23 ديسمبر، 2024 3:06 م

سايكس بيكو تعود من جديد

سايكس بيكو تعود من جديد

لم اكن يوما من الايام مروجا لنظرية المؤامرة او مؤمنا بها ليقيني بان الحديث الدائم عن هذه النظرية هو عبارة عن ايجاد شماعة خارجية نبرر بها فشلنا في تحمل مسئولياتنا في اقامة دولة قوية عادلة تحفظ كرامة الانسان وحريته ولكن مايحصل اليوم في منطقتنا التي تشهد صراعا سوريا دمويا دخل عامه الرابع دون وجود بارقة امل بحل سياسي اقليمي و دولي او حسم عسكري لاي طرف كان بدا يثير لدي المخاوف من ان هناك سيناريو كبير يتم تحضيره لهذه المنطقة خصوصا مع وصول تداعيات المشهد السوري لدول الجوار مثل العراق الذي صدم شعبه بنكسة الموصل التي استباح بها مقاتلوا مايسمى بالدولة الاسلامية اراضي العراق ومحافظاته حتى باتوا على بعد 60 كم من بغداد ولبنان الذي بدا وضعه الامني يتجه نحو الانهيار بعد تكرار الهجمات الانتحارية التي استهدفت القوى الامنية والمناطق السكنية والتجارية بحجة مشاركة حزب الله في الصراع السوري وعند التمعن في المشهد العربي نجد ان نظرية الفوضى الخلاقة هي اهم ملامحه وهي التي روجت لها وزيرة الخارجية الامريكية انذاك كونداليزا رايس في تصريح صحفي لصحيفة الواشنطن بوست في العام 2005 لغرض نشر الديمقراطية في العالم العربي عبر مشروع الشرق الاوسط الجديد المتمثل بتقسيم المقسم وتجزئة المجزء عبر اقامة كانتونات طائفية وعرقية وتجسد التطبيق الفعلي لهذه النظرية عقب انتفاضات الربيع العربي والتي حولت الدول العربية الى ساحة للحروب بالوكالة وتصفية الحسابات بشكل بات يهدد مفهوم الوحدة الوطنية وينسف الاسس التي قامت عليها الدولة الوطنية مطلع القرن الماضي .

كانت الحرب العالمية الاولى من اهم الاحداث التي عصفت بالعالم مطلع القرن العشرين ومن اهم الاسباب التي ادت الى اندلاع الحرب بين الدول الكبرى هو الصراع السياسي وسباق التسلح بين تلك الدول لغرض تقاسم مناطق النفوذ في العالم بالاضافة الى عوامل اخرى متمثلة بطبيعة التحالفات السياسية والعسكرية الاوربية منذ نهاية القرن التاسع عشر والصراعات العرقية في البلقان وكانت الولايات المتحدة تمارس سياسة الانعزال الذاتي

