وصور المطاردين لهم ( الانضباطية )   . وصورة ل (عليوي السري) مسؤول الرصد والتبليغ عن غارات الشرطة  او الانضباط العسكري  .

صورة لحميد مزبان اشهر هارب ( فرار) من العسكرية في مدينة (الثورة) وربما في العالم اجمع . يسمونه (صديق الريس) وهو لقب يطلق في المدينة على كل من يهرب من الحرب ثلاث معارك فما فوق  . اهمية الصورة تكمن في انها الصورة الوحيدة التي يظهر فيها حميد بالملابس العسكرية . تطوع حميد للجيش في عام 1975 . بعد ان انهى  الدورة التدريبية في معسكر المحاويل  ارسل الى الشمال لمحاربة البيشمركة الكرد . بعد 28 يوما  هرب ولم يلتحق بوحدته  حتى عام 1980 . في الحروب الثلاثة  التي وقعت بين 1980 – 2003  جمع المراقبون خدمته  فكانت 62 يوما . وبذلك تكون مدة  خدمته من 1975 –  2003 هي 90 يوما . بقي حميد هاربا حتى  دخول الجيش الأمريكي بغداد وتعيين بول بريمر حاكما مدنيا على العراق  . بعد ان تأكد  حميد تماما ان الجيش العراقي قد حل ولم يعد له وجود  ركب تكسي وذهب لمقابلة  بول بريمر حاملا معه دفتر الخدمة ,   و سجل ( الكنية ) ,  وجدول الضبط  ,ومجالس الغياب العسكرية  . ولكي يفهم السيد بريمر ما يقوله احضر مترجمين الاول من لغة (الثورة) الى العربية والثاني من العربية الى الانجليزية  وحضر من مجلس الحكم المؤقت السيد ابراهيم الجعفري . حسب بريمر معه مدة هروبه فوجدوها 27 عاما  منقوص منها 90 يوما  اي ( 26 عاما وتسعة شهور بالتمام والكمال  )  . اعتبرت له خدمة مضاعفة لأغراض التقاعد والعلاوة . ومنح رتبة كولونيل شرفية .
…..
صورة لوجه (ابو ربيحة) الأعمى تقوده أبنته , وهو المخرج والمنتج للعرض المسرحي السنوي لواقعة كربلاء (التشابيه) في عاشوراء  . وصور متفرقة  لأنصار الحسين وعياله . وصور لقادة جيش عبيد الله بن زياد .
….
يحتفظ جليل بصور لأقدم مؤسسة رياضية في الحي وهو فريق الكرة . نعثر على صورة نادرة ل(هاني حسن الرماحي) مؤسس الفريق والى جانبه مساعده (خضير طابور) . صورة للتشكيلة الذهبية التي هزمت الكرخ واحرزت كأس السفن آب .  صور متفرقة للاعبي الفريق منذ تأسيسه  : الأخوين كاظم وحسن شنشول , الأخوين حنون وفاضل مشكور , الأخوين  طارق وحسن حنيص , هاشم ابو العضلات  , الاخوين حياوي و شاوي , الاخوين راضي و خضير حسن ( اولاد ابو راضي  صاحب الباص الخشب ) , كاظم وعل , حسين لعيبي , مهدي جاسم , وحيد حسن ,  فرحان مهدي ,  حسين جبر , شلاكة , نعيم ابو زلوف ,  وعبدالنبي رزيج  .
صور  من زوايا مختلفة لباص الخشب ( باص ابو راضي ) وهي تحمل الفريق وجمهوره الذاهب لخوض المباراة  الحاسمة مع  الكرخ  على كأس السفن آب .  صور جليل اللحظات الهامة في المباراة .  لم تنته المباراة بصافرة الحكم بل بمسدس درعم ابن راهي . كان فريق (الثورة ) متقدما على الكرخ  3-1  ولم يبق الا عشر دقائق . المعروف ان الكرخيين اذا خسروا مباراة بكرة القدم فانهم يحاولون ان يكسبوها بالأيدي . وقد تحقق لهم ذلك  حينما رفس احدهم الحارس (شلاكة)  فاغمي عليه وحدث الاشتباك بالايدي  . هجم جمهور الكرخ علينا  وكادوا أن يسيروا على بطوننا  ويهزمونا 11- صفر  لولا الاطلاقات النارية  السبعة لدرعم  في الهواء . تبخر جمهور الكرخ  خلال ثوان فوجدنا فرصة للهرب والنجاة بجلودنا .

يحتفظ جليل بصورة لأقدم شيوعي في الثورة وهو فرحان نجم  ( ابو لينا  ) الذي لم يعد له وجود , هرب الى اليمن اثناء الحملة على الشيوعيين  عام  1978 وضاعت اخباره  . في الصورة يظهر ابو لينا  مبتسما , يرقص رقصة (البلالايكا) الروسية وهو يرتدي معطف (ليونيد بريجنيف) الذي وصل اخيرا الى سوق الملابس المستعملة (اللنكة)  في الباب الشرقي . لقد انتظر ابو لينا  هذا المعطف سنينا طويلة , وحين وصل فان اول شئ فعله هو أرتدائه و التقاط صورة في ستوديو جليل .

