في حوالي العام 1750 ميلادي، كان الظهور الأول للحركة الوهابية في نجد والحجاز، وكان مؤسس الحركة هو محمد بن عبد الوهاب بن سليمان آل مشرف التميمي (1703-1791) وهو أحد ابناء الشيخ عبد الوهاب الذي كان من الفقهاء وقاضيا وجده الشيخ سليمان كان عالما وقاضيا وموثقا شرعيا وتولى القضاء ايضاً. لقد كانت الحركة في ظاهرها حركة فكرية دينية تنادي بتطبيق السنة النبوية الشريفة وأحياء ما أندثر منها، وعلى أساس التمسك بحرفية النصوص وعدم السماح بالتأويل، وتنادي بعدم وجود افضلية لأهل بيت النبوة الكرام (عليهم السلام) ولا لصحابة الرسول (ص)، وتحارب الشرك بكل أنواعه الصغر منه والأكبر. وهذا ماجعلها في تقاطع وخلاف مع كثير من الأجتهادات التي جاء بها أصحاب المذاهب الأربعة أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد بن حنبل رغم أن الأخير يعتبر المرجع الفقهي الأكبر للحركة. وبالتأكيد فأن موقفهم من أهل البيت قد وضعهم في خلاف شديد وتقاطع حاد مع الشيعة وبكل طوائفها.
لم تكن الوهابية (أو السلفية- كما يحب مريدوها أن يطلق عليهم) ومنذ نشأتها حركة دينية خالصة وإنما كانت حركة سياسية أتخذت الدين وسيلة لها وكان من أهم مرتكزات الفقه لديها أن الوهابيين”هم أهل السنة الحقيقيون وهم الفرقة الناجية الوحيدة من النار، أما من خالفهم فإمّا كافر أو مبتدع ضال أو لديه أخطاء في العقيدة”. (الوكيبيديا العربية، أنظر سلفية وهابية). وقد بدا ذلك جلياً عندما تحالف مؤسس الحركة محمد عبد الوهاب مع محمد آل سعود والذي كان يسعى لأقامة الدولة “السعودية” حينها على أن يكون “الدمُ بالدم والهدمُ بالهدم”، وكان معنى هذا ونتيجته أن السيف لمن لايدخل تحت دعوتهم، وقاد الى مقتل كثير من المسلمين تحت حجة التكفير والتشريك في العراق ونجد والحجاز وغيرها من بلدان المشرق العربي. وكانت مذبحة كربلاء واحدة من أكبر المذابح التي تعرضت لها هذه المدينة المقدسة. يقول المؤرخ أبن بشر في كتابه “عنوان المجد من تاريخ نجد” ص257:” وفيها (سنة 1261 هـ حوالي 1845 م ) سار (بن) سعود بالجيوش المنصورة والخيل العتاق المشهورة من جميع حاضر نجد وباديها والجنوب والحجاز وتهامة وقصدوا أرض كربلاء ونازل أهل بلد الحسين، فحشد عليها المسلمون وتسوروا جدرانها ودخلوهوها عنوة، وقتلوا غالب أهلها في الأسواق والبيوت، وهدموا القبة الموضوعة بزعم من اعتقد فيها على قبر الحسين، وأخذوا ما في القبة وما حولها، وأخذوا النصيبة التي وضعوها على القبر، وكانت مرصوفة بالزمرد والياقوت والجواهر، وأخذوا جميع ما وجدوا في البلد من الأموال والسلاح واللباس والفرش والذهب والفضة والمصاحف الثمينة”. كما حصل مثل هذا التقتيل والتنكيل في أماكن أخرى مثل مكة والمدينة والبصرة وفي عمان وفي كل المناطق التي أجتاحتها جيوش ابن سعود تحت زعم نشر التوحيد وتخليص الأمة من عقيدة الشرك. واستمر هذا التقتيل والسلب والنهب” نحو سبع وعشرين سنة. وذكر أن القتلى بينهم في هذه المدة نحو أربعة آلاف رجل” (المصدر أعلاه ص)1907.
