في أدب ما بعد التغيير، واقصد الأدب العراقي بعد 9-4-2003، ظهرت عدة أقلام أدبية نسائية ( سردا وشعرا) حاولت طرح ومعالجة قضايا المرأة بصورة عامة،والعراقية بوجه خاص، من مفهوم أنثوي بمعزل عن هيمنة الرجل، غير إن بعض هذه الأقلام بقيت تدور في فلك الرؤية التقليدية، لأصل المشكلة وهو (الرجل) .. هذه الإشكالية في المعالجة السردية ذات البعد الميثولوجي، التي لم تخرج عن حيز تجسيد صراع الوجود، القائم بين الرجل والمرأة وتقاطعاتهما عبر السفر الإنساني الموغل في القدم، لم تعد فعالة ومؤثرة بالقدر الذي كانت فيه قبل خمسة عقود، ففي الوقت الحاضر وفي عالم ما بعد الحداثة، أصبح من الضروري إعادة النظر بهذه الرؤية القاصرة، والعمل على أن يصبح الأدب النسوي أكثر نضوجا وبراغماتية، في التعامل مع مشاكل المرأة العراقية المعاصرة، وما يحيط بها من تحديات، وتناول قضاياها بنظرة أكثر شمولية وعمقا وإدراكا، والنظر إليها على إنها جزء من واقع سياسي واجتماعي وفكري واقتصادي، تؤثر فيه، وتتأثر به، أسوة بالرجل، فكلاهما يواجهان نفس التحديات والإشكاليات الفكرية للحضارية المادية، الزاحفة مع عصر العولمة، وكلاهما يعيشان إرهاصاتها وتداعياتها وبنفس القدر والتأثر .. من هذا المنطلق أود تسليط الضوء على منجز سردي نسائي، لقاصة واعدة، لكن مازال أمامها الكثير كي تضع لها بصمة في عالم السرد النسائي العراقي، على الرغم من إن هذا المنجز يمثل تجربتها الثانية في عالم القص، في مجموعة ( ساعة لا ريب فيها) للقاصة أفراح سالم والصادرة سنة 2017 نجد إن القاصة تناولت مشاكل المرأة العراقية من نفس المنطلق التقليدي الذي اشرنا إليه، أي إن (الرجل والموت) هما اكبر التحديات التي تواجه المرأة العراقية، حيث وضعتنا القاصة أمام قضايا اجتماعية متنوعة كانت المرأة المحور الرئيسي فيها، وقطب الرحى التي دارت حوله معظم نصوص المجموعة، عبر معالجات سردية تمحورت حول ثيمات ( الموت، الخيانة، الغربة، المرض، الاضطهاد)..وضعت في اطر حكائية تمثل واقعية اجتماعية، حملت في بعض محطاتها بعدا رمزيا إيحائيا، وهيمنت عليها تقنيات (الارتداد والاسترجاع، المنلوجات الداخلية، المشاهد الصامتة ) ولغة تقليدية اقتربت كثيرا من لغة السرد العراقي في ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي، وذلك باستخدام عبارات فخمة، إنشائية تارة، ومنمقة تارة أخرى، وإنشاء جمل بديعية تهتم بالبعد الجمالي على حساب البعد الدلالي والحجاجي، وسأضرب مثال على ذلك المنحى اللغوي، قصة هتون المطر ( ها قد حل المساء وانقضى يوم آخر وأنت بعيدة عني، متى سألقاك يا هند، لقد مرت أعوام وأنا هنا انتظر طلة وجهك الصبوح .. لم كل هذا الجفاء ؟ ومتى ستعودين إلى الديار؟ ).. غير إن النزعة التشيخوفية الميالة إلى إبراز حجم المعاناة الإنسانية وعذاباتها، منحت بعض النصوص بعدا إنسانيا حزينا، أعطاها حضورا لدى المتلقي.