صورة لمفوض الشرطة  (جبار كنيكر)  الذي يقترن اسمه بمحاربة الظواهر الجديدة . الحق يقال انه كشرطي لم يكن غير منفذ للاوامر الصادرة من محافظ بغداد الحاج خيرالله طلفاح  . صعد نجم كنيكر مع انتشار ظاهرة الزلوف التي  فجرها الفيس برسلي . كان كنيكر يدور بمقصه في الشوارع يرافقه شرطيان , ثم انتقل الى مداهمة المقاهي وساحات الكرة . اول ضحية له كانت (نعيم أبو زلوف ) . حين اقترب كنيكر هرب جميع الشبان ماعدا  نعيم ,  ظل واقفا في مكانه يحتضن كتاب التاريخ وقد انتهى قبل قليل من حفظ قصة  عبدالله ابن الزبير  حين مر به عمر بن الخطاب وهو يلعب ففر الصبيان ووقف هو فقال له عمر : مالك لم تفر معهم ؟  فقال ابن الزبير : لم اجرم فأخافك ولم تكن الطريق ضيقة فإوسع لك   .
  لم يتحرك نعيم من  مكانه فسأله المفوض ( لماذا لم تهرب ؟ ) أجاب نعيم : ( لم أجرم لأخافك ولم تكن الطريق ضيقة فاوسع لك ) فقال له المفوض : ولكن عندك زلوف يانعيم  ؟ .  عندئذ طأطأ نعيم رأسه وسلم زلفيه بكل طواعية الى ممثل الشرطة المحلية . بتره كنيكر من الجانبين ووضع الزلفين في كفه . اوصاه ان ينقعهم ويشرب  ماءهم  .
لكن الزلوف لم تعمر طويلا اذ سرعان ما ظهرت فرقة البيتلز ( الخنافس) وجلب ظهورها موضة الشعر الطويل الذي يغطي الاذنين والجبين , ويجعل من الصعب التفريق بين البنت والولد . يحتفظ جليل بصور عديدة لطلبة المدارس الذين تلاقفوا الظاهرة وقلدوها على الفور . كان منظر الخنافس استفزازيا للحاج خيرالله طلفاح  فخرج بنفسه الى الشوارع ودخل الجامعات لحز الرؤوس . في الثورة احتاج كنيكر الى مقص أكبر  مع آلة للشحذ ( مبراة)   وعدد اكبر من أفراد الشرطة  لبتر هذه الظاهرة .

صور اسواق المدينة   بكافة اكواخها وصرائفها وذبابها أيضا  : بائعات الخضار من ام غايب الى ام نورية . صورة لجسومة ام السمك  وابوعبد القماش  , ابو صباح الكببجي , حسين ابو العمبة , دهش ابو البايسكلات  , مكوى الازبكي , وزكية ام التمر  , وعربة فاهم الجميلي ابو الشربت , دكان جمعية ام قاسم  , ام مطر بائعة العظام  الى جانب سلتها المكشوفة ومقشة الذباب بيدها  . عباس الحلاق .
….
صور لنا جليل  نائب ضابط عبدالله ( ابو نجم )  رئيس عرفاء الأعاشة لمعسكر الرشيد  واقفا يحمل عصا للتبختر في مركز المدينة  الى جانب سيارة (الأيفا ) العسكرية   حيث يشرف على  توزيع صمون الجيش على فقراء المدينة  . منذ عشرة أعوام  يقوم ابو نجم بهذا العمل التطوعي في نهاية كل أسبوع  وبشكل دقيق ومنتظم  يليق بوظيفته . يجمع مايتبقى من صمون الجيش في جميع وحدات معسكر الرشيد وينقله الى  جياع المدينة بدل رميه في المزابل  .

صورة لخالدية  ( العراكة  ) وبناتها , وصور للفاترينة التي تحتفظ فيها بفوط  ( أغطية الرأس ) وعباءات  النساء اللواتي هزمن علي يدها .

  صورة لجبار موحي  في  عرسه الذي سكر أكثر من اللازم  فحمل بين ذراعيه مغنية الحفل   الغجرية الحسناء (شكرية خليل)  و راح يطوف بها على الحاضرين . ثم هرول بها الى البيت  وكان على وشك ان يصعد بها الى سرير العرس  لولا صراخ أخوات العروسة  وتوسلات أخوته   .
….
 صورة للمطرب  سيد محمد  النوري في مقهى ابو عكش .
 صورة  للاشقياء الثلاث : كاظم ابو الفدوة , وعمار ابو الخيو  , و طالب ابو فانوس (تم تصفيتهم لاحقا على يد جهاز حنين) .  صورة  لعصابة حافات المياه .
 صورة للحشاش (مشاي عودة )  أثناء صعوده الى السماء على متن سحابة من الدخان الابيض  تخرج من أنفه .
….
وهنالك صورة لقدور عاشوراء يخوط فيها أربعة من شبان المدينة . الملفت للنظر في هذه الصورة انهم جميعا  وقعوا اسرى خلال الحرب  مع أيران وهم : علي شناوة , وهاشم ابو العضلات , وسيد باقر الياسري ,  و قاسم نجم  .