وتشير مصادر تاريخية كثيرة أستندت في بحثها على مذكرات الجاسوس البريطاني “همفر” أن همفر”التقى بمؤسس الحركة الوهابية المدعو “محمد بن عبد الوهاب” في البصرة جنوبي العراق وهو من دعمه لتأسيسها، ومن هناك تم بناء أولى الروابط في العلاقات الحميمة بين ابن عبد الوهاب وبين وزارة المستعمرات في الحكومة البريطانية التي استخدمته مع “محمد بن سعود” لضرب وحدة الصف الإسلامي وحاربت من خلالهما الدولة العثمانية فأضعفتها داخليا، وتسببت لاحقا في انهيار الخلافة الإسلامية في اسطنبول وتقسيمها إلى دويلات منها السعودية نسبة إلى محمد بن سعود الشريك السياسي لمحمد بن عبد الوهاب، ثم حولت بريطانيا ابن عبد الوهاب ليكون اداة لقتل المسلمين في الطائف ومكة والمدينة وغيرها من بلاد المسلمين. حيث كان الوهابية بعد أن أصبح لهم جيش يغيرون على قرى الشام فيقتلون رجال المسلمين ويسبون النساء” (الويكبيديا العربية، أنظر همفر). غير أن المصادر السلفية تشكك في وجود هذا الجاسوس أصلاً. ويمكن الرجوع الى المذكرات الكاملة لهمفر والتي يسطر فيها حقائق كثيرة عن نشأة الحركة ومؤسسها. ولكي نكون منصفين فالقراءة المتأنية للمذكرات تستدعي منّا تحكيم العقل في كثير مما فيها وتمحيصها، ففيها دس كثير على الأسلام وربما على شخصية الشيخ محمد عبد الوهاب.
ويكتسب هذا الأدعاء بعض المصداقية من طبيعة الظروف السياسية التي كانت تلف المنطقة حينها. وكان التعاون مع بريطانيا حيوياً لقيام الدولة السعودية الأولى (1744- 1818 م)على يد مؤسسها محمد بن سعود. فقد كانت الأمبراطورية البريطانية في ذلك الوقت في أشد حالات العداء للخلافة العثمانية في أسطنبول وكان لابد لأسقاط الخلافة وتدميرها من غطاء ديني يقنع العرب بالتعاون مع بريطانيا في مهمتها وقد تكون قد وجدت في شخص محمد عبد الوهاب ودعوته خير عون لها في ذلك. فقد ورد في مذكرات الجاسوس همفي أن بريطانيا قد أتفقت مع محمد عبد الوهاب على تنفيذ النقاط التالية:
“1-) تكفير كل المسلمين وإباحة قتلهم وسلب أموالهم وهتك أعراضهم وبيعهم في أسواق النخاسة، وحلّية جعلهم عبيدا ونسائهم جواري.
2-) وهدم الكعبة باسم أنها آثار وثنية إن أمكن ومنع الناس عن الحج وإغراء القبائل بسلب الحجاج وقتلهم .
3-) والسعي لخلع طاعة الخليفة، والإغراء لمحاربته وتجهيز الجيوش لذلك، ومن اللازم أيضا محاربة (أشراف الحجاز) بكل الوسائل الممكنة،والتقليل من نفوذهم .
4-) وهدم القباب والأضرحة والأماكن المقدسة عند المسلمين في مكة والمدينة وسائر البلاد التي يمكنه ذلك فيها باسم أنها وثنية وشرك والاستهانة بشخصية النبي (محمد) وخلفائه ورجال الإسلام بما يتيسّر .
5-) ونشر الفوضى والإرهاب في البلاد حسب ما يمكنه .
6-) ونشر قرآن فيه التعديل الذي ثبت في الأحاديث من زيادة ونقيصة . ” (http://www.sawtakonline.com/forum/showthread.php?)
ورغم تحفظنا على كثير مما ورد في المذكرات وفي النقاط الواردة أعلاه، إلا إن جميع هذه الأهداف تصب في مصلحة بريطانيا، وكثير منها تم تحقيقه بالتحالف بين محمد عبد الوهاب ومحمد بن سعود، كما أنهم عجزوا عن تحقيق المتبقي منها لأسباب موضوعية وسياسية.
