23 ديسمبر، 2024 9:41 ص

ساعات سقوط طائرة الرئيس عبدالسلام عارف” كما رواها مقدم لواء الحرس الجمهوري

ساعات سقوط طائرة الرئيس عبدالسلام عارف” كما رواها مقدم لواء الحرس الجمهوري

شهادة رابعة ذات أهمية بالغة عن مصرع الرئيس “عبدالسلام محمد عارف” ساعات سقوط طائرة الرئيس عبدالسلام عارف” كما رواها مقدم لواء الحرس الجمهوري                                     تمــهـيـــــد

عزمتُ على مقابلة ضابط مسؤول أعلى رتبة وأهم منصباً كان لم يكن مجرد شاهد عيان للحادث بل عاش تفاصيله بشخصه وعانى فيه وما تلاه… ولذلك لم أكتـَفِ بشهادات الزملاء الذين أدلوا بدلوهم بحق حادث طائرة الهليكوبتر الذي أودى بحياة الرئيس “عبدالسلام محمد عارف،.
أنه “المقدم الركن فاضل عباس أحمد” الذي المتبوّئ لمنصب مقدم لواء الحرس الجمهوري (يُسمّى “رئيس أركان لواء” لدى العديد من الجيوش العربية)، والذي يُعَدّ الشخص الثاني في مسؤولية قيادة لوائنا منذ أواسط عام (1965).
وقد يتساءل القارئ أن تكون بيني وبين “المقدم الركن فاضل” علاقة رغم الفارق الكبير في الرتبة والمنصب والعمر وسط جيش منضبط ذي تقاليد رصينة… ولكن الذي أحدث هذا التقارب أني كُلـِّفتُ بأمر من السيد آمر/قائد لواء الحرس الجمهوري “العقيد الركن بشير عبدالرزاق الطالب” -لكثرة ممارستي لشؤون حرس الشرف وكوني حامل راية العراق عند إستقبال أرفع الشخصيات الزائرة للعراق وتوديعهم- بإنتقاء (48) جندياً من فوجنا لتشكيل “كردوس خاص” يمثّل جميع وحدات لواء الحرس الجمهوري وأن أقوده لوحدي في حفل إستعراض الجيش العراقي بمناسبة ذكرى تأسيسه/45 الموافق (6ك2/يناير/1966)، وقد مثلتُ أمام السيد آمر/قائد اللواء  الذي تمنـّى وجوباً أن ينال كردوسنا المرتبة الأولى ويفوق على جميع كراديس فرق الجيش وتشكيلاته ومؤسساته المشاركة بالإستعراض، ووجّه مقدم لوائه بتلبية كل متطلباتي لإنجاح مهمّـتي.
 ولمـّا تلمّس “المقدم الركن فاضل عباس” مدى إهتمامي بتحقيق ذلك بإنتقائي أفضل ضباط الصف والجنود وأرشقهم، وتفرّغي مساء كل يوم لضبط مسيرهم وتوحيد حركاتهم نزولاً إلى تأمين مرتدياتهم من قيافة الحرس الجمهوري وتقريمها وأحذيتهم وتلميعها، حتى أمسى كردوسنا بمستوى عالٍ من الإتقان الذي كنا نشاهده في الإستعراضات الأجنبية، والتي كنتُ متأثـّراً بها من أعماقي… وبذلك توفـّقتُ في تحقيق حلم السيد آمر اللواء وقتما إستلم من بين يدي رئيس الجمهورية كأس الفائز الأول على مستوى الجيش العراقي في هذا الإستعراض متفوّقاً ليس على فرق المشاة فحسب، بل وحتى كراديس طلاب الكلية العسكرية.تفاصيل الجلسة الخاصة
        وكما أوضحتُ في شهادة “الملازم أول الطيار منذر سليمان عزت” المنشورة على صفحات هذا الموقع الأغر، فقد علمتُ منه كون “المقدم الركن فاضل عباس أحمد” أحد الجلوس في طائرته أثناء الحادث… لذلك وبعد الزيارة التي أجريتها لصديقي -خبير المتفجرات- “الملازم أول أحمد بهجت إبراهيم” في مسكنه، فقد هاتفتُ “المقدم الركن فاضل” ورجوته بتخصيص شيء من وقته الثمين لأسمع منه ما حدث، فلبّى رجائي -مشكوراً- وحدد الساعة الثامنة من مساء (الإثنين-2/آيار/مايس/1966) موعداً للقاء في مكتبه بعد إنقضاء الدوام المسائي.        وبعد مؤاساته لفقدنا السيد رئيس الجمهورية، وحمدنا لله -سبحانه- على سلامته، فقد بادر إلى الإستفسار:-المقدم الركن فاضل:- ما الذي تعمله يا ملازم صبحي؟ ولماذا رغبتَ بهذه الزيارة؟؟
أنـا:- سيدي العزيز.. لقد دأبتُ على تسجيل كل أحداث أيامي -ولو كانت بسيطة- في هذه الأجندة التي تراها بين يديّ، مُقـَلـّداً والدي -الموظف في إحدى دوائر وزارة النفط في “كركوك”- مُضافاً إليها نصيحة في هذا الصدد وجّهني بها السيد “اللواء الركن عمر علي” قبل حوالَي سنتين يومَ أعلمته بتعييني في الحرس الجمهوري … ولما كنتُ أسجّل أحداثاً إعتيادية، فكيف لا ألهث وراء هذا الحادث الجلل.
المقدم الركن فاضل:- والله أهنـّئك -يا صبحي- ومن المؤكّد أن يأتي يوم تفيدك فيه هذه المذكرات… ولكن هل تكفي صفحة واحدة من أجندتك لدرج أجوبتي على جميع أسئلتك التي أراك قد سطـّرتها في ورقتين لا تكفي (3) ساعات لأجيبك عليها؟؟!!
أنـا:- كلا بالتأكيد، أنا سأسجّل الآن من حديث سيادتك رؤوس نقاط فحسب قبل أن أتفرّغ ساعات عديدة لتفصيلها، ثم أُبَيّضها وأقدمها أمام ناظرَيك لتقرأها على مهلك وتوقـّع على صحّتها قبل أن أحتفظ بها في ملفّ خاص، أسوةً بالذي عملتـُه مع شهود آخرين، ومن ضمنهم “الملازم أول الطيار منذر سليمان عزت” الذي كنتَ محلـّقاً في طائرته أثناء الحادث.
