18 ديسمبر، 2024 10:51 م

ساعات عشتها مع محاولة “عارف عبدالرزاق” الإنقلابية الثانية (30حزيران1966)؟؟؟

ساعات عشتها مع محاولة “عارف عبدالرزاق” الإنقلابية الثانية (30حزيران1966)؟؟؟

تـمــهـيــــد
بعد أن نشر لي هذا الموقع الأغر نبذة عن وقائع محاولة “عميد الجو الركن عارف عبدالرزاق” الإنقلابية الأولى (غير المسلّحة) والتي حصلت (مساء الأربعاء-15/أيلول/سبتمبر/1965)، وقد أخفق في تنفيذها -رغم كونه صاحب أربعة من أعلى المناصب في الدولة في ظلّ غياب الرئيس “عبدالسلام عارف” بعيداً عن العراق- وذلك إثر مفارقات مُستغربة وأخطاء لا تُغتفَر لغاية يومنا هذا، فغادر “بغداد” ظهر (الخميس-16/أيلول) بصحبة عدد من كبار قياديي كتلته الذين إستضافهم الرئيس “جمال عبدالناصر” في “القاهرة” بصفة لاجئين سياسيين حتى وقع ما لم يكن بالحسبان!!!

فقد صُرِعَ الرئيس “عبدالسلام محمد عارف” إثر سقوط طائرته السمتية (المروحية) مساء (الأربعاء-13/نيسان/1966) وتسنـّم شقيقه “اللواء عبدالرحمن محمد عارف” -رئيس أركان الجيش بالوكالة- مقاليد الحكم خلفاً لأخيه بعد (3) أيام.
ولحداثة الرئيس الجديد والبعض من كبار مسؤولي الدولة الذين عيّنهم لإدارة شؤون البلاد، وكون “أبا قيس” في غاية الأدب والتسامح وسموّ الأخلاق التي لا تتواءم من السياسة، فضلاً عن شيء من الهشاشة التي أصابت الأوضاع السياسية بُعَيدَ غياب رئيس قوي وحازم ومنتبه وصاحب قرار كان قد مارس الحكم لبضع سنوات وخَبُر الحياة السياسية وتعمّق -بعض الشيء- في نفسيات الساسة والطامعين في السلطة والكرسي… لذلك حاول العديد من الأحزاب والتنظيمات المناوئة -بل وحتى الصديقة- ذات الأطماع بالسلطة إستغلال هذه الفرصة السانحة فأضحت تتأهب للقفز نحو القصر الجمهوري إبتغاء الإستحواذ عليه بأي أسلوب متاح، وبات قادة الأحزاب (وكلّها غير مرخّصة) يٌرغـِّبون هذا وذاك لإبرام إتفاقات وراء الكواليس وتحقيق تفاهمات بغية التخطيط سراً لإستحصال مبتغاهم.
ركاكة الإستخبارات العراقية
خلال السنتين اللتين قضيتهما في الحرس الجمهوري (تموز/1964-تموز/1966) تعرّض نظام الحكم القائم لـ(3) محاولات إنقلابية، ولكننا لم نُبَلَّغ إلاّ عن إحداها ليلة (4-5/أيلول/1964) قبل مباشرة “حزب البعث” بتنفيذها… أما محاولة “عارف عبدالرزاق” الأولى (15/أيلول/1965) ومحاولته الثانية -موضوعة بحثنا- فإننا فوجئنا بهما ولم تردنا أية معلومة عنهما إلاّ بعد المباشرة بالتنفيذ.
وإذا ما وضعنا نصب ناظرَينا أن أولاهما جرى التخطيط لها وتبليغ القائمين بها على يد السيد “عارف عبدالرزاق” المتبوّئ لـ(4) من أرفع المناصب والأعظم حساسية في قمة هرم الدولة، من حيث كونه رئيساً للوزراء ووزيراً للدفاع وقائداً للقوة الجوية ونائباً لرئيس الجمهورية الغائب عن الوطن، وإلى جانبه مدير الإستخبارات العسكرية ومدير الأمن العام وعدد من كبار الضباط ذوي المناصب الرفيعة، ولذلك كان من شبه المستحيل الكشف عنها.
ولكن محاولته الثانية هذه كان من المفترض الكشف عنها مبكراً أو متأخراً للأسباب الآتية:-
• كان وجوباً وضع الذين أخفقوا بالمحاولة الأولى -ولو كانوا لاجئين سياسيين في “مصر”- تحت المراقبة، لا سيّما وأن معظمهم كانوا أحراراً في تحركاتهم ويسكنون في شقق متواضعة يسهل رصدهم.
• ولذلك إستطاع أولئك ترك “مصر” وسافروا بالطائرات وسواها إلى “سوريا والكويت” وتسلّلوا إلى مدن العراق الكبرى وتعشعشوا فيها لأيام عديدة ولربما أسابيع، وتحركوا وإتصلوا وتفاهموا وإتفقوا مع قادة عسكريين ومدنيين كبار من دون رقيب، ثم خططوا وتهيّأوا وبلّغوا تنظيماتهم وتمركزوا في قاعدتين جويّتين وسلّحوا عدداً من الطائرات وأقلعوا بها نحو “بغداد” حتى باغتونا في عقر ديارنا المحصّنة بضرباتهم على القصر الجمهوري ومبنى الإذاعة والتلفزيون، ناهيك عن إستحواذهم على مرسلات “أبي غريب” ومعسكرها المتاخم للعاصمة “بغداد”.
• لم ترصد الإستخبارات العسكرية والأمن العام جملة من خلايا الضباط والقادة المدنيين المنتمين لـ”الكتلة القومية/الناصرية” المنتشرين بتنظيماتهم الفعالة وسط تشكيلات القوات المسلّحة والدوائر المدنية الحساسة الذين أُوعِزَ إلبهم بالتواجد في مواقع محددة.
• وحتى أن خلية الضباط القوميين وسط كتيبة دبابات الحرس الجمهوري المتقابلة بثكنتها مع القصر الجمهوري لم يُكشَف عنها.
ولذلك فإن أقل ما يمكن قوله في هذا الشأن أن الإستخبارات العسكرية ودوائر الأمن العام كانت مخترقة ومهزوزة بمستوى هزيل للغاية وركيك إلى درجة المهزلة.