وبعد زوال الدولة السعودية الأولى على يد إبراهيم باشا عام 1818 استمر الفكر السلفي الوهابي حاضراً وبدأ بالانتشار التدريجي حتى نشوء الدولة السعودية الثانية عام 1902 والتي تبنت الفكر السلفي كفر معتمد لها (المذهب الرسمي للدولة السعودية هو المذهب الحنبلي وفق تفسيرات محمد بن عبد الوهاب). وقد سخّرت المملكة العربية السعودية خصوصاً في العقود المتأخرة من القرن الماضي والقرن الحالي كثيراً من امكانياتها المادية والبشرية لنشر الأفكار السلفية وتطبيقاتها، وأستغلّت ثورة الأتصالات وشيوع الأنترنيت مما أدى الى أنتشار الأفكار السلفية في معظم دول الخليج العربي. ويمكن ملاحظة ذلك بوضوح حيث إن المذهب المالكي كان ومايزال مذهب الشيوخ والحكام في معظمها، وكبار السن، فيما يعتنق جيل الشباب الأفكار السلفية يساعده على ذلك سيطرة رجال الدين السلفيين على كل بوابات الأفتاء في الراديو والتلفزيون والصحافة وعدم سماحهم لأي رأي آخر أن يسمع تحت حجة أنهم هم ” أهل السنة والجماعة”.
وكان من نتيجة أنتشار الأفكار السلفية أنتشار الفكر الجهادي وتبنيه من قبل المجموعات التي تسمي نفسها “جهادية” كالقاعدة وغيرها. ورغم إن الأمريكان وهم ورثة البريطانيين في المنطقة هم الذين ساعدوا على إنشاء القاعدة ومدّها بالدعم المادي والمعنوي والبشري للوقوف في وجه الغزو السوفيتي لأفغانستان إلا إنهم هم الذين يرفعون شعار محاربتها الآن! وربما وبنفس الطريقة يمكن تتبع أصول كثير من المنظمات التي تسمى ارهابية لنصل الى منبع واحد للأرهاب في العالم.
وبسبب التبني الرسمي للنظام السعودي للوهابية وتنظيراتها التي تتسم بالصرامة في تفسير الأحكام وتطبيقها فقد أزدهرت هذه الأفكار ووجدت لها مرتعاً خصباً في كثير من الدول الأسلامية غير العربية وقد أدّى هذا الأنتشار الى ظهور جيل من السلفيين يتعمل مع مستجدّات ألمور بشئ من العقلانية بعد أن أغلقت أمامهم دروب التفسير الصارم للسنة وعدم ملائمته لحاجات ومستجدات العصر.
غير إن هذا الأنتشار الواسع لتلك الأفكار قد تعرّض ومازال لأشكاليات متعددة من أسبابها الخلط الكبير بين الدين والسياسة في عصر تفتقر فيه السياسة الى الأخلاقيات التي تتماشى مع جوهر الدين، ومنها ذاتي يتعلق بعدم توائم الطرح السلفي مع روح التجدد التي يعيشها العالم. ومن هذه الأشكاليات:
• كان استدعاء السعودية للقوات الأمريكية كرد فعل على دخول القوات العراقية الى الكويت في آب/أغسطس 1990، وماتبعه من عدوان على العراق سبباً في نشوء أكبر الأشكاليات التي واجهت الفكر الوهابي في العصر الحديث. فقد “وضع هذا القرار النظام الحاكم في السعودية في مأزق ذلك أن هذا الإجراء وإن كان من وجهة النظر السياسية مفهوماً ومبرراً إلا أن خصوصية نظام الحكم السعودي الذي ظل منذ ظهور الدولة السعودية الأولى في القرن الثامن عشر يؤسس شرعية وجوده على الإيديولوجية الوهابية الطاعنة في صرامتها وتشددها خاصة في ما يتعلق بمقولاتها التصنيفية الاقصائية تجاه الآخر المختلف سواء كان هذا الاختلاف دينياً أو فكرياً جعلت منه مثار إشكالية دينية مزدوجة لا يمكن الاستهانة بها في بيئة ثقافية تحكمها ذهنية أصولية. هذه الإشكالية تتمثل في مدى شرعية استعانة دولة مسلمة – السعودية – بدولة كافرة – الولايات المتحدة الأمريكية – لقتال دولة مسلمة – العراق – وتتجسد من جهة ثانية في مدى شرعية تواجد قوات عسكرية أجنبية لأول مرة في تاريخ الإسلام على أرض جزيرة العرب.” (السلفية الجهادية وسلفية الحكام- نصيرة عبد الوهاب).
