18 نوفمبر، 2024 1:37 ص
Search
Close this search box.

ساعات عشتها مع محاولة “عارف عبدالرزاق” الإنقلابية الأولى

ساعات عشتها مع محاولة “عارف عبدالرزاق” الإنقلابية الأولى

تمــهـيـــــــد
خدمتُ برتبة “ملازم” منذ (تموز/1964) ضابطاً في فوج الحرس الجمهوري الأول المكلـّف بالحفاظ على نظام حكم الرئيس “عبدالسلام محمد عارف”، وهو الوحدة العسكرية الوحيدة الـمُناطة إليها مسؤولية حماية القصر الجمهوري في “كرادة مريم” ومبنى الإذاعة والتلفزيون في “الصالحية” ومسكن عائلة الرئيس في “الأعظمية”، وسجّلتُ يومياتي لسنتين متتاليتين في ذلك العهد.
ومع تجاوزي العقد السابع من عمري إستشعرتُ ضرورة إستذكار ما سطرته في تلكم الأيام لأقدمه أمام أنظار القراء الكرام على شكل دراسات ومقالات طويلة أحاول من خلالها تسليط بعض الضوء على محطات يجدر التوقف عندها ليكون متابعو تأريخ العراق المعاصر وباحثوه من طلبة الدراسات الجامعية العليا بشيء من الصورة عن العديد من المواقف التي فرضت نواعمها وأوزارها السياسية بأشكال أشبه بروايات الدراما والتراجيديا والكوميديا الهادفة لوقائع متسلسلة لم تـُكشَف عن أسرارها -لأسباب أو لأخرى- في غضون (5) عقود مضت وما زالت، كي يتمتع المتابعون بما يُنشَر بسبق إعلامي في قراءتها.وحسب علمي ومتابعاتي فإن أي أحد لم يسبقني في هذا الشأن، لذلك فضّلتُ أن أصبّ باكورة كتاباتي على وقائع عشتُها بشخصي ورأيتُها بعيني وأحداث أُخريات كتبتها بأناملي في تلكم الأيام والساعات التي تعايشتُ معها، أو أسراراً لهثتُ وراءها في غضون (المحاولة الإنقلابية الأولى) التي أقدَمَ عليها “عميد الجو الركن عارف عبدالرزاق” ذو المناصب الخمسة ((رئيس الوزراء+وزير الدفاع، قائد القوة الجوية+عضو المجلس الوطني لقيادة الثورة+أحد نواب رئيس الجمهورية)) وذلك في منتصف (أيلول1965)، متطرّقاً إلى الأسباب الـمُبهمة وراء إخفاقه مع كبار مؤازريه في تحقيقها، وذلك فضلاً عن آراء العديد من كبار صانعي القرار والأحداث ممن كانوا  أقرب المقربين  إليه.
“عارف عبدالرزاق” رئيساً للوزراء                                     