المقدم الركن فاضل:- ممتاز يا صبحي… إستمر إذن، فأنا جاهز.
أنـا:- لو سمحتَ -يا سيدي- فلدي أسئلة عامة… ما الذي جاء بك إلى هذا المنصب؟
المقدم الركن فاضل:- قبل أن أجيبك أسألك… هل قدمتَ أنتَ عريضة لنقلك من الحرس الجمهوري؟؟
أنـا:- ليس بهذا المعنى، بل تبادل نقل مع ضابط ممتاز أسبقه بدورة واحدة، وهو “الملازم فرحان رافع” من اللواء المدرع السادس المنتشر في قضاء “جم جمال” المتاخم لمدينتي “كركوك” لكون والدي مصاب بمرض مزمن، وأنا أكبر أولاده وأتمنى أن أكون على بعض القرب منه وخصوصاً خلال إجازاتي الدورية التي نحن -ضباط الحرس- محرومون منها.المقدم الركن فاضل:- والله عجيب!!! الناس يتوسطون ويتمنون أن يخدموا في الحرس، وأنت ترمي بنفسك في أتون القتال في الشمال؟؟!!
أنـا:- سيدي العزيز… منذ ما يقارب سنتين وأنا أخدم في الحرس الجمهوري لم أتمتع إلاّ بإجازة (نصف عيد) فقط، ولم أستشعر بذاتي أُؤدي واجباً عسكرياً بل مكلـّف بـ(مهمة أمنية) للحفاظ على نظام الحكم، وفوق كل ذلك أنا (محسود)… أما في الشمال أو الجنوب سأتحسس بعسكريتي وبراحة أكثر وسأتمتع بإجازة لأسبوع كامل في كل شهر، وهذا ما أتمناه.
المقدم الركن فاضل:- على أية حال، فالموافقة على تبادل موقعكما وردتنا اليوم، ولكني سوف لا أبلغها لفوجكم حتى تستقر الأمور بشكل نهائي قبل أن يتم إنفكاكك في غضون شهرين أو ربما ثلاثة.
أنـا:- الخير ما يختاره الله سبحانه… وإسمح لي -سيدي- أن نعود إلى:- ((ما الذي جاء بك إلى هذا المنصب))؟؟
المقدم الركن فاضل:- أنا من صنف الهندسة الآلية الكهربائية (يسمّى “سلاح الصيانة” لدى معظم الجيوش العربية)، وكنتُ برتبة “ملازم أول” عام (1956) بمنصب “آمر مفرزة التصليح” لدى مقر لواء المشاة/20 في معسكر “جلولاء” وقتما أصبح “العقيد الركن عبدالسلام عارف” آمراً لأحد أفواج اللواء، حيث إرتبطتُ معه بزمالة عمل، وتواصلت وشائجي مع سيادته بتقادم الأيام، ولربما كانت زياراتي له بمسكنه بعد إطلاق سراحه من السجن عام (1962) أثر كبير على توطـّدها.
ولمـا تقرر تشكيل مقر للواء الحرس الجمهوري فوجئتُ بنقلي لمنصبي هذا، ولكني علمتُ بعد مباشرتي بالعمل أن صديقي العزيز “الرائد عبدالله مجيد” -وكلانا من الصنف ذاته- هو من رشّحني أمام ناظرَي السيد الرئيس.
أنـا:- هل كنتَ ضمن إحدى حلقات “تنظيم الضباط الأحرار” الذي أمسى السيد الرئيس أحد قادته في “معسكر جلولاء”، و”الرائد عبدالله مجيد” في أدنى حلقاته.
المقدم الركن فاضل:- مطلقاً، فأنا أكره السياسة، ولم ولا ولن أتدخل فيها، بل إيماني يصبّ في وجوب بقاء الضابط على حرفيّته ومهنيّته ليؤدّي واجباته العسكرية فحسب.
أنـا:- وأنا أشاطرك الرأي، راجياً إعتباري تلميذاً لك في هذا الشأن… والآن فلنأتِ -يا سيدي- على الحدث… هل كنتَ تصطحب السيد الرئيس في كل جولاته؟؟
المقدم الركن فاضل:- كلاّ ليس في جميع جولاته، فإن كان السيد آمر اللواء أو أحد آمري الأفواج ضمن قائمة مرافقيه فلا أصاحبه… ولكن واقع الحال أني كنتُ معه في غالبيتها لإرتياح السيد المرافق الأقدم “العميد زاهد محمد صالح” لتعاوني معه ورفعي للعديد من الأمور عن كاهله وسط هذه الجولات المُرهقة والممتلئة بمناهج ساعاتية مُتعِبة.
أنـا:- إذَن… هل رافقتَ السيد “العميد زاهد” إلى “البصرة” قبل يوم واحد من وصول السيد الرئيس إليها؟؟
المقدم الركن فاضل:- كلاّ، فقد سافر “العميد زاهد” إلى “البصرة” على طائرة الخطوط الجوية العراقية صبيحة (الإثنين-11/نيسان) لترتيب تفاصيل منهج الزيارة والجولات وتوقيتاتها مع المسؤولين هناك، فيما بقيتُ هنا لأتأكد من إنطلاق موكب السيارات الرئاسية إلى “البصرة” ووصول الهليكوبترات الثلاثة إلى “قاعدة الشعيبة الجوية” باليوم نفسه، ثم أشرفتُ على تدابير تنقـّل السيد رئيس الجمهورية مع صحبه الوزراء وكبار المسؤولين من القصر الجمهوري إلى “مطار بغداد الدولي” صبيحة اليوم التالي، وتأكدتُ كذلك من ترتيبات الحماية غير المنظورة.
أنـا:- إذن لم تسافروا إلى “البصرة” بالهليكوبترات؟؟
المقدم الركن فاضل:- كلاّ، فالهليكوبترات أقلعت من “بغداد” فارغة صبيحة (الإثنين-11/نيسان) وهبطت في “البصرة” ظهراً، أما السيد الرئيس -ونحن معه- فقد أقلـّتنا إحدى طائرَتـَي “الرفّ الجمهوري” من طراز (توبوليف-124) النفاثة صبيحة (الثلاثاء-12/نيسان) وهبطنا بعد أقل من ساعة في “مطار البصرة الدولي”.