ولمعالجة هذه الأشكالية فقد أصدر الشيخ عبد العزيز بن باز والذي كان يرأس هيئة كبارالعلماء في السعودية وبناء على طلب الحاكم السعودي فتوى جواز الأستعانة بالكفار.” إلا أن التمايزات الداخلية التي ينطوي عليها الحقل الديني في المملكة حالت دون إقرار موقف موحد من القرار ومن الفتوى التي استصدرت خصيصاً لتسويغه إذ سرعان ما اشتعلت شرارة الصراع بين هيئة كبار العلماء وبعض العلماء الرافضين لموقفها الذين اتخذوا منذ اللحظة الأولى موقفاً معارضاً لا ترى له نهاية لأي دور عسكري أجنبي في الأحداث وهو الموقف الذي اتسم بحدة فاقت توقعات النظام نفسه خاصة بعد أن وصل الأمر إلى حد تكفيره مباشرة على الملأ. “( المصدر أعلاه).
لقد كاد هذا الأنقسام في المواقف أن يكون قاتلاً للفكر الوهابي لولا الدعم اللامحدود الذي بذلته السعودية ودوائر أخرى تمتلك زمام الأعلام العالمي وتسيره لأحتواء الأزمة ووضعها في أطار شرعي مزيف قصد منه تبرير الفعل وتزيينه. غير إن هذا الموقف قد أدى الى إنشقاق اسامة بن لادن وتحالفه مع اتحاد جماعة الجهاد الإسلامي المصرية لتشكيل تنظيم قاعدة الجهاد الدولي والى بعث الروح من جديد في حركة الأخوان المسلمين (أسسها حسن البنا في مصر عام 1928) التي تختلف طروحاتها في فرعياتها مع طروحات الوهابية السلفية والتي بدورها تتهم الأخوان باهمال الجماعة للدعوة للتوحيد وتقصيرها في محاربة عبادة القبور والبدع، وأنها جماعة حزبية عملها يؤدي إلى تفريق المجتمع إلى أحزاب وجماعات ومخالفتهم لأولياء الأمور.
• إن نجاح الحركة الوهابية في أنشاء دولة تتبنى خطها الفكري قد حفّز الآخرين على القيام بالشيء نفسه. وكان أخطر هذه المحاولات وانجحها هو قيام الدولة الأسلامية في إيران والتي تتخذ المذهب الشيعي غطاءً لفكرها الديني والسياسي. وقد يتراءى للقاريء أن التناقض الكبير والفرق الشاسع والعداء المستحكم بين الفكرين السلفي والشيعي كان سيمنع قيام دولة شيعية في المنطقة، إلا أن الواقع والمنطق يقول بعكس ذلك. ورغم البعد الزمني الحاصل بين قيام الدولة السعودية الحالية عام 1902 وقيام جمهورية إيران الأسلامية عام 1979، إلا أن الظرف السياسي في المنطقة وما خلفته الحرب العالمية الثانية من واقع دولي وحرب باردة بين قطبي العالم المتنازعين آنذاك ( أمريكا والأتحاد السوفيتي الاسبق) ومسار الصراع العربي الصهيوني فيها، هو الذي أدى الى تأخر قيام الدولة الأسلامية في إيران. ومثلما أوكلت للسعودية مهمة لعب الدور السياسي كممثل للطائفة السنية في العالم الأسلامي ، فقد كان على إيران هي الأخرى أن تلعب دورها السياسي المرسوم بأعتبارها الممثل الوحيد والمدافع الشرس عن حقوق الطائفة الشيعية في العالم.
لذلك لم يكن غريباً أن تقف هاتان القوتان المتنافرتان ظاهرياً والمنسجمتان باطنياً (إيران والسعودية) في وجه النظام العراقي الوطني عام 1980 و1991 بالتتابع. ذلك أن أخطر ما يواجه الحركات الدينية السياسية هو الحركات القومية الصافية التي تتجاوز في أفكارها حدود الدين والطائفة وبالتالي مما سيؤدي الى كشف عورة تلك الحركات التي تبقى حبيسة اجتهادات طائفية ضيقة تمنع عنها الهواء النقي، وتمنع أتباعها من حرية التفكير المبدع والخلاّق.
وللحديث بقية إن شاء الله…