في عراق منتصف الستينيات من القرن/20 المشوب بالمفاجآت والصراعات لـ(7) سنوات منصرمات منذ الإطاحة بالعهد الملكي (14تموز/يوليو1958)، كان بادياً على سطح ساحة العراق السياسية المتلاطمة بأمواجها أن العلاقات القائمة بين رئيس الجمهورية “المشير الركن عبدالسلام محمد عارف” وكتلة الضباط القوميين/الناصريين لربّما عادت الى بعض مجاريها بشكل أو بآخر، بعد أن رَجَّـتْها أزمة (تموز1965) الوزارية رجّـاً غير مسبوق في العلن.بل كانت هناك مفاجأة أكبر إنفلقت مساء الاثنين (6أيلول/سبتمبر/1965)، عندما كان الألوف من العراقيين جالسين أمام التلفاز وهم يشاهدون الرئيس “عبدالسلام عارف” مستقبلاً رئيس الوزراء المُستقيل “الفريق طاهر يحيى” مع كامل أعضاء وزارته الثالثة، وإلى جانبه رئيس الوزارة الجديدة التي كُلِّفَ بتشكيلها “عميد الجو الركن عارف عبدالرزاق” قائد القوة الجوية وعضو المجلس الوطني لقيادة الثورة، وبرفقته (15) وزيراً يحملون حقائبهم.. وهم:-
عارف عبدالرزاق- رئيساً الوزراء ووزيراً للدفاع وكالة.
عبدالرحمن البزّاز- نائباً لرئيس الوزراء، ووزيراً للخارجية، ووزيراً للنفط وكالة.
سلمان عبدالرزاق الأسود- وزيراً للمالية.
اللواء عبداللطيف جاسم الدراجي- وزيراً للداخلية.
حسين محمد السعد- وزيراً للعدل.
خضر عبدالغفور- وزيراً للتربية.
جمال عمر نظمي- وزيراً للعمل والشؤون الإجتماعية.
الدكتور عبداللطيف البَدري- وزيراً للصحة.
الدكتور محمد ناصر- وزيراً للثقافة والإرشاد.
إسماعيل مصطفى- وزيراً للمواصلات، وللشؤون البلدية وكالةً.
أكرم الجاف- وزيراً للزراعة.
عبدالرحمن القيسي- وزيراً للإصلاح الزراعي، وللأوقاف وكالةً.
جعفر علاوي- وزيراً للأشغال والإسكان.
شكري صالح زكي- وزيراً للإقتصاد.
مصطفى عبدالله- وزيراً للصناعة، وللتخطيط وكالة.
الدكتور عبدالرزاق محي الدين- وزيراً للوحدة.
سلمان الصفواني- وزيراً للدولة.
كان التغيير الوزاري أساسياً وجذرياً طال معظم الوزراء عدا إثنين فحسب، وهو يُشير إلى سياسة حكومية خارجية وداخلية جديدة، ما دام قد إشتمل حقائب “الخارجية، الدفاع، النفط، المالية، الثقافة والإرشاد”، إذْ لم يحتفظ بمنصبَيهما السابقين سوى وزيرا الداخلية “اللواء عبداللطيف الدراجي” والوحدة “الدكتور عبدالرزاق محي الدين”.فوجئ الشارع العراقي بهذا الخبر، من حيث أن كل تغيير وزاري، أو حتى التعديلات الوزارية التي أُجريت في السنوات الماضيات، كان تسبقه شائعات وتلميحات وتحليلات وسط البعض من الصحف اليومية… ولربما يعود سبب ذلك الى إنشغال العراقيين بأخبار القتال الدائر، الذي أمسى على أَوُجِّه في شمال وطنهم الحبيب بين وحدات الجيش وألوف المسلحين الأكراد الذين يتزعّمهم “ملاّ مصطفى البارزاني” منذ مطلع صيف العراق المقرف… والحرب الواسعة التي باتت تدور رحاها بين “الهند وباكستان” على طول حدودهما مع مطلع ذلك الشهر (أيلول/سبتمبر)، حيث يتبادل الطرفان كذلك القصف الجوي على مدنهما الآهلة بالسكان… هذا إضافة الى وفاة الزعيم الوطني “رشيد عالي الكيلاني” قبل ذلك بأيام معدودات، والذي شارك عشرات الآلاف من محبّيه في تشييع جثمانه يوم الإثنين (30 آب/أغسطس/1965).وفي كتاب التكليف الذي عَنوَنَه رئيس الجمهورية إلى رئيس الوزراء الجديد، نقرأ نقطتين مهمّتين، هما:- العمل على تحقيق الرفاه التام لأبناء الشعب كافة في ظلّ “إشتراكية عربية رشيدة” تهدف إلى زيادة الإنتاج وعدالة التوزيع، وترعى “القُطّاعَين العام والخاص” في آن واحد. الإسراع في تحقيق الحياة الديمقراطية وتشكيل المجلس الوطني.
ومما جلب الأنظار في هذا التغيير أيضاً، هو إستقبال رئيس الجمهورية لرئيسي الوزارتَين مع كامل أعضاء وزارتيهما، ظهر ذلك اليوم (6أيلول1965)، وتناولهم طعام الغداء معاً على موائد القصر الجمهوري، والذي أُعتُبر سابقة جديدة لم يشابهه تصرّف مثيل في التغييرات الماضية، ليس في ظروف الإنقلابات والثورات والإنتفاضات، بل حتى في الحالات الإعتيادية أيضاً.
لماذا “عارف عبدالرزاق” بالذات؟؟؟
قد يتساءَل أي متتبّع لأوضاع العراق، وخصوصاً خلال عام (1965)، والخلافات القائمة بين رئيس الجمهورية وكتلة الضباط القوميين بزعيميه “صبحي عبدالحميد وعارف عبدالرزاق”، وبالأخص بعد إحتدامها بسبب “أزمة تموز الوزارية” -والتي لم يَمْضِ عليها شهران- عن الأسباب التي حَدَتْ بـ”عبدالسلام عارف” بأن يكلّف من أمسى خصماً سياسياً قوياً له، بتشكيل وزارة جديدة خلفاً لصديقه “الفريق طاهر يحيى” أو شخصيات أخرى لهم ثقلهم السياسي ومداركهم وخلفيّاتهم الثقافية وشهاداتهم الجامعية التي لا تُضاهى.للسيد “صبحي عبدالحميد” رأي خاص في أسباب تكليف “عبدالسلام عارف” لـ”عارف عبدالرزاق” لتشكيل الوزارة دون أي شخص آخر:-
((كان “عبدالسلام عارف” قد إتخذ قرار التخلّص من كتلتنا قبل أن نُقدِّم تلك الإستقالات الجماعية التي تسبّبت في إنبثاق “أزمة تموز” الوزارية، وذلك بتمزيق الكتلة من داخلها، حين بدأ يتقرّب من “عارف عبدالرزاق” -ذي المنصب الخطير (قائد القوة الجوية)- محاولاً كسبه إلى جانبه تمهيداً لإبعاده عن قادة الكتلة… فقد أوعَز إلى “العميد سعيد صليبي” قائد موقع بغداد و”العقيد حميد قادر” مدير الشرطة العام – وهما صديقا “عارف عبدالرزاق” الحميمين- بالتأثير عليه وإستمالته… فَسايَرَهُم “عارف عبدالرزاق” وصمّم أن يكشف جميع خطط “عبدالسلام عارف” ونيّاته ومناوراته، متردّداً عليه دوماً ومُبدياً له الودّ والإخلاص، ومحاولاً -في أول الأمر- نصحه وإعادته إلى النهج القومي السليم، ومؤكّداً أن الجميع يحبّونه ويحترمونه، وأن معارضة قادة “الكتلة القومية” لبعض قراراته ليس وراءها من دافع سوى الحرص على المصلحة العامة.
وخلال الأيام الأولى من شهر (أيلول/سبتمبر1965) إستدعى الرئيس “عبدالسلام” وزير الدفاع “اللواء الركن محسن حسين الحبيب” ليسلّمه قائمة أسماء تشتمل على (10) ضباط، طالباً نقلهم إلى خارج “بغداد”.. وكان على رأس القائمة عدد من قادة كتلة الضباط القوميين، وهم العقداء الركن:- “محمد مَجيد” سكرتير رئيس أركان الجيش.
“هادي خماس” مدير الإستخبارات العسكرية.
“محمد يوسف طه” مدير الحركات العسكرية.
“عرفان عبدالقادر وجدي” آمر الكلية العسكرية.
لم يقتنع وزير الدفاع -بعد أن تشاور مع زميله وزير الخارجية اللواء الركن ناجي طالب- بتنفيذ الأمر.. ولمّا أيْـقَنا غرض “عبدالسلام عارف” من ذلك، قرّرا تقديم إستقالتَيهما من منصبَيهما المهمّين.. رافضَين أن يتحوّلا إلى “مِعوَل” بيد “عبدالسلام عارف” لتهديم علاقاتهما الحسنة القائمة مع زملائهما الضباط وأقران أولئك الوزراء الذين إستقالوا من مناصبهم أوائل (تموز/يوليو1965)… وهكذا إنهارت وزارة “الفريق طاهر يحيى” بخروج وزيرَين آخرين منها… أوانئذٍ، وللحيلولة دون السماح بفراغ سياسي في العراق يؤثّر على سمعته الشخصية، فقد عَجَّـل “عبدالسلام عارف” في تكليف “عارف عبدالرزاق” قائد القوة الجوية بتشكيل الوزارة الجديدة)).وفي الشأن نفسه، يتحدث السيد “ناجي طالب” كذلك، قائلاً:- 
((أعتقد أن تكليف الرئيس “عبدالسلام” لشخص “عارف عبدالرزاق” بتشكيل تلك الوزارة لم يكن سوى محاولة منه لتقريبه إلى جانبه بغية إحداث شرخ في صفوف “الكتلة القومية” التي أمسى “عارف عبدالرزاق” يقودها، وذلك بهدف إضعافها أو إنهاء نشاطها السياسي، بعد أن تم ذلك نظرياً بإلغاء البند الخاص بـ”المجلس الوطني لقيادة الثورة” في الدستور المؤقت، والذي كان بعض أبرز قادة تلك الكتلة أعضاء دائمين ومتحكّمين فيه.
تلك من ناحية.. ولكن من ناحية أخرى، يُحتمل أن “عارف عبدالرزاق” هو الذي إستطاع إغراء الرئيس “عبدالسلام عارف” بطريقة أو بأخرى، كي يكلّفه دون غيره بتشكيل الوزارة، ليتسنى له ولكتلته القومية السيطرة على السلطة في قادم الأيام، إذ تبيّن ذلك جلياً في محاولته الإنقلابية التي قادتها “الكتلة” بعد أقل من أسبوعين من تشكيل وزارته هذه)).أحداث سبقت المحاولة الإنقلابيةعندما نستقرئ الأحداث التي سبقت المحاولة الإنقلابية، يتبيّن -وفق رؤيتنا- وكأنّ الأمور التي وقعت لم تكن متسارعة فحسب، بل بدت وكأنها مُرَتّبة مسبقاً.. إذْ يمكن إيجازها فيما يأتي:-
أولاً: الإعلان يوم (7أيلول/سبتمبر)، بأن “عارف عبدالرزاق” سوف لن يحضر إجتماعات مؤتمر القمّة العربي/3 المقرر عقده في “المغرب” يوم (13أيلول)، وذلك على الرغم من تسمية وزير الدفاع السابق (اللواء الركن محسن حسين الحبيب)-بإلاسم- ضمن تشكيلة الوفد العراقي منذ يوم (25آب/آغسطس).. إذْ يفترض في هذه الحالة أن يحضر وزير الدفاع اللاحق بدلاً من السابق.
ثانياً: إلغاء “المجلس الوطني لقيادة الثورة” المتشكّل منذ (آذار/مارس/1964) -بمثابة أعلى سلطة تشريعية في الدولة العراقية- وذلك بمرسوم جمهوري صدر يوم (/9أيلول)، وإناطة سلطاته التشريعية الى مجلس الوزراء الجديد وفقاً لتعديل محدّد على الدستور المؤقت.ثالثاً: وفي اليوم نفسه (9/أيلول)، ووفقاً لمرسوم جمهوري خاص، أُجري تعديل آخر مهم على الدستور المؤقت، فيما يأتي نصّه:- ((يشكّل رئيس الجمهورية -عند غيابه عن العراق، أو عند تعذّر قيامه بواجباته لسبب ما- مجلساً جمهورياً للنيابة عنه، قوامه ثلاثة أعضاء يختارهم من بين أعضاء مجلس الوزراء أو مجلس الدفاع الوطني، أو منهما معاً)).
رابعاً: وبعد يومين صدر مرسوم جمهوري آخر (11/أيلول)، يقضي بتشكيل “مجلس الدفاع الوطني” من أصحاب المناصب الآتية:-1- رئيس الجمهورية – رئيساً للمجلس.