أنـا:- هل كان طيارو الهليكوبترات ثابتين في كل الجولات بصحبة السيد الرئيس؟ وهل لهم إرتباط مع “الرفّ الجمهوري”؟؟المقدم الركن فاضل:- لا دخل لنا في تحديد الطيارين فذلك من مسؤولية القوة الجوية، ولا أعتقد أنهم ثابتون، إذْ كنت ألاحظ وجوهاً متباينة بين جولة وأخرى… ولا وجود لأي إرتباط بين “السرب/4-هليكوبترات” وبين الرفّ الجمهوري، فكلاهما مرتبطان بقيادة القوة الجوية.
أنـا:- سيدي العزيز، معذرة على إشغالك فوق مشاغلك بتعدد أسئلتي، لذا فلننتقل إلى صلب الحدث… ففي يوم وصولكم للبصرة كان هناك منهج حافل، ولكنكم تنقـّلتم بصحبة السيد الرئيس بموكب سيارات… فلماذا لم تستخدموا الهليكوبترات؟؟المقدم الركن فاضل:- كانت مواقع الزيارات قريبة بعضها من بعض، والسيد الرئيس كان -في جميع جولاته- يفضّل السير وسط الجماهير المحتشدة لتحيّـته على أطراف الشوارع والأحياء السكنية ليحيّيهم ويتصافح مع البعض، مفضّلاً أن يمتطي سيارة مكشوفة (تـَنتـَه) على سيارته الرسمية السوداء التي كان يسمّيها (سجن رقم/1) على سبيل المزاح.
أنـا:- إذن، ليس خوفاً من ركوب الطائرات كما يُشاع.
المقدم الركن فاضل:- أبداً لم يكن كذلك، بل كان يستأنس بالطيران ويعشقه، بحيث كان في -كل تنقلاته بالهليكوبترات- يحتلّ مقعد معاون الطيار ليقود الطائرة بنفسه ولو لدقائق.
أنـا:- فلنـَخـُض الآن -سيدي العزيز- في اليوم المشؤوم (13/نيسان).
المقدم الركن فاضل:- نعم… فمنذ الصباح الباكر ليوم (الأربعاء13/نيسان) إخترقنا شوارع “البصرة” بصحبة السيد الرئيس وسط حشود هائلة من أهاليها في طريقنا نحو “الهارثة” حيث وضع الحجر الأساس لمعمل الورق… ثم إنطلقنا شمالاً على الطريق العام، وفوجئنا بموكب من الفرسان الممتطين لخيول عربية أصيلة وقد أحاطوا بسيارة السيد الرئيس مردّدين الأهازيج والمدائح… ومن دون أن نتوقـّف في مدينة “القرنة” واصلنا مسيرنا غرباً وسط الأهوار نحو قرية “الهُوَير” حيث أعدّ “الحاج جمعة العبادي” في مدخلها بيت قصب ضخم وفاخر أعقـَلَ أمامه جَمَلاً نـُحِرَ إلى جانب عشرات الخراف حال نزول السيد الرئيس وقبل أن يجلس في “الـمَضيف” بضع دقائق لننطلق بعدها لتفقـّد مجاميع القرى المتلاحقة وسط “هور الحمار”، حتى عُدنا إلى بلدة “الـمُدَينة” لنستقلّ زوارق بخارية بصحبة شيوخ المنطقة ووجهائها عابرين “نهر الفرات” قبل أن نعود إلى مدينة “القـُرنة” لتناول طعام الغداء وسط وليمة كبرى أعدّها قائمقام القضاء “عبداللطيف الجُبوري” في دار الضيافة المطلـّة على “نهر دجلة”.
أنـا:- إذن فقد تأخرتم في عودتكم إلى “القرنة”؟
المقدم الركن فاضل:- نعم تأخرنا كثيراً… فحسب منهاج (الأربعاء-13/نيسان) كان الـمُفترض أن نعود إلى “القرنة” بالساعة الواحدة والنصف ظهراً ليتجول السيد الرئيس فيها ويلتقي بهذا وذاك، ولكنه إستأنس كثيراً بجولة الأهوار التي أطالها وسط وجهاء القرى ومواطنيها، فلم نعد إلى “القرنة” إلاّ بالساعة الرابعة عصراً؟
أنـا:- ووجدتم الهليكوبترات الثلاث قد هبطت، وكانت محمية؟؟
المقدم الركن فاضل:- نعم فقد هبطت منذ عدة ساعات بالقرب من  ملعب القرنة، مُحاطة بجنود مشاة بإمرة ضابط من مركز مشاة البصرة… وحال وصولنا إقترب قائد التشكيل “النقيب خالد محمد نوري” من السيد “العميد زاهد” عارضاً جاهزيّة طيّاريه للعودة إلى “البصرة”.
أنــا:- إذن لماذا تأخرتم ساعات عديدة حتى حلّ الظلام؟
المقدم الركن فاضل:- كان خطأً قاتلاً، إذْ نصت التوقيتات أن تقلع بنا الهليكوبترات في موعد أقصاه الساعة (4,30) عصراً، إلاّ أن بلوغنا “القرنة” بالساعة (4) عصراً بدلاً عن (1,30) ظهراً، وإنشغالنا بوليمة الغداء والمجاملات التي طالت حتى الساعة (السادسة) مساءً، واتي ضجرتُ منها كثيراً من دون أن أستطيع -وكذلك جميع الحضور- من عمل شيء يُذكَر.
أنــا:- وهل تحدث الطيارون مع السيد الرئيس، أو السيد “العميد زاهد” بشأن التأخّر؟؟
المقدم الركن فاضل:- الطيارون لم يتحدثوا، إنما إكتفوا بالوقوف قبالة السيد الرئيس متعمّدين النظر إلى ساعاتهم اليدوية بين حين وحين، محاولين إستجلاب نظر سيادته -أو أحد مرافقيه- لعلـّه ينتبه، فلم يحصل ذلك!!!أنـا:- ولذلك تأخرتم حتى حلّ الليل.
