23 ديسمبر، 2024 4:44 ص

سامي مهدي .. كما عرفته

سامي مهدي .. كما عرفته

قد أكون الشخص الوحيد بين الحاضرين لا تربطني به معرفة صداقة ولا حتى زمالة، فلم يصادف ان إلتقت سكتينا في محطات الصحافة على مدى اثني عشر عاما من بداية عملي فيها. على ما أتذكر في عام 1982 طلب صاحب حسين السماوي رئيس تحرير جريدة الجمهورية من سكرتارية التحرير النزول الى غرفته في الطابق الثاني من مبنى دار الجماهير للصحافة والنشر، حيث كانت هيأة التحرير تشغل الطابقين الثالث والرابع في البناية المكونة من خمس طبقات.
حضر حينها من كان موجودا في ذلك الصباح وهم فلاح العماري، محمد السبعاوي، عبد المطلب محمود، حسن السعدي وابتسام عبد الله، كنا نعتقد ان هدف الاجتماع هو توديع رئيس التحرير الذي عين سفيرا للعراق في كوبا، لكن ما حدث ان الاجتماع لم يقتصر على توديع السماوي فحسب، انما لاستقبال رئيس التحرير الجديد سامي مهدي الذي عرفته الاوساط الثقافية والأدبية أكثر مما عرف في الوسط الصحفي، ولسوء الحظ اني كنت في ذلك اليوم سكرتير التحرير الخافر لحين طبع الجريدة في الصباح الباكر، مساء جاء سامي مهدي ليباشر عمله الجديد ولكي يتعرف على عملنا في سكرتارية التحرير وطريقة اعداد الصفحة الأولى صعد الى الطابق الثالث متجهاً الى غرفة تسمى في الصحافة (المطبخ) التي يتم فيها اعداد وتصميم الصفحة (الأولى) والموافقة على بقية صفحات الجريدة قبل طبعها، جلس قربي وبدأ يتصفح الأخبار فوجد خبرا ثقافيا، قال لي انشره في الصفحة الأولى، قرأت الخبر ثم وضعته جانبا، استمر العمل في الصفحة الأولى وأوشك على الانتهاء، استدار نحوي متسائلا .. لماذا لم تنشر الخبر ، كانت اجابتي جاهزة فقلت له، مثل هذه الاخبار لها مكان آخر في صفحات الجريدة وليس الصفحة الأولى سيما ان العراق كان يخوض حربا ضروسا مع جارته ايران والصفحات معبأة بأخبارها، والتوجيه المعطى الينا ان تكون الأولوية لساحات المعارك الممتدة على طول الحدود.
شعرت حينها انه انزعج من اجابتي، رد عليّ “أنا المسؤول الآن والقرار لي” فقلت له اذن انت من يكمل العمل ويتحمل ملاحظات وزير الاعلام صباحا، حملت أوراقي وقلمي، خرجت من الغرفة باتجاه غرفتي في الطابق نفسه لحق بيّ شيخ المصممين مالك البكري محاولا ترطيب الأجواء بيننا لكنني كنت  منزعجا ومصرا على الانسحاب، بعد دقائق جاءني عبد الوهاب الكيلاني وكان نائبا لرئيس القسم الفني مبتسما سحبني الى غرفته وطلب “استكان” شاي لترطيب الأجواء في هذه الاثناء نزل سامي مهدي الى الطابق الأول فوجدني امامه أبتسم وقال: “الان تأكدت بوجود محررين مبدئيين لا يمكن مساومتهم” بعدها طلب مني العودة الى غرفتي واكمال العمل لأنه سيذهب الى البيت، ونتيجة لهذه المواجهة التي حدثت في اليوم الأول لاستلامه الإدارة العامة لدار الجماهير للصحافة، توطدت علاقتنا فيما بعد كثيرا متجاوزة الحدود الوظيفية، مع ان ” أبو نوار” كان جديا حريصا يعتز بوجهات نظره الا انه كان في الوقت نفسه يتمتع بروح النكتة في داخله.
