23 ديسمبر، 2024 5:46 ص

ساطع الحصري: مؤسس الايديولوجية العنصرية الطائفية في العراق

ساطع الحصري: مؤسس الايديولوجية العنصرية الطائفية في العراق

سواء كان المفكر القومي العربي ساطع الحصري (1879- 1968) سوريّاً أو قوقازيّاً أو تركيّاً؛ فإنه هو وأبوه، كانا من كبار موظفي الدولة التركية العثمانية، ومندوبين لها في أكثر من بلد أوروبي وعربي، ومقاتلين متعصبين من أجلها ومن أجل القومية التركية الطورانية. ورغم ذلك؛ فالحصري يعد أحد أبرز مؤسسي الايديولوجيا القومية العربية المعاصرة. وهنا تكمن المفارقة، التي لاتقتصر على الحصري، بل تشمل أغلب القوميين العرب المؤسسين، الذين كانوا عثمانيين متعصبين لتركيا وجنرالات في جيشها، ثم أصبحوا خلال العقد الثاني من القرن العشرين عملاء للانجليز ودعاة للايديولوجيا القومية العربية، بعد بروز مظاهر انهيار الدولة العثمانية.
ظل ساطع الحصري حتى كهولته عثمانياً متعصباً، يدعو الى سياسة التتريك وتحويل الشعوب العثمانية الى شعوب تركية، بمن فيها الشعوب العربية، وذلك من خلال تحويل الاحتلال التركي للبلدان العربية، من احتلال الى حضور لغوي وقومي محلي، لضمان استمرار الاحتلال التركي الى الأبد، مستفيداً بذلك من فكرة الفتوحات الإسلامية التي حوّلت الشعوب غير العربية الى ناطقة باللغة العربية، ثم عربية بالانتساب والثقافة.
وتعلّم الحصري اللغة العربية في العاصمة اليمانية صنعاء التي ولد فيها، لكنه بقي يتكلم العربية بلهجة تركية نافرة حتى وفاته، وكان من كوادر حزب الاتحاد والترقي التركي، ويمارس عمله السياسي والوظيفي في اسطنبول حتى العام 1920، وهي السنة التي شهدت تنكره لدولته العثمانية وانخراطه في المشروع البريطاني؛ إذ ظل الحصري حتى العام 1920 معادياً لما سمي بـ (الثورة العربية ضد الدولة العثمانية)، والتي حضّر لها البريطانيون، وسلموا قيادتها الى الشريف حسين وابنه فيصل في العام 1916.
وقد نجح الإنجليز في أغراء ساطع الحصري بالمناصب والمستقبل السياسي الزاهر، مستغلين خلافه مع قادة حزبه الحاكم في تركيا (الإتحاد والترقي)، وأقنعوه بأن الدولة العثمانية وسلطنتها ستنهاران، ولامستقبل له فيهما؛ فتحوّل ولاؤه، بقدرة قادر، من الهلال العثماني الى الصليب الانجليزي، حاله حال كثير من العثمانيين من ضباط الجيش التركي وموظفي الدولة العثمانية، الذين خانوا أولياء نعمتهم الأتراك في المرحلة نفسها، وتحوّل ولاؤهم الى الإنجليز، أمثال: نوري السعيد (تركماني) وجعفر العسكري وعبد المحسن السعدون وعبد الرحمن الكيلاني (ايراني) وياسين الهاشمي (تركي) وتوفيق السويدي وناجي السويدي وناجي شوكت (داغستاني) وحكمت سليمان(شركسي) وجميل المدفعي وعلي شوكت الأيوبي (كردي) ورشيد عالي الكيلاني (ايراني) وطه الهاشمي (تركي) وحمدي الباججي ومزاحم الباججي وأرشد العمري، وهم العثمانيون الذين ترأسوا الوزارات العراقية طيلة العهد الملكي، الذي حكمته العائلة الأجنبية المستوردة من الحجاز.
وطلب الإنجليز من ساطع الحصري الرحيل الى دمشق للالتحاق بأمير سوريا فيصل بن الشريف حسين، الذي عيّنه مديراً للمعارف (وزيراً للتربية). وبقي الحصري مع فيصل بعد هروبه من سوريا، ثم التحق به في العراق بعد أن منح الإنجليز عرش العراق لفيصل، حسب الاتفاق معه ومع أبيه الشريف حسين؛ ثمناً لعمالتهما للإنجليز خلال الحرب العالمية الأولى، وقيادتهما ما سمي بالثورة العربية ضد العثمانيين.