إستحضارات الإنقلاب
على أية حال فلنعد إلى بحثنا المتعلّق بالمحاولة الثانية لنجد أن السيد “عارف عبدالرزاق” قد أسرع في شدّ حزامه من منفاه الإختياري في “القاهرة” ليسبق خطى الآخرين في هذا الشأن، كي لا يتيح لسواه فرصة تحقيق هذا الطموح قبله.
أما أتباع كتلته القومية/الناصرية من ضباط القوات المسلحة الـمُنضوين بمختلف الرتب في خلاياه الغافية والمتربصة، فقد كانوا ما زالوا في الخدمة العسكرية متبوئين مناصب متنوعة وسط مؤسسات الجيش العليا وتشكيلاته المدرعة والقوة الجوية والإستخبارت العسكرية والدوائر الأمنية، مضافاً إليهم تنظيمات مدنية كفؤة تابعة لكتلته من الشباب المدنيين-القوميين المثقفين وهم مزوّدون بأسلحة خفيفة وعلى أهبة الإشارة لتنفيذ توجيهاته وأوامره، وفضلاً عن قاعدة شعبية لا يُستهان بها في المجتمع العراقي تدعم شخصه وتنظر نحو الرئيس “جمال عبدالناصر” بمثابة زعيم عربي مقتدر.
ويضاف لكل ذلك أحساس “عارف عبدالرزاق” الذاتي بضرورة ردّ إعتباره ووجوب إعادة سمعة الشخصية إثر تأثرها سلباً بعد فشله قبل (9) أشهر في تحقيق محاولته الإنقلابية الأولى، ناهيك عن كون معظم القادة العسكريين النشيطين موجودون بصحبته في “القاهرة”، ومن المؤكد أنهم كانوا ينسّقون مع المخابرات المصرية بما يسهّل لهم وضع الخطوط العريضة للإنقلاب الثاني سوية، ناهيك عن أن “مصر” لا بد وأنها ستؤيد سيطرة ضباط قوميين/ناصريين على مقاليد الحكم حال إنجاز الإنقلاب، وقد تُبادر فوراً للإعتراف بالحكومة الجديدة التي يتم تشكيلها في “بغداد”.
وحسبما ستتبيّن ((من نتائج التحقيق)) بعدئذ، أن “عارف عبدالرزاق” لم ينتظر طويلاً، فقد ترك “القاهرة” مع من إلتجأ معه منذ (أيلول/1965) الماضي متوجهين إلى “سوريا” و”الكويت”، وقد تزوّدوا بجوازات سفر مصرية تحمل أسماء مغايرة في طريقهم إلى “العراق” بالتنسيق مع المخابرات المصرية المرتبطة بشخص الرئيس “عبدالناصر”، وبتسهيلات شيوخ من أبناء عمومة السيد “عارف عبدالرزاق” المنتمين لعشائر ذات نَسَب قَبَليّ واحد تنتشر في بقاع حدودية متتاخمة بين سوريا والعراق والأردن والسعودية والكويت، وبالأخص تلك التي ينتمي إليها بشخصه، حتى إستقر عدد من كبار القادة الإنقلابيين وسط مساكن مهيأة لهم مسبقاً في قلب مدينة “الموصل” وفقاً لتفاهم مسبق مع قائد فرقة المشاة/4 “العميد الركن يونس عطار باشي” -الذي لم يُعرَف من قبل شيء عن إنتمائه لأي تنظيم سياسي- فأضحوا يبعثون توجيهاتهم إلى قادة الخلايا العسكرية والمدنية في “بغداد” والتي ظلت في غفوة مؤقتة لم تطل سوى (9) أشهر فحسب.
يوم سبق الإنقلاب
حدّد “عارف عبدالرزاق” بعد ظهر (الخميس-30حزيران) موعداً للباشرة بالتنفيذ، فكان -والحقّ يُقال- توقيتاً بارعاً وموفقاً للغاية ومُباغتاً للجميع.
وكانت من أولى الخطوات -وبالإتفاق مع طيارين محددين وبدعم قيادة فرقة المشاة/4- هي السيطرة على “قاعدة الموصل الجوية” وتسليمها بين يدي “الرائد الطيار الركن ممتاز عبدالعالي السعدون” بعد إعتقال عدد من الطيارين المشتبه في مناوءتهم للحركة المزمعة، فيما كان الإتفاق مُسبقاً مع القائد الأهم “المقدم الطيار نعمة الدليمي” آمر قاعدة الحبانية الجوية بإعتباره أحد كبار “كتلة الضباط القوميين”، فيما تقتحم جماعة مسلحة -معظمهم من صغار الضباط- ظهر اليوم نفسه مباني المُرسلات التي تُبَثُّ منها برامج الإذاعة والتلفزيون والواقعة بالقرب من بلدة “أبي غريب” غربي “بغداد” قبل الإقدام من هناك على إذاعة البيان الأول للحركة.
ومثلما شاء قدري أن أُنتـَخبَ ضابطاً لدى الحرس الجمهوري قبل حوالي سنتين من ذلك اليوم، وأتعايش مع محاولة “عميد الجو الركن عارف عبدالرزاق الكُبَيسي” الأولى (15/أيلول/سبتمبر/1965)، فقد كُتِبَ على جبيني أن أعيش معظم تفاصيل المحاولة الإنقلابية الثانية التي أقدم عليها، وذلك رغم تبليغي منذ مطلع (حزيران/يونيو/1966) بالموافقة على نقلي -وبطلب شخصي مني- إلى شمالي الوطن… فمنذ أوائل شهر (نيسان/آبريل/1966) وحتى أواخر (حزيران/1966) ولثلاثة أشهر متتاليات كانت سريتنا -بواقع (150) جندياً بقيادة “الملازم أول يوسف خليل أحمد” يعاونه (3) ضباط- ما زلنا بمهمة حماية مبنى ستوديوهات الإذاعة والتلفزيون في “حي الصالحية” وسط “بغداد”.
سلام في شمالي العراق
مساء (الأربعاء-29/حزيران) كنا -بصفتنا ضباطاً في حماية الإذاعة والتلفزيون- بإستقبال فخامة رئيس الوزراء السيد “عبدالرحمن البزاز” بكل فرح، حيث تلى بياناً ذا أهمية خاصة أسعد المجتمع العراقي كثيراً إلى جانب قواته المسلحة بإحلال السلام في شمالي البلاد بعد أن شهد معارك دموية طيلة سنوات بين أبناء الوطن الواحد، مُعلِناً إتفاقاً تم إبرامه مع “الُملا مصطفى البارزاني” لوقف إطلاق النيران المشتعلة بين الطرفين فوراً وعودة تشكيلات الجيش لثكناته الدائمية تباعاً، وتخصيص مبالغ ضخمة من ميزانية الدولة لإعمار ما خلـّفته هذه الحرب الداخلية.