المقدم الركن فاضل:- ليس هذا فحسب، فالوقت كان ما زال سانحاً (نسبياً) في ذلك المساء وقتما نهض السيد الرئيس مع صحبه لتوديع الحضور بحدود الساعة السادسة قـُبَيل أن ينتصب “قائمقام قضاء القرنة” قبالته ليترجاه بإصرار كي يحضر ولو بضع دقائق في “ملعب الإدارة المحلية” ليلتقي مواطني “قضاء القرنة” المتحشّدين لأجله منذ الصباح.
إستشعرتُ بالسيد الرئيس وقد تحرّج موقفه قبل أن يردّ عليه:-
((يا أخ “عبداللطيف” الكل يعرفون مدى إهتمامي بلقاء المواطنين … ولكننا تأخرنا كثيراً ولا أبتغي أن نتأخر أكثر، فالآن الساعة السادسة وعلينا العودة إلى “البصرة” تلبية لدعوة عشاء يقيمها الأخ المتصرف (المحافظ) “محمد الحيّاني” بالساعة السابعة، أي بعد ساعة واحدة فقط من الآن… ولربما لا يقدر الطيارون على الطيران ليلاً)).
ثم وجّه تساؤله نحو الطيارين الواقفين:-
((هل بإستطاعتكم الطيران ليلاً؟؟)). عندئذ وقف “النقيب خالد النوري” بوضع الإستعداد قائلاً:-
(ولماذا لا نستطيع سيدي الرئيس… أنتَ تأمر وعلينا التنفيذ)!!!
وعلى الرغم من الوجوم الذي لاحظتـُه على وجه السيد الرئيس فقد توجّه مع صحبه إلى جانب القائمقام “عبداللطيف الجبوري” متبوعين بمعظم المدعوين سيراً على الأقدام نحو الملعب، فـَعَلـَت حناجر الآلاف ممن شاهدوا “عبدالسلام عارف” وقد أطلّ عليهم من شرفة الملعب، وإعتلى البعض منهم الأكتاف ليلقوا خطباً ويطلقوا قصائد المديح لـ”أبا أحمد”، تلاهم شعراء يعرضون أمنيات مواطني “القـُرنة” الأوفياء، وذلك قبل أن يبادر السيد الرئيس لإلقاء خطاب باللهجة العامية، فأطاله بعباراته المازحة، حتى أذن المؤذّن لصلاة المغرب.وواقع الحال أننا جميعاً لم نتحسّس الظلام الذي حلّ، فالملعب برمّته كان مُناراً بالعشرات من البروجكترات، حتى جاوز الوقت الساعة السادسة والنصف، وقتما ودّع السيد الرئيس الجماهير وسط تصفيق حاد وهُتافات وأهازيج متنوّعة، في حين كان آمر فصيل الحماية الشخصي “الملازم شهاب أحمد” قد أوقف السيارة المكشوفة (تـَنـْتـَه) أمام البوابة الرئيسة للملعب والتي إمتطاها السيد الرئيس ووقف في حوضها محيّياً المئات الذين أحاطوا به يرقصون ويهزجون ويرددون:-
    (إحنا جنودك يا سلام.. إحنا جنودك يا سلام)
     (عبد السلام محبوبنا.. مكتوب جوّه قلوبنا) 
صعد السيد الرئيس في الهليكوبتر الأولى بقيادة “النقيب خالد نوري” مع كبار المسؤولين:- “اللواء عبداللطيف الدراجي، الوزير مصطفى عبدالله، العميد المهندس جهاد أحمد فخري، العميد المهندس عبدالهادي حافظ، السيد محمد الحيّاني، العميد زاهد محمد صالح، الرائد عبدالله مجيد”.
أما أنا فقد إمتطيتُ الهليكوبتر الثانية بقيادة “الملازم أول الطيار منذر سليمان عزت” برفقة “المقدم الركن قاسم حمودي-آمر موقع البصرة” الذي صعد إلى مقصورة القيادة شاغلاً مقعد معاون الطيار، وجلس معي في جوف الطائرة كل من:- “بايز عزيز-متصرف لواء الناصرية، إبراهيم الوَلي-رئيس تشريفات القصر الجمهوري، المقدم الركن “زكي الصائغ”- ضابط ركن موقع البصرة، السيد “شاكر الغرباوي”- رئيس بلدية الناصرية، السيد “أحمد الحَسّو”- أحد موظفي القصر الجمهوري، السيد “فيصل حَسّون” نقيب الصحفيين، والسيد “عبد العزيز بركات”- السكرتير الصحفي لرئيس الجمهورية”.
أما الطائرة الثالثة فقد كانت مخُصّصة للصحافيين والمصورين ومراسلي الصحف والإذاعة والتلفزيون والسينما.أنــا:- أعذرني -يا سيدي- عن المقاطعة، فهناك نقطة مهمة أبتغي التحدّث بها… فصديقي “الملازم محمود رؤوف” -آمر قوة حماية مهابط الهليكوبترات- ذكر لي قبل (10) أيام شيئاً أشغل بالي.
المقدم الركن فاضل:- خيراً إن شاء الله؟
أنــا:- يقول “محمود”:-
1.   أن الطيارين الثلاثة لدى مشاهدتهم رئيس الجمهورية متوجّهاً إليهم، فقد أدارَ “الملازم الطيار مذكور فليَّح” قائد إحدى الهليكوبترات -التي كانت مُخَصّصة لرئيس الجمهورية ومَن بصحبته- محرّك طائرته.
2.   ولكن، لم تَنْقَضِ سوى بضع دقائق حتى توقّف محرّكها فجأة… ولـمّا إنشغل طيارها وفنّيّوها بإصلاح العطل، فقد تركها السيد الرئيس مع صحبه على عُجالة وإمتطوا طائرة أخرى كان النقيب الطيار “خالد محمد نوري” يقودها، فأدار محرّكها، ولم ينتظر سوى لحظات حتى أقلع بها، بينما أقلع “منذر سليمان” بعده مباشرة.
3.   وبعد إنقضاء حوالي خمس دقائق، تم إصلاح العطب، ليقلع “مذكور فليّح” بما حملته طائرته من مصورين ومراسلي صحف.