2- رئيس الوزراء – نائباً لرئيس المجلس.3- وزير الدفاع.
4- وزير الداخلية.
5- وزير الخارجية.
6- وزير المالية.
7- رئيس أركان الجيش.

8- قائد القوة الجوية.
9- قائد القوة البحرية.
وإستناداً إلى تلكم التعديلات والمراسيم الجمهورية، فقد غدا “عارف عبدالرزاق” -ناهيك عن منصبَيه السابقَين- نائباً لرئيس مجلس الدفاع الوطني المتشكّل حديثاً بحكم كونه رئيساً للوزراء، بل وأهم عضو فيه، لكونه وزيراً للدفاع وقائداً للقوة الجوية معاً، إذْ لم يتم تعيين خلف له لتلك القيادة بعد تسنّمه منصبه الجديد، ولم يُسنَد القيادة تلك إلاّ “وكالة” لضابط مهندس بحكم القدم العسكري.خامساً: تبع ذلك المرسوم الصادر يوم (11/أيلول/1965) مرسوم ثانٍ باليوم نفسه، نصّ على تشكيل “مجلس جمهوري” للنيابة عن رئيس الجمهورية مدة غيابه عن العراق لحضور إجتماعات مؤتمر القمة العربي/3.. ويُخَوَّل بالتوقيع على المراسيم الجمهورية جميعاً (عدا ما يتعلق بإقالة الوزارة أو قبول إستقالتها أو تأليفها)، وذلك من:-1- عارف عبدالرزاق – رئيس الوزراء، وزير الدفاع وكالة.2- عبداللطيف الدارجي- وزير الداخلية.3- اللواء عبدالرحمن عارف – رئيس أركان الجيش وكالة.تشكيلة الوفد العراقيرافق الرئيس “عبدالسلام عارف” إلى مؤتمر القمة العربي الثالث في “الرباط” الشخصيات الآتية:-
1- السيد عبدالرحمن البزاز- نائب رئيس الوزراء/وزير الخارجية/وزير النفط وكالة.
2- شكري صالح زكي- وزير الإقتصاد/الأمين العام للقيادة السياسية الموحَّدة مع “مصر”.
3- حسن الدُجَيلي- سفير العراق في المملكة المغربية.
4- الدكتور بديع شريف- رئيس ديوان رئاسة الجمهورية.
5- العميد الركن محمود عريم- قائد الفرقة المدرعة الثالثة.
6- العميد زاهد محمد صالح-المرافق العسكري الأقدم لرئيس الجمهورية.
7- عبدالله مجيد- سكرتير عام ديوان رئاسة الجمهورية.
8- عبدالجبار الهَدّاوي- نائب رئيس التشريفات.
9- الدكتور محمود علي الداود- المدير العام للدائرة العربية في وزارة الخارجية.
10- عبدالودود الشيخلي- المدير العام لدائرة التشريفات في وزارة الخارجية.

رئيس الجمهورية يغادر إلى “الرباط”