ويمكن تلخيص الأسباب التي اضطرت ساطع الحصري الى التحول من تركي متعصب الى عربي متعصب، بما يلي:
سعيه الحثيث للتغطية على تاريخه التركي العنصري، من أجل أن يجد قبولاً لدى النخب العربية والوطنية الحقيقية، الذي تختزن في ذاكرتها أوجاعاً تراكمية من الاحتلال العثماني وممارساته الوحشية والعنصرية.
الانهيار التدريجي للدولة العثمانية، وتمكن الفرنسيين والإنجليز من السيطرة على البلدان العربية في إطار معاهدة “سايكس ــ بيكو”، وهو ما جعل ساطع الحصري ينفض يديه من تركيا، ويراهن على الإنجليز ومشروعهم في المنطقة لضمان مستقبله السياسي والوظيفي والثقافي.
استشعاره بأن موقعه البديل عن تركيا هو البلدان العربية، وتحديداً سوريا والعراق، ومن ثم مصر، ولذلك لابد أن يكون له حضوره السياسي والثقافي والفكري، ولن يتأتى له ذلك إلّا من خلال مشروع ايديولوجي يتناغم وعواطف النخب العربية المتطلعة للتحرر من الاستعمار والنماء الوطني.
ولذلك؛ هرب ساطع الحصري من تاريخه العنصري التركي الى واقع مفارق ومناقض ومعاكس تماماً، وهو ما يكشف عن ذكاء عميق، وقدرة فائقة على استغفال الآخرين؛ فأسس في العراق للايديولوجية العنصرية الطائفية (العربية السنية)، وزرعها في عقل الدولة العراقية (دولة العرب السنة) ومفاصلها، وبالأخص في مناهج التعليم والاجتماع السياسي والثقافي العراقي، وعمل على تحويل العروبة من رابطة نسبية ولغوية كريمة يعتز بها العربي، لأنها لغة القرآن ولغة الرسول ولغة الدين، الى ايديولوجية قومية سياسية طائفية تزدري الآخر القومي والمذهبي وتهمشه، وتدعو الى وحدة الجماعة اللغوية العربية (الناطقين بالعربية) على أساس معيار أفضلية الجنس العربي على القوميات الأخرى. وقد اعتمد ساطع الحصري على الأيديولوجية النازية الألمانية في التأسيس لنازيته العربية، وخاصة أفكار “يوهان فيخته” و”فان دن بروك” و”مارتن هايدغر” و”أوسفالد شبنغلر”. ومن يراجع أقوال الفيلسوف النازي “فان دون بروك”، سيجد أن ساطع الحصري نسخها كما هي، بعد أن رفع كلمة ألمانيا والأمة الألمانية، ووضع مكانها الوطن العربي والأمة العربية.
وتقوم ايديولوجيا ساطع الحصري القومية على احتقار الآخر القومي والمذهبي غير العربي وغير السني، وتعمّد السخرية منه، والتعالي على باقي القوميات غير العربية والطوائف غير السنية، وتعتبر الأوطان التي تسكنها أغلبية ناطقة باللغة العربية هي ملك العرب جميعاً، وتخضع لحكم قوميتهم المتفوقة، كما كانت النازية تعد الجنس الجرماني الآري هو الأفضل والمتفوق. وبالتالي؛ لم يكن الحصري يعترف بالوطن ولا باستقلال العراق السياسي والقانوني عن باقي العرب، بل يعد الوطن هو كل البلاد التي تسكنها أغلبية ناطقة بالعربية، وكان يعتبر الحضارات السومرية والبابلية والسوريانية والآرامية والفرعونية، حضارات ميتة لاينبغي إحيائها والانتساب اليها، وكذا كل الحضارات المحلية، لأن ذلك يتعارض مع الايديولوجيا القومية العربية وامتلاك العرب لهذه البلدان.