بدء الحركة الإنقلابية
إنتصف نهار اليوم التالي (الخميس-30/حزيران/يونيو/1966) وأمسينا متهيئين لتسليم مهمة الحماية -بعد يومين- إلى السرية الأولى من فوجنا بقيادة “الملازم أول صلاح شاكر الأسود” لنعود مساء اليوم ذاته إلى ثكنة فوجنا لنعيد تنظيم وتدريب سريتنا بعد غياب طال أشهراً عديدة.
وحال إنقضاء الدوام الرسمي ظهراً فقد غادرَنا آمر سريتنا “الملازم أول يوسف خليل أحمد” مع “الملازم إسماعيل داود” إلى مسكنيهما كالعادة الجارية بين يوم وآخر، فيما ظلّ معي في الخفارة “الملازم عبدالجبار جسام” -المتديّن للغاية والملتزم بأصول الدين الحنيف- والذي دأب طيلة الأشهر الثلاثة المنصرمات أن يترك كل شيء على عاتقي بعد الظهر وينتقل إلى مسكنه في محلة “سوق حمادة” المتاخم للصالحية لأداء الصلوات ومختلف العبادات وتلاوة المصحف الكريم حتى يعود مع منتصف الليل ليتسلّم كل الواجبات عوضاً عني حتى الصباح، فأخلد إلى نوم رغيد بعيداً عن إزعاجات السهر وتفقّد نقاط الحراسة وأداء الدوريات.
وقصفتنا طائراتنا
بالساعة (2,30) ظهراً -وقبل أن أتناول لقمة ((الزقوم)) الأولى من وجبة الغداء- إنتبهتُ لأزيز طائرات نفاثة عديدة تحلـّق في سماء “بغداد” على غير العادة، وبالأخص وقد إنقضى الدوام الرسمي ليوم الخميس وأمسى جميع العاملين لدى دوائر الدولة -وبضمنها القوات المسلحة- متمتعين بعطلة نهاية الأسبوع، وفوجئتُ بإنفلاقات قوية عن بعد… وحالما هرعتُ إلى باحة المبنى حتى إنقضّت طائرة مقاتلة نفاثة مطلقة علينا وابلاً من إطلاقات مدفعها الرشاش وتبعتها زميلتها التي ميّزتـُها من طراز “ميك-17”.
لم يكن هناك داعٍ للصياح والصراخ وحرق الحناجر مع الأعصاب وإصدار الأوامر والتوجيهات، فقد وقع الفأس على الرأس… فحمل المراتب جميعاً أسلحتهم وهرعوا إلى مواقعهم المحددة كل ضمن حضيرته وقاطع فصيله متأهبين للقادم الأسوأ، ولم تتأخر رشاشتانا اليتيمتان “كورينوف” المنصوبتان فوق المبنى من صب صلياتهما من الإطلاقات المذنبات نحو الطائرات المنقضّة من السماء، ولكن من دون جدوىً.
ولمـّا إندفعتُ سراعاً نحو السطح الأعلى حتى شاهدت إنفلاقات وصليات الرشاشات الثقيلة وقد عمّت أجواء القصر الجمهوري الذي تتابعت عليه (4) طائرات من الطراز نفسه بضربات متتالية، فتصاعد الدخان الأسود والأبيض والرمادي من مواقع عديدة، فيما لاحظتُ “الملازم عبدالجبار جسام” مصفر الوجه -مثل حالي بالتأكيد- راكضاً نحونا متوجهاً إلى قاطع فصيله على السياج الغربي للمبنى.
من هم الإنقلابيون؟؟؟
وحالما نزلتُ سراعاَ لأشرف على قطع السير وسط الشارع العام المار من أمام المبنى، فاجأتني سيارة عسكرية فاخرة “ستيشن” وقد توقفت قرب المدخل الرئيس ليفتح ضابط برتبة “عميد ركن” بابها الخلفي، حيث وقفتُ بالإستعداد إحتراماً له وأديت التحية العسكرية، فبادرني:-
العميد الركن:- قدم نفسك؟؟؟
أنــا:- الملازم صبحي ناظم توفيق… آمر الفصيل التاسع-السرية الثالثة-فوج الحرس الجمهوري الأول…. سيدي.
العميد الركن:- هل أنتم المسؤولون عن حماية الإذاعة؟؟؟
أنــا:- نعم سيدي.
العميد الركن:- بلـّغ آمر لواءك ((بشير أفندي)) أننا اليوم معكم على مدّ الله.
أنــا(مستغرباً) :- ومن أنت؟؟؟
العميد الركن (بغضب):- ألا تعرفني؟؟؟!!! أنــا “مـحـمـد مــجيــد”.
أباح بإسمه بعد تلفظه لتلك العبارة التهديدية باللهجة العامية، فسحب باب السيارة بعنف وإنطلق بإتجاه جسر الجمهورية!!!
إستغربت لهذا الكلام المبهم والتصرف غير اللائق؟؟؟!!! ولم أعصر دماغي سوى لحظات حتى تذكرت أن “العميد الركن محمد مجيد” كان معاوناً لرئيس أركان الجيش قبل عام واحد قبل أن يُنقل لمنصب “آمر كلية الأركان والقيادة”، وهو من كبار القادة لدى “الكتلة القومية/الناصرية” التي أقدمت منتصف (أيلول/سبتمبر/1965) على محاولة إنقلابية فاشلة.
إذاَ فالحركة الإنقلابية التي بوشر بها قبل دقائق بانت هويتها.
في محيط الإذاعة والتلفزيون
لم يتأخر آمر سريتنا مع “الملازم إسماعيل” في عودتهما بالساعة (3.15)، وقتما فوجئنا -من دون إخبار مسبق- بـ(4) دبابات أتت إلينا من “معسكر التاجي” يمتطي أولاها “الرائد أحمد الجبوري” وأخرى يجلس فوق برجها زميلي الملازم “مساء خيري فجر القصير”، فتمركزت إثنتان صوب المتحف العراقي، فيما رابطت الأخريان بإتجاه الجسر المؤدي إلى “حافظ القاضي”.