4.   ولـمّا إستفسر “الملازم محمود” من “الطيار مذكور فليّح” أثناء إشرافه على التصليح، أجابه:- ((أن قـَطعاً مفاجئاً في الدورة الكهربائية هو السبب)).
5.   ولذلك، إستنتج -حسب قناعته الشخصية- إحتمال وجود مؤامرة وراء الحادث، فطائرتا “مذكور وخالد” معاً كانتا قد لُعِبا في دورتَيهما الكهربائيّتين، لذا فبعد إنقضاء بضع دقائق على تشغيل محرّك الطائرة المخصصة للسيد الرئيس، فقد بان العطل… ولـمّا لم ينتظر “النقيب خالد” إلاّ قليلاً قبل الإقلاع، فلربما أصابها العطل بعد دقائق وهي في الجو جراء إنقطاع الدورة الكهربائية.. فسقطت)). 
المقدم الركن فاضل:- لا صحة لهذا الكلام لا من قريب أو بعيد، فالهليكوبتر المخصصة للسيد الرئيس كانت بقيادة آمر التشكيل “النقيب خالد النوري”، والثانية التي إمتطيتـُها قادها “منذر سليمان”، كونهما محورتان (V.I.P)… أما الثالثة التي يقودها “الملازم عثمان” ويعاونه “مذكور فليّح”، فهي ذات مقاعد إعتيادية لا يُعقل أن يمتطيها السيد الرئيس والوزراء!! وأنا شخصياً لا أدري إنْ حصل عُطل كهربائي أصاب الطائرة الثالثة التي إحتضنت الصحفيين التي يفترض أن أقلعت بعدنا.
أنــا:- شكراً جزيلاً على هذا الإيضاح الوافر، وسأبلغ “الأخ محمود” بما تفضلتَ به.
المقدم الركن فاضل:-  كلاّ -يا صبحي- فمجرد التبليغ لا يكفي، بل سأستدعي هذا الضابط من وحدته لأستفسر منه من أين أتى بهذا الكلام الخطير الذي يتحدث به هنا وهناك!! كما سأستدعي الطيارين الثلاثة معه لأتفهّم منهم موضوعة العطل لأني لم أعلم به في تلك الليلة.
أنــا:- والله حسناً تفعل سيدي العزيز، وأتمنى أن تستدعيني معهم… والآن فلنطرح موضوعة الأحاديث المتمحورة حول ((الطيران الليلي)) الذي يُقال أن الطيارين لم يتأهبوا له ولم يمارسوه سابقاً، ولم يعدوا خطة ملاحة ليلية للعودة إلى “البصرة”!!!.المقدم الركن فاضل:- صحيح ما يُثار حول هذا، وحسب متابعاتي فإن رئيس المجلس التحقيقي العسكري “عقيد الجو الركن زيدان” قد ألحّ مع الطيارين على هذه النقطة كثيراً، ولكني لا أمتلك معلومات مُسبقة عن مدى خبرة الطيارين في هذا الشأن كونه من مسؤوليات قيادة القوة الجوية… إلاّ أني صادفتُ البعض من حالات التنقـّل ليلاً بالهليكوبترات لدى تأخرنا في المرات السابقة، ولم نـَلقَ معضلة تـُذكَر.
أنـا:- هل تدخّلتَ أنت في هذه الموضوعة مع الطيارين؟؟
المقدم الركن فاضل:- لم أتدخّل بشكل مباشر كونه شأناً يخصّ الطيارين، إلاّ أن السيد “العميد زاهد” تحدث مع “النقيب خالد” بعد توجّه السيد الرئيس إلى “ملعب القرنة”، فأوضح قائلاً:-
((سيدي لماذا تشغل بالك؟؟ فعودتنا من “القرنة” إلى “البصرة” أشبه بالطيران النهاري، فالمسافة لا تعدو (70) كلم، إذْ حالما نقلع حتى تكون “البصرة” أمام ناظرَينا، فنتوجه نحوها في طيران مستقيم حوالي (20-25) دقيقة)).
أنــا:- أقلّ ما يمكن أن يُقال عنه أن “النقيب خالد” قد إستهان بمن يحمله من شخص رئيس الجمهورية وصحبه، وإستخفّ بالمهمة الملقاة على عاتقه.
والآن يا سيدي فلنعرّج على الأهم… كيف وقع الحادث؟
المقدم الركن فاضل:- صعد “المقدم الركن قاسم حمودي” -آمر موقع البصرة العسكري- إلى مقصورة القيادة وجلس في مقعد “معاون الطيار”، فيما جلستُ مع الآخرين في جوف الطائرة وربطنا الأحزمة… وبعد إقلاع طائرة السيد الرئيس بقيادة “النقيب خالد” في تمام الساعة السابعة إلاّ عشر دقائق فقد تبعتها طائرتنا مباشرة.
وبعد طيران هادئ دام أقل من (10) دقائق، فوجئنا بمطبات هوائية (BUMPY) قوية جعلتنا نهتزّ بعنف شديد لم أُصادفه من قبلُ، حتى إستشعرتُ بأن طائرتنا أشبه بسيارة تسير وسط منطقة ملأى بالصخور، فتدفـّق وابل من الغبار إلى جوف الطائرة قبل أن نتخلـّص من تلك المطبّات الهوائية.حلـّقنا بهدوء مجدداً لبضع دقائق حتى جاء الأنكى والأمَرّ وقتما صادفتنا مطبّات متلاحقة أشدّ من سابقتها، فأمست طائرتنا تدور حول نفسها إلى جميع الإتجاهات وتتقلـّب متأرجحة وتنهوي بسرعة هائلة نحو الأرض، حتى غدونا نصرخ ((يا ستـّار.. يا الله.. يا الله)) حتى خرجنا من تلك الدوامة لنعود إلى أجواء هادئة وسماء صافية حائمين في أجواء أهوار واسعة، ووجدتُ معظم الركوب وقد تقيّأوا على ملابسهم وقاع الطائرة.