وقد عبّر الضابط العثماني فخري البارودي عن فكرة الحصري بقصيدته: ((بلاد العرب أوطاني.. من الشام لبغدان)). والمفارقة أن سيرة البارودي تشبه سيرة الحصري وتتزامن معها؛ ففخري الباردوي سوري أيضاً، وكان هو وأبوه وجده موظفين كبار في السلطنة العثمانية، كما كان الباردودي ضابطاً متطوعاً في الجيش العثماني خلال الحرب العالمية الأولى، لشدة تعصبه للأتراك، وحارب الثورة العربية المضادة للدولة العثمانية في أكثر من جبهة، منذ العام 1916، مثله مثل ساطع الحصري، حتى أسره الإنجليز بعد سنتين. وخلال فترة الأسر أقنعه الإنجليز بالعمل معهم، لأن الدولة العثمانية ستنهار، وسينتهي مستقبله السياسي بنهايتها. حينها أرسلوه الى دمشق ليبايع أمير سوريا فيصل بن الحسين، ويعمل معه، الأمر الذي جعل فخري البارودي يتحول، بقدرة قادر، من مقاتل عثماني متعصب الى قومي عربي متعصب، وأنشد القصيدة القومية المذكورة، وهو ما فعله ساطع الحصري أيضاً.
ورغم الانقلاب السياسي والتحول المتعارض في الولاء الايديولوجي والقومي والوطني لساطع الحصري، إلّا أنه وغيره من العثمانيين السابقين وعملاء الانجليز الجدد، ظلوا أوفياء لطائفيتهم السياسية التي ورثوها من هويتهم العثمانية الطائفية، وحافظوا على نظرتهم الايديولوجية للشيعة، بوصفهم مواطنين من الدرجة الثالثة، وكونهم (عجم) وأعداء للأغلبية العربية والعثمانية السنية؛ فقد عمل ساطع الحصري على ربط الايديولوجية القومية العربية بالمذهب السني، كما كان يربط الايديولوجية العثمانية التركية بالمذهب السني الحنفي، وهو الذي زرع في الاجتماع السياسي والثقافي العراقي مفهوم أن كل شيعي (عجمي) حتى يثبت العكس، كما كان الحصري يشيع بأن الشيعة هم حلفاء اليهود، وهذا الحلف يريد الكيد بالعرب على مر التاريخ، وغيرها من المفاهيم الطائفية والعنصرية التي تلقفها البعثيون فيما بعد، وحوّلوها الى ثقافة سياسية وشعبية.
وظلت ثقافة ازدراء الشيعة والكرد في الدولة العراقية الحديثة، منذ تأسيسها في العام 1921 وحتى سقوطها في العام 2003، تقوم ـــ غالباً ـــ على ايديولوجيا ساطع الحصري القومية الطائفية؛ إذ كانت نظرته الى الشيعة في العراق والبلدان العربية تماثل نظرة هتلر الى اليهود في ألمانيا وأوروبا، فيما كانت نظرته الى الأكراد تماثل نظرة هتلر الى الشعوب السلافية. وكان الحصري، الى جانب الملك فيصل ورئيس الوزراء الطائفي عبد المحسن السعدون وراء تسفير مراجع النجف والكاظمية (الإصفهاني والنائيني والشهرستاني والخالصي) الى ايران في العام 1924، تنفيذاً لأوامر المحتلين الإنجليز، وهو أول عملية تسفير للشيعة وعلمائهم في تاريخ العراق الحديث. كما ظل الحصري رافضاً تعيين شاعر العرب الأكبر محمد مهدي الجواهري في سلك التعليم، متهماً إياه بأنه إيراني (عجمي)، لأن الجواهري شيعي، ولديه قصائد يتغنى فيها بطهران وجمالها !!.
وقد أسس ميشيل عفلق ايديولوجيته القومية العربية على قواعد ايديولوجيا ساطع الحصري، وحوّلها الى حزب أطلق عليه (البعث)، وبذلك؛ تفوق عفلق على الحصري في هذا الجانب، لأنه أسس حزباً فاعلاً يتبنى أفكاره ويروّج لها، بينما بقيت أفكار الحصري مجرد ثقافة عامة. ولا شك أن حزب البعث استفاد في عملية تطبيق ايديولوجيا ميشيل عفلق في العراق، من الموروث الثقافي الذي زرعه ساطع الحصري في عقل الدولة العراقية ومفاصلها؛ إذ لاتزال هذه الايديولوجيا القومية السياسية الطائفية فاعلة في جزء مهم من عقل الدولة العراقية ومفاصلها، وفي ثقافة جزء كبير من الشعب العراقي، برغم تغيير النظام بعد العام 2003.