لم يكن هناك موجب لإعلان أو بيان عن حظر التجوال في شوارع “بغداد”، فقد إعتاد أهلوها على معايشة مثل هذه المواقف مرات عديدة منذ (8) سنوات، فحالما سمعوا بحلول الساعة (2,30) إذاعة الإنقلابيين وهي تطلق مارشات عسكرية وأناشيد قومية لكبار الفنانين المصريين تتخلـلها بيانات (((الثورة القومية التي يقودها بطل العروبة والوحدة “عميد الجو الركن عارف عبدالرزاق -رئيس المجلس الوطني لقيادة الثورة القومية-الوحدوية))) من “مرسلات أبي غريب” التي إستولوا عليها، فقد أسرع الجميع بالعودة إلى مساكنهم ليشاركوا أفراد عائلاتهم الذين تسلّقوا سطوح المنازل متابعين مشاهد القصف الجوي وحركة العجلات العسكرية والدبابات وما تخبئه قادم الساعات لصالح هذا وطالح ذاك.
أما مؤسسة الإذاعة والتلفزيون -اللذان كنا نحميهما- فلم ينقطعا سوى بضع دقائق حتى حوّل فنـّيوها البث إلى مرسلات “سلمان باك/المدائن” لتطلقا كذلك أناشيد قومية لكبار الفنانين المصريين، كما جرت العادة في مثل هذه الأحداث التي تكررت منذ يوم الشؤم على العراق الموافق (14/تموز/1958).
مجريات الأمور في القصر الجمهوري
كانت السرية الأولى من فوجنا بقيادة “الملازم أول صلاح شاكر الأسود” وآمرو فصائله “الملازمون:- مشعل تركي الراشد، عبدالأمير عُبَيد، لطيف رشيد” مكلَّفة منذ (3) أشهر بحماية القصر الجمهوري وقد تمركز جنود فصائلها الثلاثة على أبراج حماية سياجه وتهأبت للدفاع عنه.
أما السرية الثانية بقيادة “الملازم أول قاسم محمد الصكر” وآمرو فصائله “الملازمون:- سعد عبدالهادي العساف، طالب عليوي، عبد محمود البنّا” فقد كانت في ثكنة الفوج بمثابة قوة إحتياط ضاربة، فتوزّعت فوراً حوالي القصر في كل الإتجاهات لدرء أي خطر يداهمه في تلك الساعات.
لم تكن السرية الرابعة من فوجنا متكاملة، بل كانت تحت التشكيل بقيادة “الملازم وليد جسام”، لذلك أُعتُبِرَت قوة إحتياطية مُضافة إلى السرية الثانية، واللتان سيقودهما آمر فوجنا “الرائد الركن كمال جميل عبود” لإستعادة “معسكر أبي غريب” ومرسلات الإذاعة والتلفزيون المتاخمة من أيدي الإنقلابيين، ويقبضوا على العديد من الضباط المشاركين.
وكان الدور الأهم في هذه المعمعة لسرية الإسناد بقيادة “الملازم أول سلمان شجاع الندّاوي” والمجهزة بأسلحة المشاة الثقيلة، وكما يأتي:-
• أسرع “الملازم عبد مطلك الجبوري” آمر فصيل مقاومة الطائرات بنصب رشاشاته المتوسطة “كورينوف” على سطح قاعة السرية وفتحت نيرانها الغزيرة حيال الطائرات المنقضة على القصر وثكنة الفوج، والتي من المؤكد أنها أربكت الطيارين وجعلتهم يتحذّرون عند الإنقضاض على أهدافهم.
• وزّع “الملازم سعد شمس الدين خالص” مدافع هاوناته الستة بإتجاه المقتربات المؤدية إلى القصر الجمهوري وتهيّأ لقصف أية قوات تتقدم نحوه.
• أما “الملازم قاسم فرحان” فقد أُمِرَ للإنطلاق بعيداً بـ(6) مدافع مقاومة دبابات (106ملم) ليوزعها حوالي ساحة محطة القطار العالمية للإشتباك مع أية دبابات أو مدرعات قد تتقدم من “معسكر إبي غريب” الذي سيطر عليه الإنقلابيون.
مشاهداتي في “الصالحية”
كانت الضربات الجوية متواصلة على القصر الجمهوري وثكنة فوجنا منطلقة من “قاعدة الحبانية الجوية” (65 كلم إلى الغرب من بغداد)، ومعظمها من طراز “هوكر هنتر” المقاتلة-القاصفة، وقد أطلقها آمرها “المقدم الطيار نعمة الدليمي”، ولكن أعدادها تراجعت شيئاً فشيئاً بإنقضاء الوقت، ومن المسلّم به أن لا يكون بإقتدارها حسم الموقف على الأرض إلاّ إذا أقدمت قوة برية على إختراق ذلك القصر الذي كانت الإحتياطات حواليه أعظم مما نتمتع بها.
ولكن لم يَدُرْ ببالنا مطلقاً ما يضمره قادم الساعات من أوزار وسط هذا الصراع المرير على السلطة… ومن دون سرد التفاصيل سأقف في محطات مهمة كما يأتي:-
• بالساعة (3,45) حضر إلينا آمر لواء الحرس الجمهوري “العقيد الركن بشير عبدالرزاق الطالب”، وإطمأنّ بجولة سريعة على إستحضاراتنا للدفاع عن هذه المؤسسة ذات الأهمية الخاصة في الإنقلابات، حتى أباح لـنا ((بشرى)) تحريكه سرية دبابات من كتيبة الحرس الجمهوري لتقوية دفاعاتنا.
• لم يمضِ سوى نصف ساعة حتى كانت (11) دبابة طراز (T-54) -بقيادة زميلنا “الملازم أول مرعي حسن”- في طريقها إلينا، وقد إستقبلناه بـ((فرح غامر)) قبل أن يُمَركز (5) منها قبالة المبنى مباشرة، و(3) أخريات بإتجاه جسر الجمهورية بقيادة “الملازم خالد جسام” -وهو الأخ الأكبر للضابط العامل في سريتنا “الملازم عبدالجبار جسام”- فيما تمترست (3) دبابات أخرى بالقرب من مرآب العجلات للدفاع عن المبنى من الخلف.