وفي حين إستشعر البعض بالغثيان، فإن طائرتنا لم تعد تحلـّق بخط مستقيم، بل غدت تدور يميناً وشمالاً فترة طويلة من دون أن نعرف السبب الكامن وراء ذلك، وما يجري في مقصورة القيادة المنفصلة في تصميمها عن الجوف، حتى هبطنا أرضاً حوالي الساعة (7,30) مساءً لأسمع “الطيار منذر” قبالتي صارخاً بأعلى حنجرته:- ((سيدي.. سيدي.. طائرة المشير ضاعت!!!)).قذفتُ بنفسي على الأرض لأكتشف أننا لم نصل “البصرة” بل عدنا إلى “القرنة” التي سبقنا إليها “الطيار عثمان نوري” بالطائرة الثالثة، وبعد دقائق من الذهول الذي أصابني تمالكتُ أعصابي لأؤدي واجباتي وسط هذا الموقف العصيب، فقد أصبحتُ فجأة المسؤول الأول عن إدارة هذه الأزمة لكوني بمنصب “مقدم لواء الحرس الجمهوري”.
وبينما أقلع “منذر” حائماً في سماء “القرنة” يدور بها في كل الإتجاهات لعشرات الدقائق بشكل متواصل باعثاً إشارت ضوئية بـ”البروجكـتر” علـّه يحظى بصوت “النقيب خالد” فيُدلّيه نحونا، فقد بادرتُ بعد نصف ساعة باعثاً برقية فورية مُشفـّرة إلى شخص السيد آمر لواء الحرس الجمهوري “العقيد الركن بشير الطالب” لأعلمه بموقفنا الخطير.
ساد الإضطراب ساحة “ملعب القرنة” الـمُنار بالبروجكترات وسط إرتباك الجميع وقلقهم، وإنتشرت السيارات حوالي الملعب وفـَتـَحَت أضواءها العالية، وأشعل البعض من الأهالي مشاعل فوق سطوح منازلهم عسى أن تهتدي الطائرة التائهة نحونا، بينما إسرَعَت عشرات أُخرَيات نحو الطرق الترابية والزراعية خارج المدينة على أملين العثور على شيء.
وفور هبوطه أسرع “منذر” إلى الهاتف الأرضي مُهاتفاً “مطار البصرة الدولي” طالباً منهم إنارة مدرج الهبوط علّـها تساعد “النقيب خالد” في التوجّه نحوهم، وكذلك عمل مع “قاعدة الشعيبة الجوية” ليُعلمهم بمجريات الأمور ويُخبروا آمرها “المقدم الركن خالد حسين ناصر” بها.
أنـا:- وهل بقيتم في “القرنة” تلك الليلة؟؟
المقدم الركن فاضل:-  كلاّ بالطبع.. ففي حوالي الساعة التاسعة ليلاً وبعد أن تراجعت آمالنا أسرعنا بالعودة إلى “البصرة” بعدد من السيارات الرئاسية متوجّهين إلى “فندق شط العرب” الذي كان معظم المدعوين لمأدبة العشاء الموعودة من كبار الموظفين ووجهاء المدينة قد غادروه بعد أن سَرَتْ بينهم “إشاعة” فقدان الطائرة.
أنـا:- ولماذا عدتم بالسيارات من دون الهليكوبترات؟؟
المقدم الركن فاضل:- كان ذلك بقرار من آمر القاعدة “المقدم الطيار خالد” بعدم الطيران ليلاً كإجراء إحترازي، وبقاء الهليكوبترَين في “القرنة” حتى الصباح.
أنـا:- من حقـّه ذلك.
المقدم الركن فاضل:- وفي إدارة الفندق كان “الدكتور محمد ناصر”-وزير الثقافة والإرشاد- مجتمعاً مع “اللواء الركن عبد المجيد سعيد”-مدير عام الموانئ العراقية- بحضور مديرَي شرطة وأمن “البصرة” وقد هاتفوا رئيس الوزراء “الأستاذ عبد الرحمن البزاز” ووزير الدفاع “اللواء الركن عبدالعزيز العقيلي” ساردين على مسامعهما تفاصيل الأمور، وذلك قبل أن نقرر الإنتقال الى ديوان المتصرفية/المحافظة لنتّخذه مقراً لإدارة الأزمة.
وفيما أُدْخِلَتْ عموم القوات المسلحة بالإنذار تحَسّباً لأي إحتمال قائم، فقد صدرت الأوامر ليلاً إلى الزوارق السريعة التابعة لمصلحة الموانئ ومديرية الشرطة النهرية، وكذلك الى عدد من  سيارات الإسعاف والسيارات العسكرية ومفارز الشرطة والأمن والإستخبارات، للإنتشار في البقاع الفاصلة بين “البصرة والقرنة” وفي الأعماق، فقد تطوّعت “شركة نفط البصرة” البريطانية بإطلاق إحدى طائراتها في تلك الليلة للتحليق في أجواء المنطقة عموماً وإستطلاعها، ولكن دون جدوى أيضاً.وفي تلك الساعات كذلك، تمت مهاتفة المخافر الحدودية للعراق مع “إيران”، وبشخص “القنصل العراقي” في مدينة “المحمرة/خُرمْشَهر”، وقيل له أن هليكوبتر تحمل “شخصيات عراقية مهمة” قد ظلّت طريقها، ولربما تكون قد دخلت الأجواء الايرانية… ولكننا لم نتـَلـَقَّ جواباً.
أنـا:- ومع تضاؤل فرص العثور على الطائرة سالمة، هل تعلـّقتم بأمل ما؟؟
المقدم الركن فاضل:- أمل يتيم أوحد ليس إلاّ، وهو إحتمال ضئيل أن تكون الهليكوبتر قد هبطت إضطرارياً في مكان ما بشكل عَطـَّلَ جهازها اللاسلكي فلم يعد بإقتدارهم تحقيق أي إتصال معنا.