طوال تسع سنوات قضيتها مع سامي مهدي كان نصيب اللقاءات المسائية فيها هو الأكثر مساحة والأكثر عبقا في اكتشاف شخصية من طراز سامي مهدي، فساعات العمل ليلا والجلوس على طاولة واحدة ربما كانت كافية لسبر غور شخصية وخفايا كل واحد منا، في الفراغات التي تحصل أحيانا كثيرة كان يحدثني عن تجربته في فرنسا عندما عمل فيها ملحقا ثقافيا في سبعينيات القرن الماضي، ومن خلال ما سمعت منه كان كثير الاعجاب بها وبمدارسها الثقافية التي أثرت مخزونه الفكري والثقافي بمعطين، الأول هو اتصاله المباشر بكبار المثقفين العرب والفرنسيين، والثاني هو الطبيعة الخلابة لباريس ومدن فرنسا الأخرى وما يشكله نهر السين وبرج ايفل من معلمين شاخصين في الحياة اليومية. ساعدته تلك الأجواء للتعرف عن خفايا الثقافة فيها ومدارسها الفكرية، وربما لشدة اعجابه بها تعلم اللغة الفرنسية بشكل جيد، من هنا كانت ذاكرته مفعمة بصور نمطية عن باريس استقرت تماما في عقله، وشكلت نمطا انبعاثيا في خيالاته، وصدرت له مختارات من الشعر الفرنسي والإسباني، بينها ترجماته للشاعرين الفرنسيين جاك بريفير وهنري ميشو.
في الفراغات أيضا، كنت استفزه بقراءة ابيات من شعره، لكنه لا ينصاع لمثل هذه الاستفزازات ولا يميل لترديد قصائده على مسامعنا، كان أحيانا يدندن بعض الأغاني القديمة ويستمتع بها، حتى في السياسة لم يكن محبا للدخول في جدالاتها، لكنه لا يتوقف عندما يكون الحديث عن بغداد واحيائها وحتى أزقتها، أو عن الممثلين العرب وبخاصة المصريين حيث كان شديد الاعجاب بالممثل محمود مرسي والممثلة فاتن حمامة والفنان السوري دريد لحام “غوار الطوشي” .
في أوقات كثيرة كان يتخذ قرارات مهمة ويعضد بعض الأفكار التي تلج سريعا في أحاديثنا، ويعتبر الشاعر الراحل أن لجيله (جيل الستينيات) بصمته الخاصة في الشعر العراقي، حيث طور آفاق وتقنيات الشعر الحديث، ودوّن ذكرياته وانطباعاته عن ذلك الجيل في كتابه “الموجة الصاخبة.. شعر الستينيات في العراق”. يتهمه البعض بانه شاعر سلطة لكن لا دليل على ذلك. الصواب ان سامي مهدي له تجربته الشعرية والأدبية الخاصة به، غير مستنسخة، فهو لم يقلد شاعرا سبقه ولا أحد من الشعراء قلده، ويمكن ملاحظة ذلك من تجربته الشعرية الأولى “رماد الفجيعة” في ستينيات القرن الماضي الى آخر نتاجاته الأدبية، وهو يعتبر إن تجربته الشعرية لم تكتمل بعد، فالشاعر من وجهة نظره هو ضمير الامة والناطق باسمها، من هنا ظل “القلق والشك” يلاحقان سامي مهدي في كل أو معظم نتاجه الأدبي الذي يجيد حبكته لغة ووزنا.
ومع ان الشاعر سامي مهدي كان معروفا بحدة نقده لمجايليه، لكنه في الوقت نفسه كما ذكر في مناسبات عدة، تعامل مع النقد الموجه الى شعره، بتبويب وضعه لنفسه، لذا قال مرة ” اني استفدت من نقد النقاد العراقيين أكثر من أي نقد آخر، وتعاملت مع النقد بكل اشكاله “كمحاور” أستفيد ضمنيا منه وأحيانا أكتشف ظواهر في شعري  لم اكن منتبها اليها” .
اثنان وثمانون عاما من حياة الشاعر والناقد والصحفي سامي مهدي قضاها ملتصقا منذ صباه بالأدب والشعر المغروس بين ضلوعه، وظل لغاية بضعة شهور قبل ان يودع الحياة يكتب الشعر والنقد تاركا إرثا ثقافيا واسعا تحمله رفوف المكتبات في العراق والوطن العربي والعالم مثلت خلاصة قناعاته وانبعاثات فكره ونبض احساسه، تعلمت منه ما أحببته في شخصيته الباطنية الخافية عن الأنظار، وانتقدته في داخلي لحدته في أبداء الرأي وتوصيل الفكرة، واعرف ومن تعرف على سامي مهدي عن قرب أنه كان يجيد الكتابة باحترافية عالية، لكنه لا يجيد تنميق الكلام في الاحاديث الاعتيادية.
لروحه الرحمة والسلام.