والناي بالنفس عن خضم هذه الصراعات فاندلعت الحرب التي كان احد اطرافها الدولة العثمانية الضعيفة والتي كانت لسياساتها القاسية تجاه ابناء الولايات العربية في الحجاز والعراق والشام والتي تمثلت بالاقصاء والتهميش والازدراء وفرض سياسة التتريك بالقوة عليهم (عقب الانقلاب الذي قامت به جمعية الاتحاد والترقي القومية على السلطان عبد الحميد عام 1909 ) الاثر الاكبر في اثارة مشاعر القومية العربية لدى ابناء هذه الولايات وبالتالي استغلالهم لظروف الحرب لاعلان الثورة العربية الكبرى ضد الاحتلال التركي مدعومين انذاك من الانجليز عدو الاتراك اللدود في الحرب والذين سارعوا لاستغلال هذه الفرصة التاريخية فانقضت جيوشهم مع جيوش العشائر العربية على القوات العثمانية واسفر الامر عن مابدا انذاك بانه تحرير للحجاز والعراق والشام من الاحتلال التركي لكنه لم يكن في الواقع سوى استبدال الاحتلال التركي بالانكليزي والفرنسي الذي كان ثمرة لاتفاقية سايكس بيكو عام 1916 التي كانت من اغرب الاتفاقيات الدولية حيث تعاملت قوى الاحتلال الغربية بسياسة القص واللصق مع الجغرافية السياسية لهذه الدول فتم تقسيم بلاد الهلال الخصيب (العراق والشام) على اسس استعمارية منحت بريطانيا بموجبها وسط وجنوب العراق وشرق الاردن بينما حصلت فرنسا على شمال العراق وسوريا ولبنان وباتت فلسطين منطقة دولية وبعد اتساع الخلافات بين القوتين المستعمرتين عقد مؤتمر سان ريمو بايطاليا عام 1920 والذي حصلت فرنسا بموجبه على سوريا ولبنان وانفردت بريطانيا بالعراق كله وشرق الاردن وفلسطين مع تعهدها بتنفيذ وعد بلفور ولما كان الطابع الديموغرافي لهذه الدول قائم على التنوع الطائفي والعرقي فقد ادى ذلك لسماح بتكوين دول وطنية خاضعة تحت الانتداب قبل ان تنال استقلالها بعد الحرب العالمية الثانية ، لقد انخرط العرب بكل قواهم في الثورة ضد العثمانيين حالمين بدولة عربية موحدة تضم الحجاز والعراق والشام تحت حكم الشريف الحسين قائد الثورة بعد فشل مساعيهم السلمية باقناع الاتراك بمنح الولايات العربية حكما ذاتيا لكن طرفا ثالثا غربيا كان يخطط لتقسيم المنطقة وتحويل احلام العرب بالوحدة الى كوابيس من التقسيم والتمهيد للهجرة اليهودية الى فلسطين وهو ماادركه العرب لاحقا عندما راوا دولتهم الموحدة تتشظى الى عدة دول وهي العراق وسوريا ولبنان والاردن والحجاز ومنح جزء من فلسطين لليهود قبل ان يتم الاطاحة بقائد الثورة الشريف الحسين لينتهي الحكم الهاشمي للحجاز عام 1925.

اما في العصر الحديث فقد كان انهيار الاتحاد السوفيتي والمعسكر الشرقي في عام 1991 ايذانا ببدء مرحلة جديدة في العلاقات الدولية وهي مرحلة القطب الامريكي الواحد الذي نصبت فيه الولايت المتحدة نفسها كشرطي للعالم وجاءت هجمات 11 ايلول / سبتمبر عام 2001 مطلع القرن الحالي وماتلاها من احتلال امريكي لكل من افغانستان والعراق والحرب على الارهاب وتفاقم التعنت والجبروت الاسرائيلي وخضوع الأمم المتحدة للولايات المتحدة أو تهميشها كما جرى إبان الحرب على العراق واستمرار تسلط انظمة قمعية في الشرق الاوسط اذاقت شعوبها ويلات من الاستبداد والظلم ونمو التيارات المتطرفة الراديكالية . كل هذه العوامل ساعدت على سقوط الانظمة الشمولية في الوطن العربي سواء عبر غزو خارجي كما حصل في العراق عام