كنتُ في صباح يوم الأحد (12/أيلول/سبتمبر/1965) ضابطاً برتبة “ملازم ثانٍ” حاملاً لراية العراق ضمن تشكيلة حرس الشرف، وواقفاً أمام ثلّة حرس مؤلفة من (3) ضباط و(98) من المراتب، وذلك ضمن إجراءات مراسيم التوديع الرسمية الإعتيادية لرئيس الجمهورية وهو يغادر القطر من “مطار بغداد الدولي وسط العاصمة، والتي طالت حوالي ساعة كاملة منذ وصوله أرض المطار ولحين صعوده سلّم الطائرة.
أقلعت طائرة “الرف الجمهوري” الخاصة من طراز “توبوليف-124″، والتي قادها “الرائد الطيار عدنان أمين خاكي”، في رحلة دامت أكثر من ساعتين، قبل أن تهبط في مطار “القاهرة الدولي”، ويستقبله “المشير عبدالحكيم عامر” النائب الأول لرئيس ج. ع. م/القائد العام للقوات المسلحة، وسط مراسيم من الدرجة الأولى.. وفي طريقها إلى “المغرب” هبطت كذلك في مطار “الجزائر” العاصمة، حيث إستقبله الرئيس الجزائري الجديد “العقيد هواري بومدْيَن”، وقبل أن تصل مساءً إلى “الرباط” حيث كان في إستقباله “الملك الحسن الثاني”،
بدء إجتماعات القمة العربية
مرّت الأيام (14،13،12/أيلول/سبتمبر) بسلام ومن دون أي طارئ يذكر، إذْ كنا نستمع للأخبار أو نقرأها ونشاهد كذلك وصول الملوك والرؤساء العرب إلى”الرباط” تباعاً، ونُعقّب تحرّكاتهم وإبتساماتهم ومجاملاتهم عند بدء إجتماعات مؤتمر القمة العربي/3 في الصحف وشاشات التلفاز، وعمّا كانت تدور في أروقته من لقاءات هامشية ومناقشات حادّة، وما طرحه السيد “أحمد الشُقَيري” -رئيس منظمة التحرير الفلسطينية- من آراء ومقترحات طَموحة، وما أبداه آخرون من أفكار وخطوات وإستحضارات لحرب قادمة مع الكيان الصهيوني خلال مدة لا تزيد على سنتَين لتحرير كامل التراب الفلسطيني… وتلكم التقوّلات التي دارت على وجه الخصوص عن مقترحات مُستَغرَبة غير مسبوقة على لسان الرئيس التونسي “الحبيب بورقيبة” بضرورة فتح حوار مع “إسرائيل”وصولاً إلى التصالح معها، والتي هَيَّجَت مشاعر الجماهير العربية والإسلامية على السواء.إنذار مفاجئ وحالة تأهب قصوى
كنا، بطبيعة الحال -وكما هو الحال في جميع وحدات الحرس الجمهوري أو الملكي أو الرئاسي لدول العالم كافة، وخصوصاً دول العالم الثالث- نتسلّم بين آونة واُخرى أوامر تقضي بإتخاذ تدابير يقظة وحذر في الأيام التي تتوفر فيها معلومات عن إحتمال حدوث محاولة إنقلابية أو تحرّكات مشبوهة قد يقوم بها هذا أو ذاك… ولكننا -نحن صغار الضباط- لم نكن نطّلع بطبيعة الحال على الجهة المُخبِرة أو الفئة السياسية المُحدّدة أو الأشخاص المناوئين المحتملين، بل كان الواجب في مثل تلكم المواقف أن نتسلم الأسلحة والأعتدة من المشاجب وننتشر حسب خطة موضوعة سلفاً كنا قد أجرينا ممارسات عديدة لتنفيذها، وفي مواقع محددة لكل سرية وفصيل حوالي القصر الجمهوري وعلى مقتربات تؤدي اليه، أو قد تشكّل خطراً عليه… ولكني لم أُصادف حالة من الإنذار والتأهب طيلة أكثر من (13) شهراً مضت على مباشرتي بالخدمة في الحرس الجمهوري سوى مرّتين، لم يحدث خلالهما أي أمر خطير ولا إطلاق نار، إذْ لم نخرج حتى من ثكنة الفوج إلاّ لمجرد التفرّق في المواقع المحددة… ولكن المرة الوحيدة التي حصل فيها تطبيق خطة أمن وحماية القصر الجمهوري من خارجه، هي تلك التي لم نكن قد بُلِّغنا قبلها بأي إنذار!!!.
كان ضباط فوجنا -عدا أولئك الذين كانوا قد غادروا المعسكر إلى منازلهم منذ ظهر يوم الأربعاء (15/أيلول)- جالسين بكامل قيافتهم العسكرية في حديقة الثكنة، يتداول بعضهم أحاديث عامة، ويتابع آخرون برنامج التلفاز الإعتيادية، بينما يمارس آخرون لعبة “الطاولي” و”الدومينو” أو “تنس الطاولة”، حينما فوجئنا في حدود الساعة الثامنة مساءً بطلب آمر الفوج “الرائد الركن عبدالرزاق صالح العبيدي” حضور المساعد وآمري السرايا الجالسين معنا في مكتبه فوراً.
ساد الصمت الجميع، وتركنا ألعابنا من دون أن ينبس أحدنا ببنت شفة بوجوه تكدرت وشابها القلق… فالإستدعاء غير إعتيادي، وقلّما كان آمر الفوج، المعروف بهدوئه، يطلب كبار ضباط الفوج بهذا الأسلوب ليلاً…. إذاً، فهناك ثمّة شيء خطير قد حدث، أو أن أمراً كبيراً على وشك الحدوث. 
لم تَمضِ سوى بضع دقائق حتى عاد آمرو السرايا مسرعين، وصاحوا من بُعد عشرات الأمتار على الضباط جميعاً بالتوجّه ركضاً إلى قاعات منام جنودهم، وأن يتسلّم الجميع الأسلحة والأعتدة حالاً والتوجه كلٌّ لقاطعه وفقاً لخطة الطوارئ.
سادت الثكنة، بجميع شوارعها وأروقتها وممرّاتها وقاعات منامها، حركة هائلة، حيث أسرع المراتب إرتداء ملابسهم وتجهيزاتهم، ووقفوا ضمن صفوف طويلة ليخطفوا بسرعة أسلحتهم من المشاجب.
إجتمع كل فصيل على حِدَة، وقاد كلٌّ منّا فصيله بالهَروَلة إلى موقعه المحدَّد، وإنتشر البعض على رصيفي الشارع العريض العام المار من أمام القصر الجمهوري بإتّجاهي الجسر المُعَلَّق وجسر الجمهورية، وآخرون بإتجاه الطريق المؤدي إلى “قاعة الخلد” والمنطقة المشجرة المحيطة بها… حيث أمسَينا مستعدين لتنفيذ أي أمر يصدر بفتح نيران أسلحتنا كافة تجاه أية أرتال أو مجاميع جنود أو أشخاص يمكن أن يتقدّموا نحونا، وبأقصى ما يمكن من الشدّة… وعندما وقفتُ أمام آمر سريتي “الملازم أول يوسف خليل أحمد” متسائلاً عن السبب الذي دعانا لإتخاذ كل هذه الإجراءات، فإنه لم يستطع -كالعادة- الإجابة، فلم يكن على علم مما يجري وراء الكواليس أسوة بآمري السرايا جميعاً وصغار الضباط.
