من خلال مشاهدتي لأستوديو التاسعة البرنامج الموضوعي والذي شخص أمور عديدة، وبعديا عن أي صبغة سياسية قد يتم تأويلها، كوني كنت وكيل للبغدادية في عدة دعاوى ولأكثر من سنتين ورئيس غرفة المحامين في المحكمة الجنائية المركزية لاكثر من ست سنوات، وتذكيرا بما يطلبه الإعلامي القدير أنور الحمداني بصدد صمت جهاز الادعاء العام، نقول:
ان الادعاء العام طبقاً للقانون العراقي رقم 159 لسنة 1979وتعديله (رقم 10 لسنة 2006) يتولى حماية نظام الدولة وأمنها ومؤسساتها، والحرص على الديمقراطية والمصالح العليا للشعب، والحفاظ على المال العام من الهدر والتبذير والفساد، وكذلك دعم النظام الديمقراطي الاتحادي وحماية اسسه ومفاهيمه.
اذن لمثل هذه الوظائف الخطيرة وجد هذا الجهاز الحيوي، وفي بلد مثل العراق، اعيد بناء مؤسسات الدولة الانتقالية فيه بشكل عشوائي وغير مدروس في غير القليل من المجالات، وتورمت هياكل ومؤسسات الدولة بشكل لا مثيل له، أكثر من خمسة ملايين موظف، وصاحبه عجز شامل في اداء الواجبات الاولية، على صعيد الامن والخدمات وغيرها.
كما ان الفساد يصول ويجول بين ردهات الدولة وحقولها الاكثر جاذبية، وعدم الاستقرار وهشاشة الامن، وسطوة وهيمنة المجموعات الارهابية وعصابات القتل المنظم المتسللة الى أخطر المرافق الحيوية في الدولة والمجتمع. كل هذه الانتهاكات والجرائم الخطيرة ولم نسمع يوماً عن صولة مضادة ولو خجولة لهذا الجهاز المكلف بالدفاع عن المصلحة العامة لمكونات هذا الوطن المنكوب بفقدانه للدولة والقانون.
كذلك لم نسمع عن جهاز الادعاء العام قد تحرك ضد من يثير النعرات العنصرية والفتن الطائفية التي تؤثر على النسيج الاجتماعي، وعلى التعايش السلمي بين المواطنين، لأن الدولة ضامنة لحق الأمن والسلم الأهلي.
ان هذا الانزواء أو الغموض لدور جهاز الادعاء العام، يدعو للتساؤل عن اسباب عجزه في النهوض بوظائفه الخطيرة في الدفاع عن المصلحة العليا للمجتمع، والاسس التي تشيد على اركانها الدولة الديمقراطية المنشودة.
ان تفعيل دور هذا الجهاز الحيوي وفي هذا الظرف الاستثنائي الذي يمر به العراق، يعد من أهم المهمات التي يتوجب على مجلس القضاء الأعلى وقبلها الدولة العراقية انجازها لأهمية الدور الحاسم لهذا الجهاز ومنتسبيه في حماية أمن وحقوق واموال شعبه من العدوان والانتهاك بوصفه الوكيل القانوني لهم.
ان اهم واجب ألقي على عاتق الادعاء العام وقد تنصل منه، هو مراقبة المشروعية أي مشروعية أي عمل تقوم به الدولة فهو من واجبه ان يحاسب أي محافظ او وزير او قائم مقام او عميد جامعة او أي مدير إذا أصدر قرارا إداريا يضر بمصالح منتسبيه او المواطنين، ويحق له التصدي له وايقافه بموجب قانونه، لكنه سكت عن ذلك؛ مما أدى الى فوضى إدارية وقانونية بجميع مفاصل الدولة العراقية.
إن السكوت والتستر في أحيان اخرى من قبل الادعاء العام، أديا إلى استمرار تطاول ((أبطال)) التعذيب وتفننهم في أنواع التعذيب الوحشي ضد المعتقلين، لغايات لا صلة لها باتهامات قانونية واقعية، بل بوقائع مفبركة أو بقصد الابتزاز أو التصفيات السياسية او بهدف الانتقام الطائفي وغيره.