صورة تجمع الهيبيين الثلاث  محمد ديجان , وصباح ابو الكراتيه ,  وكريم جرموزة . يظهر الثلاثة برؤوس حليقة (نمرة صفر) وسروايل وبلوزات طويلة وفضفاضة , اساور وخيوط  وشرائط حول المعصم وقلائد من فضة وبقول وشفرات حلاقة تتدلى من الأعناق وسلاسل تخرج من فتحات عديدة في الملابس  . الثلاثة لم يعد لهم وجود . من كراج علاوي الحلة استقلوا الحافلة  الذاهبة الى اسطنبول ( شركة نقليات الاقتصاد عبر الصحراء) .  السعر عشرة دنانير . الانطلاق من الكرخ مقابل بناية المتحف العراقي  . ومن اسطنبول ركبوا قاربا الى اليونان وانقطعت أخبارهم   .

وقف جليل فوق أحدى السطوح وسجل  بعدسته ذروة الاشتباك في عركة بيت راهي مع المعدان  حيث يبدو منظر العصي والدماء و الفزع في العيون . يظهر في الصورة  ميدان الرجال باللون الابيض  , وميدان النساء باللون الأسود .

اصيب سبتي ( خال راضي حسن ) بداء الثعلب فسقط نصف شاربه . فاستعان بيشماغ ( غترة ) ليغطي وجهه بحيث لا يظهر منه سوى العينين فقط ,  فأصبح منظره أشبه بقاطع طريق  . طلب من جليل ان يلتقط له صورة ليرسلها بالبريد الى طبيب جلدية اجنبي في بيروت .
جليل  : ((كيف التقط لك صورة يا سبتي وانت بهذا النقاب . كيف يراك الطبيب ؟ ))
سبتي  : (( اكتب له على الصورة انني لا أجرؤ ان انظر في وجهي , قل له انني أسير في الشوارع هكذا ,  أكتب له انني  لم اعد أتكلم , وانتظر لقبا يضاف الى أسمي   , أكتب له يا جليل ))
   صرف سبتي الكثير من المال على الاطباء لأستعادة شاربه دون جدوى . في النهاية لجأ الى سيد عاتي السحار الذي نصحه بقتل جرذ وتجفيفة  ثم طحنه وخلطه بالزيت ودهن  المنطقة المعطوبة . بعد أسبوعين  من دهن الجرذ المهروس استعاد سبتي شاربه . واول شيء فعله هو رمي الغترة في الهواء و تسجيل لقطة فوتوغرافية في ستوديو جليل لأسعد لحظة في حياته  .

ألتقطت عدسة جليل  صورة موحدة لأشهر مجنونين طليقين  في المدينة وهما  (ملوز)  و (موات)  بتشديد الواو في كليهما  .

لم يفلت  من عدسة جليل أكبرعرس عاشته المدينة وهو عرس بيت  دواي  .  صورة ل (خصاف العبد ) وهو يضيء العرس بكتفيه . مسك (أبن منديل ) طبلته الصغيرة بحجم راحة اليد ( الزنبور ) . أطفئت جميع مصابيح العرس وتم ربط كتفي  خصاف بسلكين نحاسيين الى مصباح كهربائي  . بدأ ابن منديل يدق على زنبوره فراح خصاف يرجف كتفيه . شارك الحاضرون بصيحات الحماس وتعالى التصفيق فاشتد الرجف حتى أشتعل المصباح واضاء دائرة العرس . تصاعدت نشوة خصاف ودخل في سكر غامض فراح يصعد وينزل  ويتحكم  بالظلام وبالضياء في العرس . وصورة لفرقة الغجر ( حمدية وبناتها )  . وصورة  ل (فليفل )  وهو يكسر طبلة الفخار برأسه  , وصورة ل ( بوسي )  بعد ان شرب زجاجة  خمر (عرق) كاملة  وهو يسير على الصراط المستقيم ( جدار السطوح   المبني  من طابوقة واحدة ) , وصورة مؤلمة وتهز الوجدان ل ( فخري الجابي  ) مطرب مصلحة نقل الركاب  في لحظة انهيار شرفة  بيت دواي المزدحمة بالنساء .  عنصر المأساة هنا لايتمثل في كسر عظم الترقوة للمطرب  ولكن ضياع الفرصة الوحيدة التي سمح له فيها بالغناء في عرس . كان فخري يعمل محصل ( جابي ) على خط (97) الذي يربط الثورة بباب المعظم  وكان لثلاثين عاما يغني في الحافلة فقط , لا يتوقف الا عند توقف الباص وصعود الركاب ثم يستأنف الغناء في الفترة الفاصلة  بين محطتين  , مطلقا العنان لصوته رغم أنف الركاب .

مقالات اخري للكاتب

أخر الاخبار

كتابات الثقافية

عطر الكتب