تقليعة معاهدة (سايكس – بيكو) وطبولها التي أخذت تدق بضربات قوية مدوية في أروقة العقل العربي (إن بقي عقل) , وفي فضاءات الوعي الجمعي (إن بقي وعي) , وهي تتهم العرب بأنهم كانوا في غيبوبة طويلة , مخدرين وتحت مبضع الجراحين السياسيين , الذين صنعوا ما لم يكن موجودا , وبضّعوا ما كان موجودا.
طرح غريب وموجة عارمة من الحرب النفسية التدميرية الشاملة , التي تقضي بإتلاف العرب , وإيهامهم بأن المبضع هو الذي سيأسوا ما عانوا منه على مرّ العقود المعاصرة .
بل هو إفتراء إفتراسي وتضليل تدميري خطير , يدفع بالناس نحو الهاوية والسقوط في منتديات سقر , التي يتم إعدادها لإلتهامهم وتحويلهم إلى رماد , بعد أن تحقق المساعي الشريرة إحالتهم إلى أحطاب يابسة شديدة الإشتعال.
هذه الإفتراءات تريد القول بأن تركيا يجب أن لا تكون , والعراق لا عراق , وكل دولة عربية لا دولة لأنها لم تكن موجودة , والدول العربية يجب أن تمحى من الخارطة , لأنها لم تكن دولا أو ذات حدود جغرافية.
وهذا معناه أن الصين يجب أن لا تكون , لأنها لم تكن موجودة كدولة قبل نهاية النصف الأول من القرن العشرين , وكذلك الباكستان , وجميع الدول التي ظهرت بعد الحربين العالميتين الأولى والثانية ونهاية الحرب الباردة.
وكأن العراق وسوريا ولبنان ومصر والدول الأخرى لم يكن لها تأريخ ودور ووجود!!
بينما هي كيانات موجودة منذ فجر التأريخ , ومرت بتحولات وعصور ومسيرات طويلة ومعقدة , ومعالمها واضحة وما فعلته معاهدة (سايكس – بيكو) أنها تقاسمت غنيمة الدولة العثمانية , فأشرت حدود أقاليم تلك الدولة التي خسرت الحرب وجمعت بعضها.
فالحديث عن إنعدام هذه الكيانات قبل تلك المعاهدة إنما تضليل وتحريف , إنها أقاليم ظهرت تسميتها كدول وفقا لعصرها وتقرير مصيرها.
فقد يتصور الكثيرون وفقا للتضليل والخداع بأن تلك المعاهدة ضارة , لكنها نافعة والعيب في العرب أنفسهم , الذين لم ينجحوا في بناء آليات العمل المشترك , كما تحقق في الدول الأوربية , مع أن الدول العربية فيها مشتركات متفوقة على المُفرّقات بالمقارنة مع الدول الأوربية , التي عندها الكثير مما يفرقها , لكنها إستثمرت بالقليل الجامع وطورته ليتسيد على كل المُفرّقات.
فالمعاهدة عبارة عن إقتسام للغنائم بين الدول المنتصرة في الحرب العالمية الأولى , وهي ليست تقسيما , فالولايات والأقاليم موجودة وتم إفتراسها بالطريقة التي تحقق مصالح القوى المنتصرة.
لكن أبناء الولايات أو الدول لم يفكروا بمصالحهم , ولم يؤسسوا أنظمة حكم دستورية معاصرة , وإنما تواصلوا في إفتراس أنفسهم بأنفسهم , وإستنقعوا في أماكنهم , وتمسكوا بالغابرات!!
فكأن الوطن والعرب والدين أكذوبات سايكس بيكوية , وعلينا أن ننتصر على تلك المعاهدة بمزيد من التشظي والتناحر والإفتراق , لأننا كائنات لا تعرف الكيانات الوطنية الديمقراطية المعاصرة , ولا تفهم بمبادئ ومعايير العيش الإنساني المشترك!!
فأي جنون هذا , ويأس وبؤس وإنحدار إلى أسفل السافلين؟!!
فهل سنبصر بعيون العقل ونرى بعقل الزمن , الذي تحكمه النداءات العلمية والإقتصادية والفكرية المتنامية السطوع , أم سنزداد إندساسا في حفر الماضيات وندّعي كل شيئ إدّعاءً , ونمضي في كتاباتنا الإنفعالية العاطفية , التي تسعى لتسويغ العدوان الذاتي والموضوعي , وكأنها نشاطات إنتحارية أنتجها اليأس والإبلاس المدقع الذي نتدثر به!!
فالويل لنا من أنفسنا التي تأمرنا بالمساوئ , ومن تفاعلاتنا الساذجة الحمقاء!!