ومن الجهة المقابلة لمبنى القصر الجمهوري، كنا نسمع هدير محركات دبابات عديدة باتت تتحرك من داخل ثكنتها المؤقتة، بواقع سرية دبابات واحدة مؤلفة من (15) دبابة من طراز “ت-54” سوفيتية الصنع، تشكّلت خلال الأشهر الأخيرة كنواة لكتيبة دبابات الحرس الجمهوري بقيادة “الرائد الركن فيصل عبدالحليم”، حيث إتخذ عدد منها مواقع حول سياج القصر، فيما إصطفت أخريات نَسَقاً واحداً قبالة القصر على الرصيف، وأطفأت محركاتها… وكان أقرب رعيل دبابات من قاطع سريتنا بقيادة زميلي “الملازم سمير أحمد أيوب”.
كان المنظر العام رهيباً، بل ومُرعباً، وسط صمت هائل ومنع تجوال غير مُعلَن، واللذان خَيَّما على منطقة “كرادة مريم” عموماً، وبالأخص عندما قطعنا الشارع العام مانعين مرور السيارات والأهلين، ما أوحى إلى قرب وقوع معركة وشيكة دامية بيننا – نحن الحرس الجمهوري- وبين قطعات أُخرى من جيش العراق قد يتقدم نحونا… وكذلك بين دباباتنا وأخريات عراقيات قد تتشابك في محيط القصر الجمهوري لتحاول قلب نظام الحكم، حيث لا بدّ وأن مذبحة ستفرض أوزارها ويكون وقودها شباب لا ناقة لهم في كراسي السلطة والمتصارعين على الجلوس فوقها، ولا جمل.
ساعات من الإنتظار والقلق
مضت ساعات الليل ثقيلة على نفوس الضباط والمراتب المنتشرين في العراء أو قرب السياج… فالجنود يمسكون أسلحتهم بين أيديهم، بينما يحثهم ضباط الصف على الإنتباه وعدم التراخي… فيما الضباط يترقبون بأسماع منتبهة إلى أي صوت غير عادي، وأنظارهم متّجهة إلى أية حركة قد يُشكّ في أمرها.
قادة يجتمعون على الأقدام 
إنتصف تلك الليلة، ومضت ساعات أخرى، حين رأيتُ آمر لواء الحرس الجمهوري “العقيد الركن بشير عبدالرزاق الطالب” وبصحبته آمر فوجنا “الرائد الركن عبدالرزاق صالح العُبيدي” وقد وقفا بالإستعداد وأدّيا تحية عسكرية نحو ضابط أوقف سيارته العسكرية الفخمة بالقرب منهما… لم أستطع تشخيصه أول الأمر، ولكنه كان “العميد سعيد صليبي” قائد موقع بغداد وآمر الإنضباط العسكري، بجسده الضخم وقوامه الطويل ووجهه الجميل، وأحد أكثر المقربين من شخص “عبدالسلام عارف”، تصاحبه سيارتان عسكريتان تابعتان للإنضباط العسكري من طراز “دوج باور”، وعلى متنهما حوالي (20) من جنود الإنضباط المدجّجين بأسلحتهم الشخصية الرشاشة. 
لم تَمْضِ سوى دقائق حتى إنضّم إليهم آمر كتيبة الدبابات “الرائد الركن فيصل عبدالحليم” الذي أتى مُسرِعاً على قدمَيه قبل أن تحضر سيارتان “جيب” عسكريتان مُسرِعَتان من طراز “يوتيليتي UTILITY” تحملان هوائيّات عالية لأجهزة لاسلكية… ترجّل من إحداهما “المقدم إبراهيم عبدالرحمن الداود” آمر فوج الحرس الجمهوري/2، ومن ثانيتهما “المقدم داود مْجَيِّد” آمر فوج المشاة الآلي/2 المُرابط في “معسكر الوشاش” والتابع أصلاً الى اللواء المدرع/10 المنتشر في البعض من بقاع شمالي العراق… فتراصفوا جميعاً على الرصيف المقابل لقاطع فصيلي قرب سياج القصر الجمهوري المُطل على الشارع العام لمنطقة ” كرادة مريم” حيث كانت بضع عشرات من الأمتار تفصلني عنهم.ظلّ “العميد سعيد صليبي” المتحدّث الوحيد، ويبدو أنه هو الذي تَرأَّس ذلك الإجتماع -الذي بدا رسمياً جداً- وبعيداً عن الأسماع والأنظار والمكاتب الرسمية، بينما إستمع الآخرون وقوفاً لحوالي ثلث ساعة، قبل أن يتفرّقوا بسياراتهم العسكرية على عَجَل كلٌ بإتجاه. 
كنّا مع جنودنا، ما زلنا في وضع تهيّؤ ومراقبة، حتى بانت خيوط فجر الخميس (16/أيلول/1965)، ولكن عدداً غير قليل من الجنود كان قد أعياهم السهر، فخلدوا إلى الغفوة جلوساً لبعض الوقت… لم نكترث لذلك، فواقع الحال -في نظري- أنه لو حدث أي طارئ، فإنهم سينتبهون فوراً دون أدنى شك… فالمُغامرون ليسوا على بعد بضعة أمتار، وأن أولئك الذين يمكن أن يتقدّموا نحونا سننتبه إليهم قبل تقربهم منا بمئات الأمتار.
مع الضياء الأول، صدرت الأوامر الشفهية بضرورة الحيطة والحذر والإنتباه الأشد… ولكننا لم نسمع أي إطلاق نار من قريب أو بعيد حتى سطعت الشمس وأنارت الدنيا، ومضى الوقت حتى قارب الساعة الثامنة صباحاً، وبدا الوضع هادئاً، إذْ بُلِّغنا بجمع نصف موجود مراتب فصائلنا ليعودوا الى الثكنة وينالوا قسطاً من الراحة قبل أن يتهيّأوا للمرابطة بعد الظهر، بدلاً من الذين سيرابطون في الخارج حتى منتصف النهار. العودة إلى الثكنة
كانت الساعة السادسة مساءً، عندما تسلّمنا أوامر لاحقة بعودة الجميع الى الثكنة، ولكن من دون أن يُفتَح الشارع العام لمرور السيارات الأهلية والمارة حتى ظهيرة يوم الجمعة (17/أيلول).. أوانئذٍ، حمدنا الله سبحانه وتعالى وشكرناه على نعمة الأمان، فبات الجنود على أسرّتهم مُتعَبين وأسلحتهم على مقربة من رؤوسهم تَحَسُّباً لأي طارئ… فحالة الإنذار والتأهّب ما زالت سارية.
مؤتمر آمر فوج
إستقرّ الجميع في الثكنة مساء الخميس (16/أيلول/1965)، وبعد أن تناولنا بعض الطعام الذي بدا لذيذاً للغاية إثر إجهاد متواصل لـ(24) ساعة متتالية، طلب آمر الفوج حضور جميع الضباط في “البهو”، حيث بادر إلى توضيح الأمور الآتية بكل صراحة:-
أولاً- أن مؤامرة كبيرة وخطيرة، حاول بعض كبار مسؤولي الدولة تنفيذها، مستغلّين غياب السيد رئيس الجمهورية عن الوطن.ثانياً- ((قادة المؤامرة)) هم:-
عميد الجو الركن عارف عبدالرزاق- رئيس الوزراء وأحد نواب رئيس الجمهورية.
العقيد الركن هادي خماس- مدير الإستخبارات العسكرية.