• إستشعرنا برضىً عالٍ من الأمن والقوة طالما أحاطتنا (15) دبابة بمقدار (360) درجة، ومن المؤكد أنها سوف لا تسمح -بالإرتكاز على هول نيران مدافعها وغزارة رشاشاتها الثلاث- أن يتقدم نحونا ولو ((جرذي واحد)) ما دامت دفاعاتنا باتت شبيهة بحصن منيع حيال أي خصم، ومن سادس المستحيلات إختراق هذه القلعة.
• في هذا الخضم تنفسنا بعضاً من الصعداء حين جاءت ضربة غير متوقعة نحو الإنقلابيين، فقد صمتت وسيلتهم الإعلامية الوحيدة بعد أن إستطاع عناصر من فوج الحرس الجمهوري/2 -بقيادة “المقدم إبراهيم عبدالرحمن الداود” المتمركز في “الحارثية” وسط ثكنته المتاخمة لقصر الزهور الملكي المهجور- من قطع الكابلات المحمّلة على أبراج الضغط العالي الناقلة للطاقة الكهربائية إلى بلدة “أبي غريب”، وبذلك توقفت المُرسِلات عن العمل.
• تدنّت أعداد الطائرات قبل أن تنعدم ضرباتها بعد الساعة الرابعة.
• بدأت الدماء تعود إلى وجوه المذيعين والموظفين العاملين في هذه المؤسسة، وهم مرغَمون على مواصلة العمل الدؤوب في أخطر المواقف وأحلك الظروف.
• بحدود الساعة الخامسة عصراً بُلّغنا بوأد المؤامرة وأن نتهيأ لإستقبال السيد رئيس الجمهورية الذي سيلقي خطاباً قصيراً يعلن من خلاله فشل المحاولة الإنقلابية.
• بالساعة (5,25) عصراً كنا مصطفين لإستقبال “اللواء عبدالرحمن محمد عارف” بملابسه العسكرية وقتما ترجّل من سيارته الرسمية وبصحبته “العميد فاضل محمد علي” المرافق العسكري الأقدم، و”العقيد الركن بشير الطالب-آمر لواء الحرس”، و”الملازم أول ماجد محمد توفيق” مرافقه العسكري الشخصي مع (4) جنود من فصيل الحماية الخاصة، وتوجهوا جميعاً إلى غرفة الضباط المطلّة على مدخل مبنى الإذاعة والتلفزيون.
وغدر بنا الغادرون!!!!!؟؟؟؟؟
وبينما كنتُ و”الملازم عبدالجبار جسام” واقفَين خارج غرفة الضباط فيما يتأكد الفنيّون من صلاحية “أستوديو الإذاعة رقم-1” المتاخم لغرفة الضباط للخطاب المُزمَع، فقد إستجلب ناظرَينا حركة حثيثة ما بين الدبابات الخمس المتمركزات قبالتنا عبر الشارع العام، وشاهدنا ضباطاً -معظمهم معروفون بإنتمائهم لكتلة الضباط القوميين- من خارج الحرس الجمهوري بملابسهم العسكرية متواجدين مع “الملازم أول مرعي حسن”… وقد شخّصنا معظمهم ما بين زملاء أو معارف أو هم من أبناء دورتنا في الكلية العسكرية.
هرع “الملازم عبدالجبار” إلى أخيه “الملازم خالد جسام” الذي أوقف رعيله المؤلف من (3) دبابات بإتجاه “جسر الجمهورية” ليعود لاهثاً وهو يقول:- (ولك صبحي… هذوله راح يقصفونا)!!!
وبينما أسرع نحو فصيله، فقد هرعتُ لأخبر المرافق “الملازم أول ماجد” بهذا الخطر الداهم، فأسرع نحو السيد رئيس الجمهورية قبل أن أشاهد الهرج والمرج اللذين سادا غرفة الضباط وألهث نحو قاطع فصيلي على طول السياج الجنوبي للمبنى صارخاً نحو جنودي بالتهيؤ للمواجهة… ولكن قنابل الدبابات الخمس وصليات رشاشاتها “دوشكا” الثقيلة أسرعت بالإنهمار على غرفتَي الضباط والمذيعين و”الأستديو رقم-1″، ولم تتوقف سوى بعد حوالي (10) دقائق وقد حوّلت تلك الغرف الثلاث مع قاعة الإستعلامات ومحوّلات الكهرباء إلى دمار وخراب وسيارات موكب الرئيس إلى ركام ورماد.
لقد خسرنا المعركة، وإعتقدنا أن كل شيء قد إنتهىَ بعد أن أمسى الجميع تحت الأنقاض، وأضحى عهد الرئيس “عبدالرحمن عارف” شيئاً من الماضي في غضون دقائق، وإسرعنا لإخراج شهدائنا وجرحانا من الجنود والمدنيين الذين باتوا تحت سقوف وجدران إنهارت على رؤوسهم، وجاهدنا في فتح ممر آمن لإجلاء العشرات من المذيعين والموظفين الهلِعين والموظفات المرتجفات خوفاً كي يغادروا المبنى بسلام.
هروب الرئيس “عارف”!!!!؟؟؟؟؟
فرغت أروقة الإذاعة والتلفزيون من كل شيء عدا العساكر، فتوجهتُ مع “الملازم عبدالجبار” نحو ركام غرفتي الضباط والمذيعين لنحاول -برفقة جنودنا المُحبَطين- إخراج أشلاء العديد ممن أمسوا تحتهما… لكننا -وبعد إلقاء نظرات فاحصة هنا وهناك- لم نتلمّس أي أثر على الإطلاق، وحاولنا تفحّص ما بين الصخور والطابوق وكتل الكونكريت فلا دماء ولا أجساد، فدار في رؤوسنا علامات إستفهام وحيرة سوف لا نعرف حقيقتها إلاّ بعد ساعة.