كما أن عمليات الاحتجاز العشوائي التعسفي للمواطنين الابرياء وعدم إطلاق سراحهم إلا بعد دفع المبالغ الطائلة، لمحتجزيهم، مازالت تشكل حالة موصوفة ومستمرة، كما أن فناني الابتزاز والتعذيب باتوا يتفننون في أساليب الابتزاز وصاروا يستخدمون اسلوب الاستعانة بمحامين (لا يمثلون شرف المهنة ولا يصلحون لأداء دور المحامي الشريف) في جعلهم وسطاء مع عوائل المحتجزين من أجل دفع المبالغ التي يطلبها أبطال الابتزاز والتعذيب، ويحتفظ الشارع العراقي بالكثير من القصص المأساوية عن مثل هذه الحالات، التي تسئ إلى سمعة الأجهزة الأمنية والقضائية والمحاماة التي يفترض بها أنها تشكل مثلث العدالة في البلاد.
اين جهاز الادعاء العام من نشر اعترافات غالبيتها منتزعة تحت التعذيب والقهر، وبأساليب نعرفها ويعرفها العراقيون ولأغراض سياسية وتصفية حسابات بين السياسيين وهذا الأمر يضر بالأمن الاجتماعي في بلد منتهك منخور بالإرهاب والفتنة الطائفية والشحن الطائفي، ولن تزيد الواقع العراقي إلا تمزيقاً وتخريباً.
ان أداء جهاز الادعاء العام الذي يراقب المشروعية في كافة مفاصل الدولة مخجل في أحيان كثيرة، فبدلا من السعي الى تحقيق العدالة وتطبيق احكام الدستور والقوانين بحيادية والتصدي لقضايا الفساد واستقلالية واحتواء الازمات والصراعات الطائفية والعرقية، فان موقفه في بعض الأحيان متفرجا على الاحداث والماسي، ومتغاضي عمدا في أحيان أخرى ازاء الجرائم المرتكبة بالرغم من كونها جرائم جنايات خطيرة وجرائم قتل جماعي ، تحتم على القضاء والادعاء العام من اتخاذ التعقيبات القانونية بحق مرتكبيها تحقيقا للعدالة والاستقرار وتطمينا للمواطن العراقي.
المشكلة الكبرى التي تواجه المدعي العام هو القسم الذي نصت عليه المادة 42 المعدلة من قانون الادعاء العام العراقي رقم 159 لسنة 1979: اقسم بالله العظيم ان أقوم بأعمال وظيفتي على أحسن وجه…. يا ترى:
هل قام المدعي العام بأعمال وظيفته على أحسن وجه؟ ماذا عن المادة الأولى المعطلة؟ متى يقوم بها؟ حتى لو على أسوء وجه. أم ان لا وجود لخرق او تجاوز على النظام حتى يتدخل المدعي العام؟ ثم ان جهاز الادعاء العام قد تنازل عن أهم وظيفة من وظائفه المتمثلة بالحفاظ على أموال الدولة وكما نصت عليه المادة 1 قد تخلى عنها الجهاز لصالح جهات أخرى كدائرة المفتش العام وهيئة النزاهة، وهذا ما يعد بحد ذاته حنثا باليمين، فهل سمعنا يوما بأن الادعاء العام قد تدخل في قضية فساد إداري؟ هل أسهم حقا بالحفاظ على المال العام؟ هل أسهم بتحصين القرارات الإدارية من التجاوز على المشروعية؟ هل أوقف التعذيب في المواقف والمراكز التحقيقية؟ هل شهدت الساحة السياسية ردة فعل من قبل الادعاء العام على جرائم الفساد المالي والإداري والخروقات والانتهاكات اليومية للنظام الديمقراطي والدستور؟ هل تكلم الادعاء العام يوما عن أشخاص ومسؤولين يخرقون الدستور عبر أقوالهم وأفعالهم؟ هل تجاوز المدعي العام بعمله عتبة المحكمة يوما؟ حسناً ماذا لو قام رئيس السلطة القضائية يوما بالتجاوز على القانون او لم يحترم تطبيق القانون ولا المشروعية فماذا سيفعل المدعي العام؟ هل سيطلب اتخاذ الإجراءات القانونية بحق رئيسه؟ وهل سيسمح له بذلك؟
والاسئلة كثيرة.