العقيد الركن عرفان عبدالقادر وجدي- آمر الكلية العسكرية.
المقدم الركن رشيد محسن- مدير الأمن العام.
المقدم فاروق صبري عبدالقادر- معاون مدير الإستخبارات العسكرية.
الرائد عبدالأمير الرُبَيعي- أحد ضباط الدبابات الأقدمين بمعسكر “أبي غريب”.
ثالثاً- تمكّن عدد من مسؤولي الدولة المخلَصين للسيد رئيس الجمهورية، وعلى رأسهم” العميد سعيد صليبي” قائد موقع بغداد، إفشال المؤامرة في مهدها وقُبَيل الشروع الفعلي بتنفيذها… ولما خاب أملهم توجهوا إلى”مطار الرشيد العسكري” ظهر هذا اليوم، لتقلّهم طائرة نقل عسكرية كانت مهيّأة مُسبقاً(*)، وتوجّهوا بها الى “القاهرة” مباشرة.رابعاً- على الرغم من علمنا بفشل المؤامرة تماماً ظهر هذا اليوم، فإننا لم نشأ أن نبلّغكم بذلك، ولم نرفع حالة الإنذار بشكل كلّي خشية وجود ذيول لها حتى إطمئنينا تماماً.خامساً- سنبقى في حالة تأهب وإنذار خلال الأيام القادمة داخل ثكنة الفوج، حتى يعود السيد رئيس الجمهورية الى “بغداد” بسلام.تساؤلات في النفوس فرضت نفسها
تَسمّر كل منا في مقعده مُستغرباً، وقد أخذه العجب ممّا سمع، وتبادل البعض نظرات التساؤل والعجب مع زملائه، ولربما طرح على نفسه أسئلة عديدة خلال الساعات التي تلت ختام ذلك الإجتماع، فلم يَلْقَ في صدره، أو على لسان الآخرين، أجوبة شافية أو مُقنِعة لما حدث:-
فإذا ما كان قد أوضحه السيد آمر الفوج صحيحاً، فكيف تفشل مؤامرة يشترك فيها هذا العدد من كبار مسؤولي الدولة؟! 
وكيف لم يَتَسَنَّ لشخص يشغل منصب أحد نواب رئيس الجمهورية، بل هو أهم القائمين بالنيابة عنه، ناهيك عن مناصبه الأخرى -رئيساً للوزراء ووزيراً للدفاع وقائداً للقوة الجوية- أن يستحوذ فوراً وبكل سهولة ويُسر على أمور الدولة التي هو ماسك بمعظم خيوطها أصلاً؟!!
وهل لم يستطع ذلك الشخص -والى جانبه مديرا الإستخبارات العسكرية ومعاونه، ومدير الأمن العام، وآمر الكلية العسكرية- أن يلقي القبض على شخصيات لا يتجاوز عددهم أصابع اليد الواحدة، وبأي أسلوب أو طريقة كانت… سواءً بإستدعائهم إلى مكتبه الرسمي، أو بتكليف أشخاص يحاصرونهم في مساكنهم أو مكاتبهم الرسمية؟!!
أن “عارف عبدالرزاق” الذي ظلّ محتفظاً بمنصب قائد القوة الجوية، وهي أهم قوة مسلحة يمكن أن تُستَخدَم في أية حركة إنقلابية… وأن آمري المطارات العسكرية هم من تلاميذه، أو قد عيّنهم بشخصه في تلكم المناصب، أو ممّن يأتمِرون حتماً بأوامره… إذاً، فكيف تخفق حركة إنقلابية يشترك فيها معظم أو جميع القوة الجوية؟!!
ولماذا يقدم أولئك على هذه الحركة؟! وما الذي ينقصهم؟!!.. فمن ناحية الجاه، فإنهم في مناصب يُحسدون عليها… ومن ناحية النفوذ، فلهم ذلك في جميع أنحاء العراق… ومن ناحية المال، فإنهم مكتفون ولا ريب… ومن نواحي المُعتَقَد، فإن رئيس الدولة ومعظم مسؤوليها وقادتها سائرون على نهج قومي وحدوي.
ما الذي جعل هؤلاء يستحضرون لخطوة تراجعية؟!! وممّن كانوا يخشون بحيث هيّأوا طائرة نقل عسكرية تنقلهم إلى”القاهرة” في حالة فشل حركتهم؟!!
وما دامت العلاقات القائمة بين “مصر والعراق” ودّية… فهل من المعقول أن يتقبل الرئيس” جمال عبدالناصر” تواجد متآمرين على حليفه الرئيس “عبدالسلام عارف” ويؤويهم في أرض الكنانة؟!!
عناوين مخجلة في الأخبار العالمية
على أية حال، وبينما ظلّت محطتا إذاعة وتلفزيون العراق على برامجهما الإعتيادية، كالنعامة التي تغرس رأسها في الرمل، وكأن شيئاً لم يحدث… وكعادتنا نحن العراقيين في مثل هذه المواقف الصعبة ومنذ (14/تموز/يوليو/1958) المشؤوم، ولكي نسمع أخبارنا ونطّلع على ما يجري في بلدنا، فقد حمل كل منا مِذياعه الصغير مع حلول صباح اليوم التالي (الجمعة) ليستمع إلى أخبار العراق الـمُبَثة من الإذاعات العربية والعالمية، وهو جالس ليس في “قلب بغداد” فحسب، بل في “القصر الجمهوري” نفسه الذي لم يكن يتعايش مع الأحداث فحسب، بل إنها تُصنَع في أروقته أو على مقربة منه… تلكم الأخبار التي حملت عناوين مُخجِلة ذات عبارات لا تخلو من الدسّ والـمَسّ:-
محاولة فاشلة لقلب نظام الحكم في العراق.