وفيما كنا نتبادل نظرات الحقد والكراهية مع الضباط الغادرين الذين قصفونا وقد بانت على وجوههم بشائر الفرح وظنوا أنهم باتوا أصحاب السلطة، فقد فوجئنا بإصطفاف آمر سريتنا “الملازم أول يوسف خليل أحمد والملازم إسماعيل داود” إلى جانب آمر سرية دبابات الحرس “الملازم أول مرعي حسن” وبصحبته ما يربو على (10) ضباط (قوميين/ناصريين) -((وأعتذر عن ذكر أسمائهم))- جالسين وسط الساحة المسمّاة “جمال عبدالناصر”، قبل أن تأتيهم (صواني) الطعام مما لذّ وطاب من مطاعم يمتلكها أقرباء البعض من أولئك الضباط الإنقلابيين أو من المتزلّفين من أهالي هذه الأحياء السكنية الذين تعوّدوا على التقرّب من مالكي السلطة وأصحاب النفوذ، لنظلّ “أنا والملازم عبدالجبار” وجنود سريتنا جالسين كـ(اليتامى) على مبعدة حوالي (100) متر وسط الخراب والدمار.
ولكن ما أن حلّت الساعة (6,30) مساء حتى وردتنا معلومات عن طريق البعض من ضباط الصف -المرتبطين بعلاقة جوار طيبة مع أصحاب البيوت المتواضعة والمحيطة (ومعظمهم من الإخوة المسيحيين)- بأن الرئيس “عبدالرحمن عارف” وصحبه قد إستطاعوا -قُبَيلَ قصف الدبابات- من مغادرة مرآب المبنى من بابه الخلفي بسيارة “لاند روفر” بيضاء تابعة للإذاعة والتلفزيون… وبين أن نصدّق أو نكذّب المعلومة فقد إستشعرنا -عن بعد- شيئاً من الإرتباك بين الضباط الإنقلابيين.
المرافق العسكري المختبئ
وفي حدود تلك الساعة جاءني “رأس العرفاء كامل محمد علي” ليخبرني ((أن ضابطاً صديقاً لي برتبة “ملازم أول” -لم يُعَرّف نفسه- من وحدات شمالي العراق ضاقت به السبل وقتما بلغ هذه المنطقة، وهو يرتدي بزة أنيقة وعلى سدارته علامة صنف “المدفعية”، وهو الآن في مسكن متاخم للباب الخلفي، ويرجوني بالإسم أن أزوره)).
لم آبَه للمطلب كثيراً حتى عاد “رأس العرفاء كامل” بعد حوالي نصف ساعة مكرراً رجاء الضابط (الـمُجاز)، فإضطررتُ للسير معه نحو المسكن المقصود.
وما أن رحّب بي صاحبه (السيد كوركيس صليوَه) ودعاني إلى غرفة بسيطة للغاية تقع في أبعد زاوية من المنزل حتى فوجئتُ بـ”الملازم أول ماجد محمد توفيق” مصفرّ الوجه وفي حال لا يُحسَدُ عليه، وبالأخص لما شاهد “الغدارة” التي أحملها بين يديّ… ولم يعد لبعض حاله متنفساً الصعداء إلاّ بعدما أديتُ له التحية العسكرية وإحتضنته وأنا أحمد الله على سلامته.
جلستُ قبالته فأوضح لي:-
((أنه بعد أن أخبرتُهُ بالقصف المحتمل لدبابات الحرس الجمهوري، فقد تسلّل السيد الرئيس مع صحبه ومرافقيه من الباب الصغير لغرفة الضباط المطل على الممر الجانبي-الشمالي المؤدي إلى مرآب السيارات ليعثروا فيه على سيارة “لاند روفر” تحمل هوائيات خاصة بالبث التلفزيوني، فأسرعوا بها عبر الأزقة المؤدية نحو “كرادة مريم”، ولكنه لا يعرف مصيرهم!!!؟؟؟؟)).
وإدعى أنه لما لم يستطع إمتطاء تلك السيارة فإضطر للإلتجاء إلى هذا البيت الذي آواه من دون أن يُعرّفهم على شخصه من حيث كونه مرافقاً عسكرياً للسيد الرئيس، ولم يفكّر سوى أن يطلبي عن طريقهم.
رجوته أن يظلّ على كتمان شخصه ولا يترك هذا البيت أبداً، ما دام أهله من الإخوان المسيحيين…. وإتفقنا على:-
1. أن لا يُظهر نفسه أمام أي من ضباط صف وجنود سريتنا لأن معظمهم يعرفون كونه مرافق السيد الرئيس، ولعلّ أحدهم يخبر عن مكانه بقصد أو من دونه.
2. وبشكل مطلق يجب أن لا يعرف أحد من جنود الدبابات المرابطين قرب المرآب بوجوده كونهم جميعاً من سرية دبابات الحرس الجمهوري التي غدرت بنا.
3. أن أسرع لزيارته لاحقاً لأخبره بأي موقف -إيجابي أو سلبي- يطرأ في قادم الساعات.
عدتُ إلى حيث يجلس “الملازم عبدالجبار” وسط الخراب، ولكني كذبتُ عليه بأن هذا الضابط الملتجئ إلى ذلك البيت صديق تركماني إسمه “الملازم أول -المدفعي- شهاب أحمد البياتي”.
هروب الإنقلابيين
بعد حوالي ساعة من حلول الظلام خفتت أصوات أولئك الضباط وضحكاتهم العالية والمستهزئة، حتى أشارت الساعة إلى (8,30) ليلاً وقتما جلبت أنظارنا أول سيارة جيب “يوتلتي” عسكرية تأتي إلى “ساحة جمال عبدالناصر” ليمتطيها (3) ضباط متوجهة بهم نحو “ساحة المتحف”، وعادت ثانية بعد حوالي (20) دقيقة وكررتها ثالثة لتحمل آخر من تبقّى، حيث خلت (10) دبابات من الضباط الذين تركوا ضباط الصف وجنودهم المرؤوسين في موقف صعب للغاية، فيما تُرِكَت (5) دبابات قبالة مبنى الإذاعة خالية من أي شخص.
ولما توجّه آمر سريتنا و”الملازم إسماعيل” نحونا محاولَين التقرّب منا أو التحدث معنا -ولو عن بعد- فقد أهملناهما متعمّدَين لتصرّفهما الـمَعيب ونفاقهما الجليّ.
أسرعتُ إلى “الملازم أول ماجد” لأعلمه بهذا الموقف الدالّ على هزيمة القائمين بالإنقلاب، ولكني رجوته بعدم ترك هذا البيت لحين إنجلاء الموقف بما لا يقبل الظن.