أنـا:- وما دور قاعدة الشعيبة في تلكم الساعات؟؟
المقدم الركن فاضل:- في الواقع لم يكن بمقدورها أداء أي دور يُذكَر في تلك الليلة، فالطائرات المتوفرة لديها -بما فيها المقاتلات “ميك-21”- كانت من الطرز القديمة غير المصممة للطيران الليلي إطلاقاً… ولـمّا علمتُ من الأخ آمر القاعدة “”المقدم الركن خالد حسين ناصر” أن طائرة نقل عسكرية ضخمة من طراز “آنتونوف-12/أوكرايينا” قد أقلعت من “بغداد” في طريقها إلينا، فقد سارعتُ بالإنتقال وبصحبتي السيد “عبدالعزيز بركات” -السكرتير الصحفي للسيد الرئيس- لنكون في مقر القاعدة، حتى هبط قائدها “الرائد الطيار محمد إبراهيم أدهم” بعد أن كان قد حام لأكثر من ساعة بإرتفاع منخفض للغاية وبأبطأ سرعة ممكنة في أجواء البقاع الفاصلة بين “القُرنة” و”البصرة” موجّهاً “بروجكترات” طائرته نحو الأرض من دون أن يلاحظ شيئاً، وتهيأ للإقلاع فجراً أُسوةً بطياري (9) طائرات مقاتلة.
أنـا:- فإنتظرتم حتى الصباح لتباشروا بالعمل.
المقدم الركن فاضل:- كلاّ ليس صباحاً بل فجراً، فطيارو المقاتلات (ميك-21) تهيّأوا للإقلاع مع الضياء الأول بحدود الساعة الخامسة فجراً… أما طائرة النقل التي إمتطيتها برفقة “المقدم الطيار خالد حسين ناصر” ومعنا الأخ “عبدالعزيز بركات” ومصور تلفزيزني، فقد أقلعنا بها قـُبَيل المقاتلات بدقائق في طريقنا نحو “القـُرنة” بإرتفاع منخفض وسرعة بطيئة للغاية في حوم إستطلاعي لم يطـُل سوى نصف ساعة حتى شاهدنا حطام الهليكوبتر المنكوبة وقد تناثرت أجزاؤها مع الأجساد وسط أرض قاحلة جرداء على بعد عدة كيلومترات من قرية “النشوة” التي تفصلها حوالي (25) كلم عن مدينة “القرنة”.        حاول “الرائد الطيار محمد أدهم” بعد العديد من الدورانات الهبوط على مقربة من الحطام، ولكنه خشي من هشاشة الأرض وعدم تحمّلها ثقل طائرته الضخمة، فقررنا العودة إلى “قاعدة الشعيبة” التي هبطت فيها الهليكوبتران بعدنا بدقائق، فأسرعنا بإمتطاء إحداها، فأقلع بها “الملازم الطيار مذكور الرُبَيعي” حالما ثبت الإحداثيات التي حدّدها “الرائد الطيار محمد أدهم” لموقع سقوط الهليكوبتر على الخريطة.
مشاهدات في موقع الحادث
صعد آمر القاعدة شاغلاً مقعد معاون الطيار، فيما جلستُ و”الرائد الطيار محمد أدهم” والسيد “عبدالعزيز” والمصور التلفزيوني والطياران “منذر سليمان وعثمان نوري” في جوفها مُسرعين إلى موقع الحادث، والذي هبطنا بالقرب منه بحدود الساعة (6,30) قـُبَيلَ وصول رئيس المجلس التحقيقي العسكري وأعضاؤه بهليكوبتر (مي-4)، وقبل أن يحضر “القاضي سالم محمد عزّت” رئيس “هيئة التحقيق القضائي” بصحبة قضاة آخرين وطبيبين ومحققين ومصورين بالسيارات.
كان المنظر مُرَوّعاً ومأساوياً وأجهشتُ مع الجميع بالبكاء المرير، في حين صرخ “مذكور فليح” بمرارة وهو يلطم بكفـّيه على رأسه:-((سيدي… يا سيدي… ماتوا كلهم… ماتوا يا سيدي)).
 وبين حطام الطائرة المنكوبة وجسمها المحترق الذي تحوّل إلى كتلة من الرماد، وسط بقعة واسعة.. وبدموع منهمرة غدونا نتفقـّد الجثث في سبيل تشخيص أصحابها.
كان السيد الرئيس “عبدالسلام” واضح المعالم وهو الأقرب إلى كتلة الرماد، مُنكفِئاً على وجهه ملاصقاً بالأرض، وقد تمزّقت سترته.أما السيد “اللواء عبداللطيف الدراجي” فقد كان بكامل ملابسه وأبعد الجميع عن نقطة الإصطدام وقد زحف بضعة أمتار.. فيما كان الوزير “مصطفى عبدالله” قريباً من السيد الرئيس، وإلى جانبه “العميد المهندس عبدالهادي حافظ”.
أما السبعة الآخرون، فلم يستطع أحد تشخيصهم فقد تحوّلوا إلى كتلة من الأشلاء المتشابكة.
ولـمّا عايَنَ المحققون عدداً من ساعات الصَرعى، وجدوها متوقـّفة عند الساعة (7,10)، أي أن الحادث وقع بعد (20) دقيقة فقط من مغادرتهم “القرنة”.
أنـا:- لا حول ولا قوة إلاّ بالله.
المقدم الركن فاضل:- وحالما إنتهى المحققون من أعمالهم، كان علينا الإسراع في نقل الجثامين إلى “البصرة” كي لا تتعرض لحرارة الشمس فتتفسّخ، فتم ذلك بسيارات إسعاف جاءتنا من المستشفيات.أنـا:- سيدي العزيز… لماذا لم يشركوك في التحقيق؟؟المقدم الركن فاضل:- هناك سببان… أولهما أنه لا يجوز أن يكون من عاش الحدث ان يُشرَكَ في التحقيق، بل يُكتـَفى بشهادته فحسب… وثانيهما أن عليّ الإسراع في العودة إلى مقر لواء الحرس لأداء واجباتي في ظروف دخول وحداتنا بأقصى درجات الإنذار، ناهيك عن الإستحضار لمراسيم التشييع التي تجعلني منشغلاً كثيراً ولا يمكنني التفرّغ لأمور التحقيق.
أنـا:- هل تأكدتم من عدم وجود متفجرات تسببت في سقوط الطائرة أو ربما أُستـُهدفت بسلاح أرضي؟؟ مع العلم أني إلتقيتُ خبير المتفجرات لدى مدرسة الهندسة العسكرية “الملازم أول أحمد بهجت” قبل أيام، وقد أكّدَ عدم عثورهم على أي دليل.
