يعتبر المتعصبون والمتطرفون من دعاة الإيديولوجيات والأديان والطوائف، أن الحق معهم دائماً،وحيثما يميلون يميل معهم، لأن لديهم أفضليات على الآخر بزعم امتلاك الحقيقة، ومثل تلك الأطروحات تقود إلى تسميم العيش المشترك لأنها تحمل في ثناياها الإلغاء، والإقصاء، والتهميش، وغالباً ما تقود إلى ممارسة العنف ضد الآخر، سواء على المستويين الفردي، أو الجماعي.
فهل هناك ديانة سيئة وأخرى حسنة، وديانة حق وأخرى باطل؟ والأمر ينطبق على الطوائف والأيديولوجيات، فكيف السبيل إلى قبول الآخر على قدم المساواة في العيش المشترك، وما هي الأنساق الكفيلة لحل تلك الإشكاليات؟
أولها- النسق القانوني- أي حكم القانون، فالكل ينبغي أن يكون متساوياً أمام القانون من دون تمييز بسبب الدين، أو العنصر، أو اللغة، أو الجنس، أو اللون، أو الأصل الاجتماعي، أو لأي سبب كان، وهو ما توفّره منظومة حقوق الإنسان الكونية. والقانون، حسب مونتسكيو، ينبغي أن يكون مثل الموت ينطبق على الجميع من دون استثناء، وهو في نهاية المطاف الضامن للعيش المشترك، والمرجع الذي يمكن الاحتكام إليه لتنظيم علاقة الفرد والمجتمع بالدولة.
وثانيها – النسق السياسي، الذي يتعلّق بطبيعة النظام، فهل هو نظام ديمقراطي، أم استبدادي، أم دكتاتوري، أم أوليغارشي، أم ثيوقراطي؟ بغض النظر عما إذا كان النظام ملكياً، أو جمهورياً، برلمانياً أو رئاسياً، ولكن لا بدّ من توفر قدر معقول من مبادئ الحرية والمساواة، وأن تقوم الدولة بواجبها الأساسي، وهو حماية أرواح وممتلكات المواطنين، وحفظ النظام العام.
وثالثها – النسق الاجتماعي، فكل نظام سياسي يستند إلى خلفية اجتماعية، فإلى أي مدى يمكن تحقيق تكافؤ الفرص وتقديم الخدمات العمومية، ولا سيّما الصحية، والتعليمية، والبلدية، بقدر معقول من العدالة، وإذا ما حصلت ثمة اختلالات في هذا الميدان، فإنك سترى العنف ينفلت ويتوالد، ويتراكب، ويسبب ردود أفعال تجرّ إلى عنف مضاد، وهكذا.
ورابعها- النسق الثقافي، فالبيئة التي ينشأ فيها العنف لا شك هي بيئة ثقافية، فالبيئات التي تقر بحق الاختلاف، وتعترف بالتعددية، وتحترم التنوّع، فإن العيش المشترك فيها يعتبر مصدر إغناء، وإثراء، وواقعية، وتلاقح، وتطور، وعلى العكس فإن المجتمعات الآحادية، أو التي تريد أن تتصرف فيها القوى المهيمنة على هذا الأساس فإن العنف يتعاظم فيها، لاسيّما في ظل الثقافة الشمولية وخطابات الهويّة القصوى، أو التي يسميها أمين معلوف «الهويّات القاتلة»، وأية هويّة ينبغي أن تتسم بالعقلانية والنسبية والإنسانية، فكل شيء في الحياة وفقاً لعالم الفيزياء نسبي، والهويّة الجامعة بقدر استيعابها الهويّات الفرعية وتنميتها، تتجنب الانزلاق في الإقصاء، والتهميش، اللذين يدفعان إلى العنف.
وخامسها- النسق التربوي، إن سلوك العنف هو سلوك مكتسب خلال التنشئة الاجتماعية والتربية والتعليم، حيث تساهم النظم التعليمية والتربوية في بناء عقول تنتج سلوكاً عنيفاً، حيث تتم صناعة الشخص العنيف، وهو ليس صفة طبيعية حتى وإن كان لدى كل إنسان شحنة عنفية، فالغالب الإنساني هو اللّاعنف والعيش المشترك، لأن الإنسان كائن اجتماعي، أو حيوان اجتماعي، لا يستطيع أن يعيش خارج المجتمع.
وسادسها – النسق الإعلامي، حيث يلعب الإعلام دوراً مهماً، سواء في نشر ثقافة الكراهية والعنف والإرهاب وبث قيم التعصب والتطرّف، أو على العكس من ذلك حين يقوم بنشر قيم السلام والتسامح والعيش معاً.
وهناك النسق الديني، حيث تلعب المؤسسة الدينية دوراً في قضية العنف واللّاعنف، وإذا ما هيمن عليها المتعصّبون ساد الخطاب العنفي، والعكس صحيح أيضاً، حين يكون للمتسامحين دور كبير في توجهها يمكن للدين أن يلعب الدور الإيجابي في التنشئة على ثقافة العيش المشترك، فالتدين الحقيقي هو أقرب إلى ثقافة السلام والتسامح، والاقتراب من الله، في حين أن التدين الشكلي المظهري هو محاولة لفرض التدين على الآخرين، واعتبار المختلفين كفاراً، أو مارقين.
إن الإكراه يتنافى مع الإيمان، وبالتالي مع الدين ومع الحرية، فلا دين حقيقي من دون حرية، وبهذا المعنى فالعنف يحدث قطيعة، أو تغييراً في مسار الحياة وتشوهات نفسية، لاسيّما ما يثيره من حقد، وكراهية، وانتقام. وهنا لا بدّ من تغيير في منظومة الأفكار، فالفروسية والشجاعة والحرب العادلة لها معان مختلفة من منظور اللّاعنف، لاسيّما بما تخلقه من ضحايا بشرية بحق الأبرياء.
[email protected]
نشرت في صحيفة الخليج (الإماراتية) الاربعاء 9/9/2020