المتآمرون ضباط قوميّون “ناصريون”.
كبار مسؤولي الدولة العراقية مُتورِّطون في المؤامرة الفاشلة.

نائب رئيس الجمهورية العراقية ورئيس وزرائها يحاول الإطاحة غدراً برئيسه وزميله الغائب عن البلد. الثورة في العراق تأكل رجالها.
كبار رجال الحكم في “بغداد” يتآمرون على أنفسهم.
المتآمرون يهربون إلى “القاهرة” طالبين اللجوء السياسي.
“عارف عبدالرزاق” وزمرته يحصلون على اللجوء السياسي لدى “مصر”.

عودة الرئيس وإحتمال إغتياله
تواصلت حالة الإنذار والتأهّب في فوجنا وجميع وحدات الحرس الجمهوري، وكذلك الوحدات العسكرية المنتشرة في “بغداد” وحواليها طيلة الجمعة (17/أيلول/1965) دون حادث طارئ، ولكن من دون إنتشار مسلّح في الشوارع المحيطة بالقصر الجمهوري ليلاً أو نهاراً… وبينما بقيت الدبابات في مواقعها المحيطة بالقصر، فيقد فتحنا الشارع العام لـ”كرادة مريم” للسيارات والمارة على السواء، وبشكل إعتيادي.
وما يجدر ذكره في هذا الشأن أن معظم الناس قد دأبوا في مثل هذه الأيام على تخفيف تنقّلهم أمام القصر الجمهوري خشية تعرضهم لما لا يُحمد عقباه… فـ((الباب التي تأتي منها الريح، سدها وإستريح))… ولكن البعض منهم كانوا يتجوّلون بالمنطقة فُضولاً، كي يتلمّسوا بأنفسهم عمّا أُشيع ويتحسسوا من أن مؤامرة أو محاولة إنقلابية ربما جرت بحكم إنتشار الدبابات والأسلحة الثقيلة والجنود أمام القصر وحواليه بأسلوب غير مألوف في الأيام الأخرى، قبل أن يعودوا إلى عوائلهم ليتحدثوا على مسامعهم -بكل فخر- أنهم إجتازوا منطقة مليئة بالأخطار!!حرس الشرف في المطار ما أن حلّ فجر السبت (18/أيلول/1965) أُبلغنا بأن رئيس الجمهورية قد أنهى زيارته للمملكة المغربية بعد حضوره الجلسة الختامية لمؤتمر القمة العربي الثالث، وأنه سيصل بطائرته الخاصة في حدود الساعة السابعة صباحاً إلى “بغداد”… وفي حين إستحضر “النقيب كاظم عزيز” نفسه لقيادة حرس الشرف في أرض “مطار بغداد الدولي”، فقد أُبلِغتُ أن أكون “حامل علم العراق” معه -كالعادة- بينما يقوم “الملازم سعد شمس الدين خالص” بواجب المُعاون. 
حضرنا إلى المطار في حوالي الساعة السادسة صباحاً، وبقينا ننتظر وصول الطائرة حتى الساعة التاسعة دون جدوى، في حين كان الوضع في المطار وحوالَيه ليس بالشكل الإعتيادي الذي تَعَوّدنا عليه في العديد من حالات الإستقبال أو التوديع السابقة، فقد إنتشر العشرات من جنود “الإنضباط العسكري” المسلّحين بالمسدّسات والغدّارات في المنطقة المُحيطة بساحة وقوف الطائرات وعلى سطوح الأبنية المطلّة عليها… ناهيك عن جنود آخرين من فوجنا، وآخرون يرتدون ملابس مدنية ويخفون مسدساتهم تحت سِتَرهم أو قمصانهم، وهم من منتسبي فصيل الحرس الشخصي لرئيس الجمهورية.
رئيس الجمهورية في طريق العودة
كانت الساعة قد قاربت العاشرة صباحاً عندما أشار آمر فوجنا أن نتجمّع أمامه ليبلغنا ببعض الأخبار المهمة عن أحداث الساعة، وكان من أهمها:-أولاً: أن السيد وزير الصحة “الدكتور عبداللطيف البدري” -والذي تربطه بشخص رئيس الجمهورية صداقة حميمة- قد سافر إلى “الرباط” ووصلها فجر أمس (الجمعة/17/أيلول) ليبلغ سيادته بتفاصيل المحاولة الإنقلابية، ويطمئنه عن الهدوء الذي تنعم به “بغداد” إثر فشلها، وتفضيل حضوره إلى القطر بأسرع ما يمكن… لكن السيد رئيس الجمهورية رفض ترك الجلسة الختامية لمؤتمر القمة العربي/3 ليلة أمس، في حين أنه ألغى زيارته الرسمية للمملكة المغربية، والتي كانت مقرّرة لـ(4) أيام بعد إنتهاء المؤتمر للراحة والإستجمام والتجوال برفقة الرئيس “عبدالناصر” وسط عدد من المدن المغربية.
ثانياً: أن السيد رئيس الجمهورية قد غادر مطار “الرباط” بالساعة العاشرة والنصف ليلاً (بتوقيت بغداد) بطائرته الخاصة، وحطّ في مطار “الجزائر”، وأقلع منها في الساعة الواحدة والنصف ليلاً بعد منتصف الليل، وهبط في مطار “بنغازي” في “ليبيا” فجر هذا اليوم “السبت” في طريقه إلى “القاهرة”.
ثالثاً: يحتمل أن يتأخر السيد الرئيس في”القاهرة” بعض الوقت، لذلك فإن على حرس الشرف الرجوع إلى ثكنة الفوج وإنتظار أوامر لاحقة للعودة الى المطار… على أن يبقى الجميع بقيافة المراسيم على أهبة الحركة.
طال إنتظارنا في ثكنة الفوج وأصابنا بعض الملل والضجر، لا سيّما وأننا مرتدون ملابس حرس الشرف الرشيقة، والمُزعجة، منذ فجر ذلك اليوم. 
ولكن ثمّة معلومة أسَرّها إلينا “النقيب كاظم عزيز” ظهراً، تشير إلى أن السيد رئيس الجمهورية قد يتعرّض إلى محاولة إغتيال أثناء نزوله من الطائرة، أو عند وقوفه لأداء التحية على”منصة الشرف” خلال عزف السلام الجمهوري، أو لدى تفتيشه لحرس الشرف، والذي يطول في مجمله دقائق عديدة. 
لذلك طلب “ديوان الرئاسة” تزويد جميع بنادق أفراد حرس الشرف -وعددهم (98) ضابط صف وجندي- بالعتاد، على عكس جميع الحالات السابقة التي كانت البنادق مُجرَّدة من الإطلاقات. 
في ساحة المطار مجدّداً
عُدنا إلى مطار بغداد الدولي بالساعة الثالثة عصراً، حيث علمنا أن آمر لواء الحرس الجمهوري “العقيد الركن بشير الطالب” قد إتّفق مع آمر فوجنا أن يطرحا على السيد رئيس أركان الجيش وكالة “اللواء عبدالرحمن عارف” فكرة الصعود معاً إلى الطائرة فور توقّفها، ليبلغوا السيد رئيس الجمهورية بأن الظرف القائم يُوجِب إلغاء مراسيم حرس الشرف المُتعارَف عليها، وإقناع سيادته بالإسراع في النزول من سلّم الطائرة ليستقلّ سيارة خاصة تقف بمحاذاة السلّم بغية نقله إلى القصر الجمهوري مباشرةً.
وما أن حلّت الساعة الخامسة عصراً، وبينما كنا ننتظر هبوط الطائرة الخاصة لرئيس الجمهورية من طراز “توبوليف- 124” على مدرج المطار، فإذا بطائرة مدنية مصرية ضخمة تابعة للخطوط الجوية العربية المتحدة من طراز “كوميت-4C” وقد تدحرجت على المدرج، قبل أن تتوقّف في الموقع المخصص على مبعدة بضع عشرات من الأمتار عن الموقع الذي كـنا متأهبين فيه لأداء السلام الجمهوري.
وحال إلصاق السُلَّم المتنقّل بباب الطائرة، لم ينتظر “اللواء عبدالرحمن عارف” وبصحبته “العميد سعيد صليبي”، و”اللواء عبداللطيف الدراجي”، و”العقيد الركن بشير الطالب”، ومعهم آمر فوجنا، حتى أسرعوا صعوداً إلى الطائرة.

