18 ديسمبر، 2024 9:17 م

ربما لا يفكر العراقيون الآن إلا بالخلاص من داعش، ولا يتمنون إلا بإزالتها من الخارطة. فهي بالنسبة إليهم الكابوس الذي قلب حياتهم إلى جحيم، وحول مدنهم إلى خرائب، وحملهم على النزوح في الفيافي والقفار.
مثل هذا التفكير عملي جداً، ويؤدي الغرض منه بسرعة. فليس ثمة أولوية تتقدم على دحر العدو أو تحرير المدن. ولكنه – أي هذا التفكير – لا يستطيع أن يمنع تكرار هذه الكوارث مرة أخرى. وقد دخلت داعش بعد ستة أعوام من هزيمة القاعدة في صحراء الأنبار وأطراف بغداد. والاثنتان لا تختلفان إلا بالاسم كما لا يخفى.
ومن المؤكد أن الفكر السلفي الذي أنتج هذه المسميات مايزال يعيش في عقول الآلاف من المريدين، رغم ما أصيب به من نكسات. وإذا ما أتيحت له الفرصة مرة ثالثة، فسيطل بعنقه من جديد، ويعيد الكرة في المدن الغربية.
ولأن قدرة الدول على خوض حروب طاحنة لا يمكن أن تتجدد كل ستة أعوام، ولأن عودة المتطوعين لمنازلة العدو لن تكون متيسرة في كل مرة، فإن الواجب يقتضي التفكير في ستراتيجية أمنية تمنع تكرار هذه المأساة إلى الأبد، وتجعل أرض العراق عصية على الاختراق مهما كانت الأسباب.
ولا يقتصر التفكير في هذه الستراتيجية على أبناء الجنوب الذين تحملوا العبء الأكبر في القضاء على هذه الظاهرة البشعة، بل إن الجميع، حتى أولئك الذين نأوا بأنفسهم عنها، ملزمون بالتفكير في حل ناجع، يتيح لهم العيش الآمن في أرض الأجداد.
إن بقاء العراق مقسماً إلى ثلاث مجموعات رئيسية تتصارع في ما بينها على النفوذ والثروات، هو النافذة المشرعة التي دخل منها البرابرة إلى العراق. ولا بد من إغلاق هذه النافذة حتى لا تتكرر المأساة من جديد.
وأول ما يجب التفكير بشأنه هو إدماج هذه المكونات في مكون واحد لا غير. وعدم السماح بظهور مكون جديد تحت أي عنوان. وفي تجربة الشاه اسماعيل الصفوي الغنية الكثير مما يمكن الاهتداء به في هذا المجال. فقد قام بتوحيد إيران التي كانت منقسمة إلى مجموعات مذهبية وعرقية كثيرة في مجموعة واحدة، مانعاً اقتسامها من قبل الدول العظمى، محتفظاً بما تبقى لها من امبراطوريتها المترامية الأطراف. ولم تستطع حتى الفوضى التي أعقبت قيام الثورة عام 1979 أن تنال من وحدتها في شئ.
مثل هذه التجربة قابلة للتطبيق على مراحل ودون أي ضجيج في العراق أيضاً!
وقد اتضح لنا في السنوات الأخيرة أن الكرد الشيعة لا يمثلون أي خطر على وحدة العراق، ولا يشكلون أي معضلة بالنسبة لحكومة المركز. في حين امتاز الكرد السنة بحس قومي عال، وكانوا متمردين على السلطة في جميع العهود. ومعنى ذلك أن العامل المذهبي لعب دوراً حاسماً في إذكاء الرغبة في الانعزال، وليس الانتماء العرقي وحده. عدا عن عوامل أخرى أقل أهمية مثل الجغرافية.
والشئ ذاته ينطبق على القبائل العربية الكبرى مثل شمر وعنزة وزبيد والدليم والعبيد وسواها، فإن الفروع التي اعتنقت الفكرة الشيعية منها لم تبد أي رغبة بالانفصال أو العدوان بعد أن قطعت صلتها نهائياً بالسلفية الوهابية. وامتشقت السلاح بوجه طلائعها المغيرة على العراق.
وقد تبدو أي خطوة للتغيير المذهبي فكرة استفزازية لمشاعر الآخرين. ولكن الواقع أن جميع الأفكار الحية التي غيرت مسار البشرية هي في الأصل أفكار استفزازية، لقيت في البدء معارضة قوية. إلا أنها استطاعت الوقوف على أقدامها في ما بعد، ثم تحولت إلى ظواهر كونية. والأمثلة على ذلك أكثر من أن تعد ومنها اللوثرية والماركسية والخمينية والعروبية.
لقد أنتج الصراع المذهبي دولاً جديدة في العالم مثل استراليا والولايات المتحدة وكندا. وكان المهاجرون الأوائل من الذين أفرزهم هذا الصراع. وبالطبع كان مثل هذا الصنيع في حينه صادماً، لكنه تحول في ما بعد إلى نماذج ناجحة ومفيدة.
إن الوحدة المذهبية هي الحل الوحيد الناجح للحفاظ على وحدة العراق. أما ما يطرحه البعض من حلول وسطية كالعلمنة والمواطنة، فالواقع أنهما لا تتعارضان مع الوحدة الروحية بل تزدادان قوة بها، ولا تستطيعان الوقوف بوجه الأعاصير دون سند منها.
يجب أن تتبنى النخبة هذه الستراتيجية لسبب بسيط هو أنها ستراتيجية البقاء. أما ما عداها فسيسير بالبلاد نحو الهاوية لا محالة. ويبقى الإنسان الآمن المستقر هو الهدف، وتبقى حياته هي الأغلى على الإطلاق.