بحدود الساعة (9,30) سمعنا زغاريد البعض من نساء المنطقة قبل أن يخبرنا جنودنا بأن ((إذاعة محلّية)) بدأت ((تغرّد)) من “القصر الجمهوري”… كان البث ضعيفاً للغاية وشخص ما يتحدث بلغة ركيكة معلناً:-
((أن السيد رئيس الجمهورية “اللواء عبدالرحمن محمد عارف” سيوجه كلمة للشعب العراقي يطمئنهم فيها عن وأد المخلصين للمحاولة الإنقلابية الغادرة التي قام بها البعض من الخونة)).
آخر ساعات الليل
وحالما سمعنا صوت السيد الرئيس حتى زرتُ “الملازم أول ماجد” للمرة الثالثة لأهنئه على ما حصل…. وبينما ظلت تلك الإذاعة تكرر ذلك الخطاب البسيط -الذي لم يكن مبتغاه سوى إسماع صوت رئيس الجمهورية للقوات المسلحة والشعب العراقي وإعلامهم بفشل المحاولة الإنقلابية- فقد حضر إلينا “العميد فاضل محمد علي” -المرافق العسكري الأقدم- الذي إستقبلناه على رصيف “ساحة جمال” متسائلاً عن مصير “الملازم أول ماجد محمد توفيق”… ولما أوضحتُ له معرفتي بمكان وجوده فقد إستبشر كثيراً، قبل أن يتداخل “الملازم أول يوسف خليل” بإبتسامة عريضة قائلاً:-
((شنو القضية يا صبحي؟؟؟ ما تقول… ما تحكي؟؟؟)).
فأجبته في الحال وبغضب بائن:-
((لمن أقول… ولمن أحكي!!! خلّيني ساكت يا أبا أحمد!!!)).
ولـما أصطحبتُ “الملازم أول ماجد” أمام المرافق الأقدم الذي إحتضنه بحرارة مهنّئه على سلامته، حتى أغدق “ماجد” عليّ بالمديح، ذاكراً إنقاذي لحياته.
طلب منا “العميد فاضل” التوجّه للتحدث مع ضباط صف الدبابات وجنودهم وطمأنتهم بعدم إتخاذنا أي إجراء سلبي بحقّهم إذا ما تركوا دباباتهم وسلّموا أسلحتهم الشخصية، وستأتي حافلات ركاب لحملهم إلى ثكنة كتيبتهم بأمان.
وقد تم ذلك خلال نصف ساعة، فيما إدّعى معظم ضباط الصف الذين إلتقيتُهم لترغيبهم بما وعد به “العميد فاضل” وتعهّد، بأن آمر سريتهم “الملازم أول مرعي حسن” قد جمعهم قبل تحريكهم نحونا وأبلغهم:-
((أن مسلّحين من الشيوعيين قد سيطروا على مبنى الإذاعة والتلفزيون، وسنتحرك لطرد هؤلاء الكفار والملحدين))!!!
التحقيق العسكري
في صبيحة اليوم التالي (الجمعة-1/تموز/يوليو/1966) جاءنا آمر فوجنا “الرائد الركن كمال جميل عبود” غاضباً، ليقذفنا بوابل من أعنف العبارات مُتّهِماً إيانا بعدم مقاومة الإنقلابيين ودباباتهم والخنوع أمامهم، ولم يتقبّل منا أي عذر أو يسمح لنا ولو بكلمة دفاع عن أنفسنا في ذلك الموقف العصيب الذي كنا في براثنه وسط دبابات الحرس الجمهوري التي أمر بإتيانها إلينا آمر لوائنا “العقيد الركن بشير الطالب” شخصياً.
تم إعتقال معظم قادة الإنقلاب وضباطهم المرؤوسين المنفّذين لتفاصيلها الميدانية، وأُودِعوا موقوفين في سجن فوجنا المتاخم للقصر الجمهوري تحت حراسة مشدّدة، ولكن بكل إحترام لشخوصهم وحسن التصرف معهم بإعتبارهم موقوفين سياسيين.
وبعد يومين أُستُدعِيتُ أمام المجلس التحقيقي العسكري المنعقد في “معسكر الوشاش” بصفتي (شاهد عيان وإثبات) لأهم أحداث المحاولة الإنقلابية، فتحدثتُ بصراحة عن كل شيء وشخّصتُ كل من رأته عيناي من الضباط المصاحبين لـ”الملازم أول مرعي حسن” حتى لو كانوا أصدقاء أو زملاء، إلاّ أني كتمتُ الموقف السلبي لـ”الملازم أول يوسف خليل، والملازم إسماعيل داود”.
بعد يومين صدر مرسوم جمهوري بمنح نوط شجاعة لقائمة طويلة يتصدّرها إسم “الملازم أول ماجد محمد توفيق” وجميع ضباط فوجنا (ولم أكن من بينهم) لموقفهم الإيجابي في إجهاض المحاولة الإنقلابية، في حين لم يرد أسمي مع كل من “الملازم أول يوسف خليل، الملازم إسماعيل داود، والملازم عبدالجبار جسّام”، بل صدرت أوامر بنقلهم إلى أفواج عاملة في شمالي الوطن وإلحاقهم فوراً إليها.
مرسوم جمهوري خاص!!!؟؟؟
إستشعرتُ بحريق في جوفي وقتما لم يُدرَج إسمي بين أولئك الضباط، فلم أنتظر إلاّ أقل من ساعة حتى أسرعتُ إلى القصر الجمهوري… ومن دون إستئذان دفعتُ الباب مقتحماً غرفة “الملازم أول ماجد محمد توفيق” من دون سلام ولا تحية عسكرية:-
• أنـا:- صارحني يا “ملازم اول ماجد”:- هل أنتَ شجاع وأنا جبان؟؟!!
• ماجد (متلعثماً ومُصفراً):- حاشاك حاشاك يا أخ صبحي… ما قصدك؟؟
• أنـا:- يا أخ “ماجد”… أنتَ تُمنَح نوط شجاعة وإسمي لا يرد وسط مرسومكم!!! أنتَ تختل في بيت وأنا أنقذك ثم تغدو أنتَ شجاعاً!!!
• ماجد:- والله -يا أخ صبحي- لم أنتبه للأسماء ولم أشارك بالأساس في إعدادها.. ولكن هل يُعقَل ذلك؟؟
• أنـا:- نعم، إسمك تَصَدَّرَ المرسوم بينما لم يرد إسمي حتى في ذيله… وإن لم تحلّ هذا الإشكال -الذي لا يُغتَفَر- فسأعلّقك على حبل الغسيل وأفضحك أمام الجميع.