كتبت نصوص (ساعة لا ريب فيها ) انطلاقا من رؤية أنثوية واعية، قادرة على التقاط بؤر التأزم الاجتماعي التقليدية التي تدور من حولها، وفق نسق حكائي غلب عليه تقنية السارد الخارجي (العليم)، عدا بعض النصوص التي كان السارد فيها داخليا ( ضمني) يسير بموازاة الأحداث.. كانت الآراء ووجهات النظر المطروحة في اغلب النصوص تمثل مزاجا شخصيا للقاصة، وحضورا متواريا أو مباشرا لها، مثل هذا النص من قصة (عتمة) والذي مثل تعليقا للقاصة على الحدث القائم (فمن ظلم الدنيا أن تكون النساء كائنات ضعيفة، وعليهن احتمال الاهانة، مهما تكن وإلا سمح للقليل والقال بالتحدث عنهن بالسوء ).. إضافة إلى استخدامها ( شخصيات مرجعية) في اغلب النصوص، حسب تصنيف الناقد فيليب هاملتون، أي إن أبطال المجموعة كانوا شخصيات مؤدلجة تنطلق من ثقافة ثابتة.. مع وجود تكرار ملفت للنظر في ثيمات قصص المجموعة، مع اختلاف بسيط في تفاصيل الأحداث والخواتيم .. وسأسلط الضوء على بعض نصوص المجموعة:
1- الطائرة الورقية: حمل النص بعدا رمزيا دلاليا، حاول أحداث مقاربات فكرية بين الحدث الآني والذاكرة، مع مفهوم الحرية بعنوانها العام.. الطفل الذي انقطع خيط طائرته الورقية، لتشكل هذه الحادثة منطلقا لذاكرة الأم نحو الماضي القريب، في عملية نقد اجتماعي جريئة مارستها القاصة، عبر هذا التعالق الإيحائي بين الماضي والحاضر، بين مشهد تحرر الطائرة من خيطها، ومشهد تمزيق أبيها لكتبها المدرسية وقصائدها، ومن ثم إجبارها على الزواج من شخص لا تحبه، وحلمها بالتحرر من قيودها كتلك الطائرة الورقية.. القصة في معظمها تشكل مشهدا صامتا، يستند إلى تقنية الارتداد والاستذكار، عبر تداعيات آنية انفعالية.. شكل الزمن مفصلا مهما ومحوريا فيها، ساهم في تكوين بؤرة اجتماعية تقاطعت فيها الأحداث والرؤى.. احتوى النص على جمل زائدة وشروحات أربكت السياق العام له، مثل قول أم البطلة مخاطبة (الأب ) زوجها (فمن الممكن أن تصبح أمل في يوما ما شاعرة مشهورة كتلك الشاعرات اللاتي تألقن في هذا المجال، وأبدعن فيه، مثل نازك الملائكة الشاعرة المجددة للشعر).. تميزت لغة الحوار بارتفاع المستوى الثقافي للخطاب، يرافقه جهل للقارئ بالمستوى الثقافي والتعليمي والبيئي، الذي انطلق منه هذا الخطاب الناضج، باستثناء البطلة التي أشار إليها النص على إنها كانت طالبة وشاعرة.
2- صباح آخر للحياة: نص يمثل جزءا من أدب الحرب، وكأغلب نصوص المجموعة تبدأ هذه القصة بتقنية الوصف والتركيز على عنصر المكان الذي يدور فيه الحدث المحوري للنص ( حل نسيم الربيع المليء بعطر الزهور المتفتحة في الأرجاء، وأضفى عليها جمالا خاصا ….).. بعدها يلج القارئ في العتبة الرئيسية للنص، شاب يطالع كتاب في منتزه عام يلعب بقربه مجموعة من الصبية، نكتشف بعدها إن هذا الشاب أصم وفاقد لإحدى قدميه، نتيجة معركة خاضها مع الإرهاب.. حملت الثيمة جانبا إنسانيا في عملية تصوير لما تخلفه الحروب من تداعيات وماسي.. احتوى النص جملا زائدة وأخرى خطابية توضيحية، أضفت عليه مسحة تقريرية مباشرة، كما في هذا المشهد الذي يمثل حوار الطفل مع البطل (أنت في الجيش. إذن أنت بطل ونحن نحبك كثيرا، لأنك عدت بوسام الشرف والبطولة كما يقول آباؤنا).
3- عُتمة: نص يطرح مشكلة اجتماعية أزلية، عبر معالجة سردية اختزلت تجربة إنسانية حزينة .. امرأة تعاني من واقع سيئ تعيشه مع زوجها، تمر بلحظة تداعي فكري ينتهي بها المطاف بقرارها بالانفصال عنه، يبدأ النص بتصوير جميل لحالة القلق التي كانت تعيشها قبل اتخاذها قرار الانفصال، من خلال سيميائية متأرجحة بين حركة البطلة وبين مشاعرها من جهة، وبين سينوغرافيا المكان وتفاعلها الحركي معه، يستمر هذا المشهد لصفحة كاملة محافظا على حيويته وحضوره.
4- قلب مظلم وجدار مضاء: إن وجود الأسماء في أي النص قصصي يشكل عبئاً عليه، إلا إذا كانت هذه الأسماء تحمل دلالات تخدم فكرة النص وقصديته، وما يلاحظ في هذه المجموعة هو كثرة ورود أسماء الأشخاص التي لا تحمل أي دلالة، ولا تتفاعل مع أحداث النصوص بأي شكل من الأشكال.. وقد تميزت هذه القصة بلغتها الشاعرية المرهفة وانزياحاتها، واستخدام تقنية التضمين، وذلك بإدخال أبيات شعرية على النص، تمثل أغنية للمطربة الراحلة أم كلثوم، قامت البطلة بتردديها وهي تعيش حالة من الذهان، جعلتها تتزين بانتظار زوجها الغائب الذي لن يعود، كونه قتل في الحرب، هناك شرح في خاتمة النص لا مبرر له، حيث إن السياق وصورة المشهد يشيران إلى موته.. ( وجدت نفسها أمام وهم وسراب، لتعود وتنظر إلى الجدار، بعين دامعة ليكشف ضوء الشمعة المتراقص عن صورة لفادي وهو يرتدي الزي العسكري، وقد وضع شريط اسود على احد زواياها، وفي الطرف كتب تاريخ استشهاده).
5- بقايا امرأة: نص يحمل مقاربة رمزية وفكرية ذكية، بين امرأة مغلوبة على أمرها، تعيش حياة زوجية سيئة للغاية وبين عصفور حبيس قفص صغير ينشد الحرية.. استخدام الجمل الإنشائية في هذا النص أعطاه صفة تقريرية مباشرة جعلته يقترب بطريقة وأخرى من النص المسرحي كما في هذا الحوار بين البطلة والعصفور الحبيس (أما أنا فمكبلة هنا، لم أحاول قط الانتفاض على الواقع المر الذي أعيش فيه وفك قيودي والخلاص).