المقدم الركن فاضل:- نعم، فقد أُخِذَت عَيِّنات من موقع الحادث وأجرِيَتْ عليها تحاليل معمّقة بإشراف الأخ “أحمد بهجت” الذي قدّم لي تفاصيل التحاليل التي أثبتت إنعدام أيّ إحتمال من هذا القبيل.
أنــا:- معذرةً يا سيدي، لقد أطلتُ عليك كثيراً، وهذا سؤالي الأخير… فبعد كل هذا الإسهاب الذي تـُشكَرون عليه، لا بد أن تبدي قناعتك الشخصية، هل كان مجرد ((القضاء والقدر)) وراء سقوط الطائرة؟؟ أم ما زالت في أعماقك شكوك تراودك؟؟
المقدم الركن فاضل:- ((قضاء وقدر)) ولا يوجد سواهما، فقد وقعنا وسط “دوامة عاصفة” لم يكن بإستطاعة الطيارين مشاهدتها ليلاً، ولا أدري كيف تخلـّصت طائرتنا منها، فلو كنا قد غادرنا “القرنة” في وضح النهار لكان بإمكانهم رؤيتها ليحيدوا عنها… ولكن تظل هناك ظروف محددة وحالات تقصير إقترفها البعض… ومنها:-
1.   حضور السيد الرئيس في “ملعب القُرنة” وإطالته اللقاء مع الجماهير لـما بعد غروب الشمس، والإقلاع نحو “البصرة” بعد حلول الظلام.2.   عدم إبداء الطيارين رأيهم الصريح بصعوبات الطيران ليلاً ومحدودية جاهزيتهم له.3.   جلوس السيد الرئيس مع “النقيب خالد” في مقصورة القيادة، وعدم وجود معاون طيار ربما كان يتحكّم بالطائرة في هكذا موقف. القنبلة التي فجّرها المقدم الركن فاضل
أنـا:- والله -يا سيدي- فقد أخجلتني بتخصيص (3) ساعات متلاحقة من وقتك الثمين للحديث معي، فهذه شهادة تأريخية من لدنك، والله يحرسك ويقيك من كل مكروه.
المقدم الركن فاضل:- بارك الله بجهودك وبالتوفيق بعونه تعالى.
ولكن ما دمتَ تلهث وراء الحقيقة وأنتَ في مقتبل العمر، لذلك سوف أبوح لك سراً لا تـَبُح به لأحد بشكل مطلق.أنـا:- أعدك وأقسم بذلك ما دمتَ ترغب.
المقدم الركن فاضل:- “خالد محمد نوري” لا يصلح طياراً!!!!!!!!!!؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟أنـا (مستغرباً):- ماذا تقصد يا سيدي؟؟؟ وأخشى أنك تتمازح… كيف لـ”نقيب طيار” -وقد سجلّ مئات الساعات من الطيران- أن لا يصلح طياراً؟؟؟؟؟؟!!!!!!
المقدم الركن فاضل:- نعم، سأوضح لك الموضوع من حيث الأساس… فقد كتب ((الإنكليز)) -المعروفون بحذاقتهم ودقـّتهم- بتأريخ (12/حزيران/1958) بحق “الطالب خالد محمد نوري” -إلى جانب (3) تلاميذ كانوا موفدين معه- إثر إخفاقهم بدورة الطيران العملي لدى كلية القوة الجوية البريطانية تقارير متنوعة… وقد إطلعتُ بعد الحادث لدى “شعبة إدارة القوة الجوية” على ما كتبوه بحق “خالد”، ما مفاده:-((حسن الأخلاق والطبائع والتصرفات والهندام، منتظم، مطيع للأوامر… وإلخ، إلاّ أنه صاحب ذكاء متوسط يتميز بردود فعل بطيئة عند اللزوم… ولذلك لا يصلح أن يكون طياراً))
عاد التلاميذ الأربعة من “إنكلترا” وتقرر إلحاقهم لدى كلية قوتنا الجوية لتدريبهم على الخدمات الأرضية ليصبحوا ضباط (سيطرة، مخابرة، أسلحة) بالمطارات العسكرية مستقبلاً.
ولكن ضربة حظ -لم تخطر على بالهم- أسعفتهم بعد شهر واحد فقط حينما وقعت حركة (14تموز1958)، فرفعوا عرائض للزعيم “عبدالكريم قاسم” زعموا فيها أن “الإنكليز المستعمِرين” قد أفشلوهم لكونهم (عراقيين وطنيين تضادّوا مع الإستعمار والإمبريالية)!!! فأمر “الزعيم قاسم” بإعادتهم فوراً إلى الطيران العملي لدى الكلية ذاتها، ومن المحتمل أن كانت هناك مجاملات في هذا الشأن الخطير… ورغم ذلك فشل “خالد” في أن يضحى طياراً على الطائرات المقاتلة فحُوِّلَ إلى الهليكوبترات.
أنـا:- هذه بمثابة ((قنبلة)) فجّرتـَها يا سيدي، ومن المؤكّد أن لا تـُذكَر أمام التحقيقات الجارية بحق الحادث… ومن المؤسف أن السياسة التي أُقحِمَت في جيشنا وترسّخت بأوساط قواتنا المسلحة تسبّبت بنكبات بحق مهنيّة الجيش وحِرَفيّته، فالنقيب “خالد” لم يودي بحياته فحسب بل بشخص رئيس جمهورية سيكون لغيابه عن قيادة العراق آثار وذيول إلى أجل غير مسمّىً… ومن المحتمل كثيراً أن يكون لوصفه ((يتميز بردود فعل بطيئة عند اللزوم” في ذلك التقرير الصادر بحقه قبل (8) أعوام أثر كبير في سقوط طائرته، وقتما دخلت وسط دوامة هوائية من حيث عدم إقتدار “النقيب خالد” تدارك الأزمة برد فعل فوري لإنقاذها، بل إستنجد فوراً بالطيار “منذر سليمان” قائد الهليكوبتر الثانية -التي كنتَ أنتَ في جوفها- صارخاً:- ((ولك منذر.. ولك عيني إلحَكْني.. أنا بخطر))!!!
                        ((إنتهت تفاصيل الشهادة)