2003 او انتفاضات شعبية كما حصل في دول الربيع العربي عام 2011 فقد اندفع الشباب العربي في القاهرة والاسكندرية وتونس وطرابلس وبنغازي وصنعاء ودرعا وحلب حالمين بالحرية والديمقراطية وبتاسيس الدولة المدنية القائمة على احترام حقوق الانسان وانهاء حكم الدولة البوليسية التي سادت لعقود طويلة وحلم العراقيون بعراق جديد ديموقراطي مزدهر يكون مثالا لكل الدول العربية وفق الرؤية الامريكية لكن احلام الشعوب العربية تحولت الى كوابيس مرة اخرى فقد تحولت الدول العربية الى ساحات قتال مباشر وبالوكالة بين جميع الاطراف الدولية والاقليمية والاحزاب والطوائف والاديان والمذاهب في اطار مايسمى بنظرية الفوضى الخلاقة التي يبدوا ان اهدافها الحقيقية تؤول الى تقسيم تلك الدول لامحالة وهو جوهر مشروع الشرق الاوسط الجديد فوسط تراجع الدور الامريكي في المنطقة في عهد الرئيس اوباما لاتزال الفوضى تضرب دول هذه المنطقة الواحدة تلو الاخرى ممهدة لتقسيمها وبالذات في العراق وسوريا ولبنان واليمن وليبيا ولعل من اهم الاسباب التي اوصلتنا الى هذه الحالة المزرية هي الاخطاء القاتلة التي ارتكبتها انظمة مابعد التغيير التي لم تحاول الاستفادة من اخطاء الانظمة الشمولية خصوصا مع سيطرة تيار الاسلام السياسي على هذه الحكومات وممارسته لسياسات الاقصاء والتهميش ضد خصومه والقطيعة التامة مع الماضي وافراغ مفهوم المواطنة من مضمونه العام واستبداله بالهويات الفرعية الطائفية وهو ماافسح المجال للتيارات الاصولية المتطرفة لتنفث سمومها الطائفية والتكفيرية والارهابية في المجتمع بشكل بات يهدد المستقبل الوجودي للدول العربية ولعل نكسة الموصل خير دليل على ذلك حيث بات عودة العراق الى مرحلة ماقبل 9 حزيران / يونيو امرا مستحيلا في ظل استمرار السياسات الحالية ودونما تغيير حقيقي في الية ادارة الدولة التي افسح ضعفها وفسادها وطائفيتها في السماح لداعش بايجاد موطئ قدم لها في العراق . وبهذا الصدد تقوم مجلة التايم الامريكية ( المقربة من دوائر صنع القرار في واشنطن ) في عددها الذي سيصدر في 30-6 القادم بنشر تقرير مفصل من 8 صفحات معزز بالخرائط يتضمن كيفية تقسيم العراق الى 3 دويلات كردية تضم كركوك واجزاء من مناطق كردية سورية وسنية عاصمتها بغداد وتضم مناطق سنية سورية وشيعية في الجنوب وتضم فيما بعد اجزاء من الكويت والمنطقة الشرقية السعودية وهذه ليست المرة الاولى التي تنشر فيها الصحافة الامريكية تقارير وخرائط توضح فيه تفاصيل مشروع الشرق الاوسط الجديد وسط حالة من اللامبالاة من النخب والقيادات العراقية والعربية على حد سواء ، فاذا كان تقسيم المنطقة (العراق والشام تحديدا) قد تم في سايكس بيكو الاولى على اسس استعمارية فان التقسيم المنتظر سيتم على اسس طائفية وعرقية واذا كان هناك من يقول بان مايحصل ليس فوضى تؤدي الى تقسيم بل هي ثورة شعبية سنية في العراق وسورية على الحكم الشيعي والعلوي الذي اضطهد السنة واقصاهم وهمشهم فقراءة التاريخ توضح لنا بان سايكس بيكو الاولى قد حصلت في ظروف الثورة العربية الكبرى التي نشبت ضد الاتراك بسبب مطالبة العرب بحقوقهم ايضا فما حصل سابقا بين العرب والترك يعاد الان بين السنة والشيعة وفي نهاية المطاف خسر العرب وحدتهم وخضعوا للاحتلال

الاجنبي وسقطت الدولة العثمانية على يد مصطفى كمال اتاتورك عام 1924 وهو مايعطينا انطباعا بان المحرقة الطائفية الحاصلة في العراق وسوريا ولبنان لا رابح فيها.

كان الغزو الامريكي للعراق وماتلاه من اقتتال طائفي هو بداية اشعال نارالفتنة الطائفية في العالم الاسلامي بين السنة والشيعة (فيما لعبت احداث الحرب الاهلية السورية دورا كبيرا في تعميق الانقسام الطائفي وجعله اكثر حدة ودموية) وهي نتائج كانت معروفة سلفا لعدة اسباب منها الاسس التي قامت عليها العملية السياسية والسياسات الطائفية ضد العراقيون السنة من قبل الاسلام السياسي الشيعي الذي انفرد بالحكم في بغداد واتسمت سياساته بالغباء السياسي بدل الحكمة وبالانتقام بدل المصالحة وحرب الابادة الجماعية التي شنتها الجماعات المسلحة السنية ضد شيعة العراق وهاهي الامور تعود الى العراق مرة اخرى فاما ان يتخذ العراقيون قرارات حاسمة تتضمن تفضيل الطائفة على الشخص والوطن على الطائفة واعادة بناء نظام سياسي متوازن وبناء جيش وطني قوي وتفويت الفرصة على من يريد العبث بهذا البلد وهو امر يتطلب قراءة موضوعية للتاريخ لاخذ العظة والعبرة منه والحيلولة دون ارتكاب نفس الحماقات او الاستمرار بدراسته لغرض التسلية او تحصيل الدرجات العلمية وبالتالي استمرار الدوران في حلقة مفرغة و يكون تقسيم العراق هو البداية الحقيقية لتقسيم دول المنطقة وتمرير مشروع الشرق الاوسط الجديد .