والمثير للاستغراب ان هيئة النزاهة الموقرة تحرك شكاوى على مواطنين على اخبارات من خلال الانترنيت وقد حدث معي انا كاتب المقال ولا تحرك شكاوى على تصريحات لمسؤولين كبار تؤشر على قضايا فساد كبيرة وسرقات للمال العام، ولا تحرك شكاوى على قضايا فساد وجرائم يعرضها برنامج ستوديو التاسعة بكل جرأة وبحيادية مقبولة ويدخل ضمن اختصاصاتها التي نظمها قانون رقم 30 لسنة 2011 وقبلها الامر 55 لسنة 2004 ان هذا الصمت والله يشكل جريمة يجب على البرلمان إقامة دعوى في المحكمة الاتحادية على جهاز الادعاء العام وهيئة النزاهة لا خلالهما بصلب واجبهم وتسببهم بارتكاب جرائم فساد كبيرة وجرائم قتل جماعي .
سئلت أحد كبار القضاة المعروف بكفاءته ونزاهته عن واقع القضاء العراقي وبالذات جهاز الادعاء العام، في ظل الاحتلال والتسلط الفردي على هذه المؤسسة الحيوية، وكان رده (الصمت المطبق)، وعندما كررت عليه السؤال، قال لي (امتنع عن الإجابة). هذا هو الواقع الذي يمر به العراق ومؤسساته وسلطته القضائية! قاضي له خدمة قضائية بحدود الثلاثين سنة، لا يجرأ ان يعطي رأيه بالواقع المأساوي للقضاء، فكيف يستطيع هذا القاضي وغيره، ان يحقق العدالة؟
اقول: هل ان تحرك الادعاء العام (متأخر جدا بعد أكثر من سنة ونصف) بشأن خلو منصب رئيس الجمهورية أفضل من فتح شكاوى بصدد جرائم قتل جماعي (سبايكر والصقلاوية والحويجة ومسجد مصعب بن عمير وغيرها) او قضايا فساد كبرى امتلأت بها شاشات الفضائيات وتقارير دولية من منظمات دولية رصينة؟
إن مجلس القضاء الأعلى في العراق بجميع قضاته الشرفاء أمام تحدٍ تاريخي خطير، يمس استقلاليته ونزاهته وتاريخه المجيد، وان الكادر القضائي العراقي يمر بامتحان عسير، يجب عليه أن يتجاوزه بشجاعة، ويكون عادلا في قراراته لا يخضع لابتزاز السلطة التنفيذية ولا لسطوة حزب أو كتلة سياسية، ولا يخضع لرأي عام متهور تصنعه الفبركات الاعلامية ذات الغايات المشبوهة، ويجب ان يكون القضاء العراقي كما عرفناه حياديا ومنصفا وشجاعا.
وما زال الناس يستفسرون عن عشرات بل مئات جرائم الفساد المالي والإداري والجرائم الفظيعة التي وقعت ولكن ما زالت مجهولة لأنها قيدت ضد مجهول0
هذا هو سبب ما نسمعه من كلام يمس القضاء العراقي وهيبته وتاريخه العريق والتضحيات التي قدمها من خيرة رجاله من القضاة والادعاء العام ومنهم من قدم اعز ما لديه وهو أحد افراد عائلته.
إنكم يا مجلس القضاء أمام امتحان عسير لتثبتوا مبدئيتكم وحياديتكم والتزامكم بالدستور وابتعادكم عن شبهة الخضوع لإملاءات السلطة التنفيذية والقوى السياسية. فأنتم مسؤولون أمام الله، وأمام الشعب، وأمام القانون، وأمام ضمائركم…. فاتقوا الله في الوطن.