• ماجد:- والله العظيم والله العظيم ثلاثاً وأعدك بالشرف أن أتدارك هذا الإلتباس اليوم قبل غدٍ.
ظهيرة اليوم التالي أوفى “الملازم أول ماجد” بوعده وقتما بعث لي نسخة من مرسوم جمهوري لاحق بتوقيع السيد رئيس الجمهورية يمنحني نوط شجاعة… ولولا هذا التدارك لشَنَعتُه على الحبل في كل حدب وصوب.
أمام السيد رئيس الجمهورية
صبيحة (الأحد-17/تموز/1966) إستدعاني “الملازم أول ماجد محمد توفيق” بشكل خاص إلى القصر الجمهوري، وفوجئتُ بإدخالي فوراً لمواجهة السيد الرئيس “عبدالرحمن عارف” في مكتبه… وبعد مصافحتي بحرارة دعاني سيادته إلى الجلوس قبالته متحدثاً بهدوئه المعهود:-
السيد الرئيس:- يا ملازم صبحي… أنا أشكرك لموقفك من “ماجد” وتكتمك على وجوده وإنقاذ حياته، ويؤسفنا الإشكال الذي وقع بشأن منحك نوط الشجاعة، وقد تلافيناه بمرسوم لاحق.
أنـا:- يا سيدي أنا لم أعمل سوى الواجب وما تمليه الأخلاق.
السيد الرئيس:- نعم فالأخلاق أساس كل شيء في الحياة، ووفاؤك جعلك لا تخبر عنه.
أنـا:- هذا حسن ظن منك أفتخر به سيدي الرئيس… فهل يُعقَل أن يكون من شيمتي الغدر بحق زميل وضع ثقته بي ولم يطلب سواي في محنته.
السيد الرئيس:- ولكني علمتُ من “ماجد” بأنك منقول من الحرس الجمهوري حسب طلبك.
أنـا:- نعم سيدي، وقد صدر أمر نقلي من “إدارة الجيش” منذ نيسان الماضي، وبُلّغتُ به منذ مطلع حزيران المنصرم، ولكن السيد آمر الفوج الجديد “الرائد الركن كمال جميل عبود” إرتأى أن يتم إنفكاكي مطلع تموز الجاري قبل أن يتأخر لحد اليوم.
السيد الرئيس:- حسناً… ولكن الأخ “ماجد” يرشّحك لمنصب “مُرافق ثانٍ” وقد وافقتُ على ذلك، وأعدك أن أُثبتك “مرافقاً” حال إلتحاقه لكلية الأركان بعد شهرين… فما رأيك؟؟؟
أنـا:- والله يا سيدي أوامركم مطاعة وقد فاجأتموني وأخجلتموني، وأفتخر أن أكون موضع ثقتكم… ولكن ظروفي العائلية والمرض المستديم الملمّ بوالدي وضرورة رعايتي لإخوتي تجعلني أستميح عذركم عن شغل هذا المنصب الذي يتمناه معظم ضباط الجيش، راجياً أمركم بإلحاقي لفوج المشاة الآلي/1-اللواء المدرع/6، ومقرهما قرب بلدة “جَمجَمال” القريبة من “كركوك” حيث مسكن والدي.
السيد الرئيس:- على أي حال، فمنصب “المرافق العسكري” لا يُفرَض، ولكني أتمنى أن لا تندم على قرارك… فلك ما ترغب متوكّلاً على الله وفي عنايته وحفظه.
أنـا:- أستميحكم عذراً -سيدي الرئيس- في طرح شيء يحرق قلبي منذ أسبوعين، فسريتنا في الإذاعة والتلفزيون لم تكن مذنبة أو مصطفة مع الإنقلابيين.
السيد الرئيس:- لكن آمر سريتكم وضباطه (ما عداك) إصطفوا مع الإنقلابيين وجاملوهم لساعات حتى تبيّن فشلهم ليلاً.
أنـا:- صحيح ما تفضلتم به -رغم عدم تفوّهي بهذا أمام أحد حتى هذه اللحظة- ولكن الذي غدروا بنا هم ضباط دبابات الحرس الجمهوري الذين يفترض بأنهم ((مُنتـَقون بعناية ومُزَكّون))… أما “الملازم عبدالجبار جسام” بشخصه فقد ظلّ بجانبي قبل الضربة الغادرة وبعدها وحتى الليل، بل أنه لم يسلّم ولو عن بُعد على الإنقلابيين، رغم كون أخيه “الملازم خالد جسام” ضمنهم، وكون معظمهم من سكنة أحياء “الكرخ” الذين تربطهم وشائج قرابة وعلاقات صداقة أنتم أدرى بها.
السيد الرئيس:- لم يسمعني أحد عن موقف “الملازم عبدالجبار”، وأعدك بمتابعته كي لا يُظلَم أحد لم يقترف شيئاً… أما أنت فتوكّل على الله.
وأخيراً في “آغجالار”!!!
ظهيرة (الخميس-21/تموز/1966) ودعتُ فوج الحرس الجمهوري/1 -غير آسف- بعد خدمة طالت (عامين كاملين إلاّ أربعة أيام)، وإلتحقتُ بفوج المشاة الآلي/1- اللواء المدرع/6-الفرقة المدرعة/3 ومقرهما المتاخم لمركز قضاء “جَمجَمال” شمال شرقي “كركوك” ظهر (الأحد-24/تموز)، لأجد نفسي مثبّتاً بمنصب (آمر الفصيل/7-السرية/3) المنتشرة في ناحية “آغجالار” على بعد (35) كلم إلى الشمال عن “جَمجَمال” يربطهما طريق ترابي يخترق منطقة جبلية تتميّز بالهشاشة الأمنية بسبب العصاة، ويُمنع التنقّل عليه إلاّ بعد مُراباته وتأمين حماية جانبَيه نهار كل يوم جمعة من كل أسبوع كي تتنقل عليها وجبات المجازين وعجلات الأرتال الإدارية المحمّلة بالأعتدة والوقود والأرزاق بحماية عدد من عجلات القتال المدرعة والدبابات.
وقد رابطتُ هناك وفي سواه (11) شهراً متواصلاً قبل أن نتحرك مطلع (حزيران/1967) بكامل جحفل لوائنا المدرع/6 إلى “المملكة الأردنية الهاشمية” للمشاركة في حرب حزيران.