وبينما كـنا نتوقع إلغاء مراسيم حرس الشرف، إستناداً إلى المقترح المعروض على السيد الرئيس، فإذا بـ(عبدالسلام عارف) وقد أطلّ من باب الطائرة المصرية ووقف في أعلى السلَّم محيّـياً بيده المستقبلين على غير عادته في جميع المرات السابقة، حتى نزل إلى أرض المطار بكل هدوء متوجهاً الى حيث “منصة التحية” يرافقه رئيس أركان الجيش ووزير الداخلية… حينها، عزف “جوق موسيقى الجيش” بقيادة “الملازم أول عبدالسلام جميل” السلام الجمهوري العراقي، ليُجري “عبدالسلام عارف” المراسيم كاملة بجميع خطواتها ومراحلها، وقبل أن يتوجّه لمصافحة مستقبليه، ثم إلى قاعة الشرف الكبرى للجلوس فيها بعض الوقت.
وبعد حوالي ربع ساعة، وبينما كانت السيارة الرسمية السوداء الرئاسية واقفة قرب باب قاعة الشرف الكبرى ضمن الموكب الرسمي الخاص، فإذا بسيارة صالون كبيرة مكشوفة (دون سقف) حمراء اللون من طراز (لنكولن) وقد حَضَرَت لتحلّ محل تلك السيارة السوداء… إذْ صعد إليها الرئيس “عبدالسلام عارف” واقفاً على قدميه وسط حوضها الخلفي وهو يمسك بظهر المقعد الأمامي، محيّياً الجماهير التي إحتشدت على جانبي الشارع العام المؤدّي من المطار إلى الجسر المُعلَّق. من آرشيف الدكتور صبحي ناظم توفيق
عصر السبت (18/أيلول/سبتمبر/1965)
الرئيس “عبدالسلام محمد عارف” حال نزوله من الطائرة المدنية المصرية، متشاوراً مع أخيه اللواء “عبدالرحمن محمد عارف” وإلى جانبه اللواء “عبداللطيف الدراجي”، وقد ظهر “الرائد عبدالله مجيد” على سلّم الطائرة.
 من آرشيف الدكتور صبحي ناظم توفيق
عصر السبت (18أيلول/سبتمبر1965)
الرئيس “عبدالسلام محمد عارف” يصافح “العميد سعيد صليبي” بين مجموعة مستقبليه من كبار الضباط عند عودته من القاهرة بعد فشل المحاولة الإنقلابية، وقد ظهر خلفه “اللواء عبداللطيف الدراجي”.

موقف وسائل الإعلام العراقية
على الرغم من عظم هذا الحدث وخطورته وتسرّب تفاصيله إلى خارج العراق، فإن وسائل الإعلام العراقية -التي كانت تحت السيطرة المباشرة للدولة- ظلّت هادئة ولم تتقرّب إلى ذكر المحاولة الإنقلابية بشكل مطلق طيلة الأيام الأربعة التي أعقبت فشلها… بل أن صحف (الأحد-19/أيلول) نشرت أخباراً وصوراً عن زيارة الرئيس “جمال عبدالناصر” الرسمية المتواصلة للمغرب، وإلى جانبها تفاصيل عودة الرئيس “عبدالسلام عارف” من “الرباط” إلى “بغداد” جواً، 
كان الإهمال المتعمّد من لَدُن وسائل الإعلام العراقية الموجهة واضحاً، ولرّبما إستخفافاً للحركة الإنقلابية والقائمين بها، وكذلك نحو الذين ساندوهم أو آووهم في “القاهرة”… إذْ لم تُشِرْ إلى الموضوع لا من قريب ولا بعيد حتى صباح (الإثنين-20/أيلول/1965)، وذلك في بيان رسمي مقتضب نشرته، ليست في الصفحات الأولى للصحف -كما هي العادة في مثل هذه الأحداث- بل في صفحة “المحلّيات”، وفي ما يأتي نصه:- 
((بيان رسمي عن إستتباب الأمن بعد فشل المغامرة الرَعناء يوم الأربعاء الماضي:-
في الساعة العاشرة من مساء (الأربعاء 15/9/1965)، حاول نفر من المغامرين القيام بحركة تخلّ بالأمن وسلامة الدولة.
ونظراً ليقظة المسؤولين وقواتنا المسلحة، فقد أُحبِطَت المحاولة بعد فترة قصيرة ومن دون أن تُراقَ قطرة دم… وعلى إثر فشل المحاولة فَـرَّ جُـلّ القائمين بها إلى الخارج، وأُلقي القبض على الباقين.. ويأخذ التحقيق مجراه القانوني الطبيعي.
ونودّ أن نؤكد للمواطنين أن الأمن مُستَتب في أنحاء البلاد كافة، وأنه لم يحدث منذ قيام تلك المحاولة ما يُكدِّر صفو الأمن والنظام ويقلق راحة المواطنين.
ويسرّنا أن يَطمَئِنّ المواطنون جميعاً إلى أن الحكومة والقوات المسلحة قائمة بواجبها أحسن قيام، وساهرة على المصلحة العامة وراحة المواطنين)).
***********
ويبدو من نصّ البيان ان الحكومة العراقية -وذلك بعد عودة “عبدالسلام عارف” الى بغداد بسلام- لم تشأ أن تعطي للحدث أهمية تُذكَر، إذ لم تأتِ على الجهة أو الأشخاص الذين شاركوا بالمحاولة الإنقلابية، كما لم تجلب إسم “الجمهورية العربية المتحدة” والرئيس “جمال عبدالناصر” خشية حدوث مشاكل غير محمودة في أعقابها.تشكيل وزارة جديدةوفي صباح (الثلاثاء-21/أيلول/سبتمبر/1965) شَكّلَ الرئيس “عبدالسلام عارف” وزارة جديدة برئاسة السيد “عبدالرحمن البزاز” الذي إحتفظ بحقيبة “الخارجية” أيضاً، إذْ نشرت صحف الاربعاء (22/أيلول) مرسومَين جمهوريين:-الأول مقتضب للغاية نص على:- ((بناءاً على فِرار “عارف عبدالرزاق” رئيس الوزراء السابق خارج العراق، فقد أعفيناه من رئاسة الوزراء)).أما الثاني فقد أشار إلى تشكيل وزارة برئاسة السيد “عبدالرحمن البزّاز” مُستَوزِراً (4) وزراء جُدد فحسب، بينما أبقى السابقين في وزارة “عارف عبدالرزاق” بمناصبهم دون أي تغيير.كان الوزراء الأربعة الجُدد، هم: اللواء الركن عبدالعزيز العُقَيْلي- وزيراً للدفاع، ووزيراً للمواصلات وكالة.
فارس ناصر الحسن- وزيراً للعمل والشؤون الإجتماعية، (بدلاً من جمال عمر نظمي). كاظم الرَوّاف- وزيراً للعدل (بدلاً من حسين محمد السعد).
الدكتور عبدالحميد الهلالي- وزيراً للإقتصاد (بدلاً من شكري صالح زكي).
مؤتمر صحفي لرئيس الوزراء الجديد
مساء (الأربعاء-22/أيلول) عقد السيد “عبدالرحمن البزاز” مؤتمراً صحفياً تطرق خلاله – ضمن أُمور تفصيلية عديدة- إلى المحاولة الإنقلابية، إذْ ذكر أن (16) عسكرياً و(6) مدنين أُعتُقِلوا، وأن (29) عسكرياً و(12) مدنياً فرّوا في أعقاب المحاولة، وأن عدد المعتقلين الذين ما زال التحقيق جارياً معهم لا يتعدّى (20) شخصاً.. وأن العلاقات مع الجمهورية العربية المتحدة سليمة، بل وأكثر من سليمة وودّية. 

أحدث المقالات